(الصفحة 315)
نحو صحيحة عبدالله بن أبي يعفور الواردة في صفة العدل الخ(1) . لكن في مفتاح الكرامة بعد نقل هذه العبارة قال : الظاهر أنّ الخبر غير صحيح لا في التهذيب
ولا في الفقيه(2) .
والظاهر أنّ منشأ الإشكال في التهذيب هو اشتمال السند على محمد بن موسى الهمداني ، وفي الفقيه اشتماله على أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار ، حيث لم يقع عنه ذكر في الكتب المصنّفة في الرجال حتى يعدل أو يجرح ، مع أنّ التحقيق كما أفاده سيّدنا العلاّمة الاُستاذ البروجردي(قدس سره) يقضي بعدم الاحتياج إليه(3) .
توضيح ذلك : أنّ الكتب الموضوعة في هذا الباب لا تتجاوز عن عدّة كتب ، ككتاب رجال الشيخ ، ورجال الكشي ، وفهرستي النجاشي والشيخ ، وعدم التعرّض في هذه الكتب لبعض الرواة لا يوجب عدم الاعتناء بروايته ; لأنّ كتاب رجال الشيخ لا يكون مشتملا على جميع الرواة ; لأنّ الظاهر أ نّه كان بصورة المسودّة ، وكان غرض الشيخ الرجوع إليه ثانياً لنظمه وترتيبه وتوضيح حال بعض المذكورين ممّن لم يتعرّض لبيان حاله ، كما يشهد لذلك الاقتصار في بعض الرواة على ذكر مجرّد اسمه واسم أبيه ، من دون تعرّض لبيان حاله من حيث الوثاقة وغيرها ، وكذا ذكر بعض الرواة مكرّراً ، كما يتّفق فيه كثيراً مع عدم التعرّض لذكر بعض آخر .
فهذا وأمثاله ممّا يوجب الظنّ الغالب بكون الكتاب لم يبلغ إلى حدّ النظم والترتيب والخروج بصورة الكتاب ، وذلك كان مستنداً إلى كثرة اشتغال الشيخ(قدس سره)
- (1) حكى عنه في مفتاح الكرامة : 3 / 91 .
-
(2) مفتاح الكرامة : 3 / 91 .
-
(3) نهاية التقرير : 3 / 230 ـ 232 .
(الصفحة 316)
بالتأليف والتصنيف في الفنون المختلفة الإسلاميّة من الفقه والأُصول ، وجمع الأحاديث والتفسير والكلام والرجال وغير ذلك من العلوم ، بحيث لو قسّمت مدّة حياته على تأليفاته لا يقع في مقابل كتابه هذا إلاّ ساعات معيّنة معدودة .
وأمّا رجال الكشي ، فالظاهر ـ كما يظهر لمن راجع إليه ـ أ نّه كان غرضه منه جمع الأشخاص الذين ورد في حقّهم الرواية مدحاً أو قدحاً أو غيرهما .
وأمّا الفهرستان ، فالغرض منهما إيراد المصنّفين ومن برز منه تأليف أو تصنيف ، فعدم التعرّض لبعض الرواة فيهما لأجل عدم كونه مصنّفاً ، لا دلالة فيه على عدم وثاقته .
فانقدح أنّ عدم التعرّض في هذه الكتب الأربعة لا يدلّنا على عدم الوثاقة ، بل يمكن استكشاف وثاقة الراوي من طرق أُخَر ، منها : تلاميذه الذين أخذوا عنه الحديث ، فإذا كان الآخذ مثل الشيخ أو الصدوق أو المفيد ، أو غيرهم من الأعلام ، خصوصاً مع كثرة الرواية عنه ، لا يبقى ارتياب في وثاقته أصلاً ، ولأجل ذلك يحكم في المقام بوثاقة أحمد بن محمّد بن يحيى ; لرواية مثل الصدوق والشيخ عنه ، خصوصاً مع كثرة رواياته ، حيث إ نّه كان راوية كتب أبيه بإجازة منه ، فالإنصاف أ نّه لا مجال للمناقشة في مثل هذا السند ، وأنّ ما أفاده العلاّمة الطباطبائي من الحكم بصحّة هذه الرواية في كمال الصحّة ، فافهم واغتنم .
الأمر الثاني : دلالتها ، ونقول : الظاهر أنّ السؤال فيها إنّما هو عن حقيقة العدالة وما هو المراد منها في لسان الشارع ، وإن كان ظاهر عبارته يعطي أنّ السؤال إنّما هو عن الأمارة المعرّفة لها بعد العلم بحقيقتها ، وأنّها هي الملكة النفسانيّة الكذائيّة ، نظراً إلى أ نّها لو لم تكن من الصفات النفسانيّة لما احتاجت إلى الأمارة الكاشفة ، فالسؤال عنها دليل على كونها عبارة عن الملكة .
(الصفحة 317)
وذلك ـ أي وجه كون السؤال عن حقيقة العدالة ـ أنّ لفظ «العدالة» وكذا «الفسق» وإن كان مستعملا كثيراً في صدر الإسلام ، وفي عصر نزول القرآن بل قبله ، وقد ورد في الكتاب العزيز موارد كثيرة استعملت فيها هذه اللفظة ، وكذا مضادّها ، إلاّ أ نّه حيث كانت حقيقتها وما يراد من مفهومها في الاستعمالات الشرعيّة مورداً لاختلاف المراجع في الفتوى للمسلمين في ذلك الزمان ;
كأبي حنيفة وغيره ، حيث إنّ المحكي عن الأوّل كما عرفت (1) أ نّه فسّرها بمجرّد ظهور الإسلام وعدم ظهور الفسق ، وعن غيره تفسيرها بالاجتناب عن جميع الأُمور الّتي تعلّق النهي بها تحريماً أو تنزيهاً ، وارتكاب الطاعات كذلك واجبة
أو مستحبّة ، أراد السائل ـ وهو ابن أبي يعفور ـ الاستفهام عمّا هو المراد منها عند أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين .
وليس مرادنا من ذلك أنّ سؤاله إنّما هو عن المعرّف المنطقي حتى يكون قوله : «بم تعرف» بصيغة المجهول من باب التفعيل ، حتى يورد عليه ـ مضافاً إلى كونه خلاف ظاهر العبارة ، خصوصاً بقرينة قوله(عليه السلام) في الجواب : «أن تعرفوه» ـ بأنّ المعرّف المنطقي إصطلاح خاصّ بين المنطقيين حدث بعد صدور الرواية (2)، بل مرادنا أنّ سؤاله إنّما هو عن مجرّد ما أُريد من العدالة في لسان الأئمّة(عليهم السلام) في قبال مثل أبي حنيفة .
ولا ينافي ما ذكرنا من كون المراد من السؤال ذلك ، قوله(عليه السلام) في الجواب :
«أن تعرفوه بالستر والعفاف» ، نظراً إلى أنّ المعرفة طريق للعدالة لا نفسها ،
- (1) في ص305 .
-
(2) المورد هو السيّد الخوئي في التنقيح في شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد: 264 ـ 265 .
(الصفحة 318)
وذلك لأنّ المعرفة المأخوذة في الجواب إنّما اُخذت آلة لتعريف العدالة وإفادة حقيقتها ، مع أنّ هذا الإشكال مشترك الورود ; ضرورة أ نّه لو كان المراد السؤال عن طريق معرفة العدالة لا نفسها لم يكن الطريق المذكور في الجواب إلاّ الستر والعفاف لا المعروفيّة بهما ، فتدبّر .
اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الأمارة هي نفس المعرفة والمعروفيّة ، والستر والعفاف وكفّ البطن إلخ عبارة اُخرى عن حقيقة العدالة وماهيّتها في لسان الشارع ، وعليه : فيرجع إلى ما ذكرنا ، كما لا يخفى .
وأمّا الجواب ، فقوله(عليه السلام) : «أن تعرفوه بالستر والعفاف إلخ» معناه أن يكون الرجل معروفاً عند المسلمين ، بحيث يعرفونه أو تعرفونه أنتم بالستر الذي هو الحياء ، وبالعفاف الذي هو الحياء أيضاً .
قال في لسان العرب : السِتر ـ بالكسرـ : الحياء ، والحِجر العقل(1) . وقال في لغة عفّ : العِفّة : الكفّ عمّا لا يحلّ ويَجمُلُ ، عفّ عن المحارم والأطماع الدنيّة يعفّ عِفَّة وعَفّاً وعَفافاً وعَفافة ـ بفتح العين ـ فهو عَفيف ، وعفَّ أي كفَّ وتعفَّفَ(2) .
وبالجملة : أن يكون الرجل معروفاً بالكفّ عمّا لا يجمل له بالحياء المانع عن ارتكابه ، وأن يكون معروفاً بكفّ البطن والفرج واليد واللسان عمّا لا يليق بها
ولا يجمل لها ، ومنشأ هذا الكفّ هو الستر والحياء ; لأ نّه معه يتعسّر من الشخص صدور ما لا ينبغي أن يصدر من مثله بحسب المتعارف . فهذه الجملة تدلّ على اعتبار المروءة في العدالة ، كما هو المشهور بين المتأخّرين (3); لأنّها ليست إلاّ عبارة
- (1) لسان العرب : 3 / 243 .
-
(2) لسان العرب : 4 / 376 .
-
(3) رسالة في العدالة للشيخ الأنصاري : 17 .
(الصفحة 319)
عن ترك ما لا يليق بحال الشخص عادة ، وسيأتي البحث عنه إن شاء الله تعالى(1) .
وقوله(عليه السلام) : «ويُعْرَف» الظاهر أ نّه منصوب معطوف على قوله(عليه السلام) : «أن تعرفوه» المنصوب بكلمة «أن» الناصبة ، كما أنّ الظاهر أ نّه بصيغة المذكّر ، كما في الوسائل وغيرها ، والضمير فيه يرجع إلى الرجل الذي يراد معرفة عدالته ، ومعناه حينئذ
أن يكون الرجل معروفاً أيضاً باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار ; من شرب الخمر ، والزنا ، والربا الخ .
وعليه : تكون كلّ واحدة من الجملتين بعض المعرِّف للعدالة ; لأنّ الجملة الأُولى تدلّ على اعتبار المروءة ، والثانية على اعتبار الاجتناب عن الكبائر التي أوعد الله عليها النار ، وليست الجملة الأُولى تمامَ المعرِّف للعدالة ; والثانية دليلا على المعرِّف ; لأ نّه ـ مضافاً إلى كونه خلاف ظاهر العبارة التي هي بصيغة المذكّر كما عرفت ، وإلى أ نّه لا يبقى فرق حينئذ بين المعرِّف والدليل عليه أصلا ـ يلزم
أن لا يكون الدليل دليلا على تمام المعرِّف ; لأ نّه حينئذ لابدّ من حمل المعرِّف على الأعمّ من الأعمال غير اللائقة بحاله عرفاً ، بحيث يشمل غير الجائزة شرعاً أيضاً ، مع أنّ الدليل والطريق ينحصر بخصوص الثانية .
ودعوى أنّ العطف على الجملة الأُولى يلزم منه الاختلاف بين المعطوف والمعطوف عليه ; من جهة أنّ المعطوف عليه هو معرفة المسلمين للرجل ، والمعطوف هو معروفيّة الرجل عندهم .
مدفوعة بأ نّه لا مانع من ذلك ، بل وقع نظيره في الكتاب العزيز في قوله تعالى : {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْـًا إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ