(الصفحة 317)
وذلك ـ أي وجه كون السؤال عن حقيقة العدالة ـ أنّ لفظ «العدالة» وكذا «الفسق» وإن كان مستعملا كثيراً في صدر الإسلام ، وفي عصر نزول القرآن بل قبله ، وقد ورد في الكتاب العزيز موارد كثيرة استعملت فيها هذه اللفظة ، وكذا مضادّها ، إلاّ أ نّه حيث كانت حقيقتها وما يراد من مفهومها في الاستعمالات الشرعيّة مورداً لاختلاف المراجع في الفتوى للمسلمين في ذلك الزمان ;
كأبي حنيفة وغيره ، حيث إنّ المحكي عن الأوّل كما عرفت (1) أ نّه فسّرها بمجرّد ظهور الإسلام وعدم ظهور الفسق ، وعن غيره تفسيرها بالاجتناب عن جميع الأُمور الّتي تعلّق النهي بها تحريماً أو تنزيهاً ، وارتكاب الطاعات كذلك واجبة
أو مستحبّة ، أراد السائل ـ وهو ابن أبي يعفور ـ الاستفهام عمّا هو المراد منها عند أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين .
وليس مرادنا من ذلك أنّ سؤاله إنّما هو عن المعرّف المنطقي حتى يكون قوله : «بم تعرف» بصيغة المجهول من باب التفعيل ، حتى يورد عليه ـ مضافاً إلى كونه خلاف ظاهر العبارة ، خصوصاً بقرينة قوله(عليه السلام) في الجواب : «أن تعرفوه» ـ بأنّ المعرّف المنطقي إصطلاح خاصّ بين المنطقيين حدث بعد صدور الرواية (2)، بل مرادنا أنّ سؤاله إنّما هو عن مجرّد ما أُريد من العدالة في لسان الأئمّة(عليهم السلام) في قبال مثل أبي حنيفة .
ولا ينافي ما ذكرنا من كون المراد من السؤال ذلك ، قوله(عليه السلام) في الجواب :
«أن تعرفوه بالستر والعفاف» ، نظراً إلى أنّ المعرفة طريق للعدالة لا نفسها ،
- (1) في ص305 .
-
(2) المورد هو السيّد الخوئي في التنقيح في شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد: 264 ـ 265 .
(الصفحة 318)
وذلك لأنّ المعرفة المأخوذة في الجواب إنّما اُخذت آلة لتعريف العدالة وإفادة حقيقتها ، مع أنّ هذا الإشكال مشترك الورود ; ضرورة أ نّه لو كان المراد السؤال عن طريق معرفة العدالة لا نفسها لم يكن الطريق المذكور في الجواب إلاّ الستر والعفاف لا المعروفيّة بهما ، فتدبّر .
اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الأمارة هي نفس المعرفة والمعروفيّة ، والستر والعفاف وكفّ البطن إلخ عبارة اُخرى عن حقيقة العدالة وماهيّتها في لسان الشارع ، وعليه : فيرجع إلى ما ذكرنا ، كما لا يخفى .
وأمّا الجواب ، فقوله(عليه السلام) : «أن تعرفوه بالستر والعفاف إلخ» معناه أن يكون الرجل معروفاً عند المسلمين ، بحيث يعرفونه أو تعرفونه أنتم بالستر الذي هو الحياء ، وبالعفاف الذي هو الحياء أيضاً .
قال في لسان العرب : السِتر ـ بالكسرـ : الحياء ، والحِجر العقل(1) . وقال في لغة عفّ : العِفّة : الكفّ عمّا لا يحلّ ويَجمُلُ ، عفّ عن المحارم والأطماع الدنيّة يعفّ عِفَّة وعَفّاً وعَفافاً وعَفافة ـ بفتح العين ـ فهو عَفيف ، وعفَّ أي كفَّ وتعفَّفَ(2) .
وبالجملة : أن يكون الرجل معروفاً بالكفّ عمّا لا يجمل له بالحياء المانع عن ارتكابه ، وأن يكون معروفاً بكفّ البطن والفرج واليد واللسان عمّا لا يليق بها
ولا يجمل لها ، ومنشأ هذا الكفّ هو الستر والحياء ; لأ نّه معه يتعسّر من الشخص صدور ما لا ينبغي أن يصدر من مثله بحسب المتعارف . فهذه الجملة تدلّ على اعتبار المروءة في العدالة ، كما هو المشهور بين المتأخّرين (3); لأنّها ليست إلاّ عبارة
- (1) لسان العرب : 3 / 243 .
-
(2) لسان العرب : 4 / 376 .
-
(3) رسالة في العدالة للشيخ الأنصاري : 17 .
(الصفحة 319)
عن ترك ما لا يليق بحال الشخص عادة ، وسيأتي البحث عنه إن شاء الله تعالى(1) .
وقوله(عليه السلام) : «ويُعْرَف» الظاهر أ نّه منصوب معطوف على قوله(عليه السلام) : «أن تعرفوه» المنصوب بكلمة «أن» الناصبة ، كما أنّ الظاهر أ نّه بصيغة المذكّر ، كما في الوسائل وغيرها ، والضمير فيه يرجع إلى الرجل الذي يراد معرفة عدالته ، ومعناه حينئذ
أن يكون الرجل معروفاً أيضاً باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار ; من شرب الخمر ، والزنا ، والربا الخ .
وعليه : تكون كلّ واحدة من الجملتين بعض المعرِّف للعدالة ; لأنّ الجملة الأُولى تدلّ على اعتبار المروءة ، والثانية على اعتبار الاجتناب عن الكبائر التي أوعد الله عليها النار ، وليست الجملة الأُولى تمامَ المعرِّف للعدالة ; والثانية دليلا على المعرِّف ; لأ نّه ـ مضافاً إلى كونه خلاف ظاهر العبارة التي هي بصيغة المذكّر كما عرفت ، وإلى أ نّه لا يبقى فرق حينئذ بين المعرِّف والدليل عليه أصلا ـ يلزم
أن لا يكون الدليل دليلا على تمام المعرِّف ; لأ نّه حينئذ لابدّ من حمل المعرِّف على الأعمّ من الأعمال غير اللائقة بحاله عرفاً ، بحيث يشمل غير الجائزة شرعاً أيضاً ، مع أنّ الدليل والطريق ينحصر بخصوص الثانية .
ودعوى أنّ العطف على الجملة الأُولى يلزم منه الاختلاف بين المعطوف والمعطوف عليه ; من جهة أنّ المعطوف عليه هو معرفة المسلمين للرجل ، والمعطوف هو معروفيّة الرجل عندهم .
مدفوعة بأ نّه لا مانع من ذلك ، بل وقع نظيره في الكتاب العزيز في قوله تعالى : {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْـًا إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ
(الصفحة 320)
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِى}(1) . حيث نسب الخوف أوّلا إلى الزوجين ثمّ إلى أهلهما ، وليس ذلك إلاّ لأجل كون مجرّد المعرضيّة كافياً في النسبة ، كما لا يخفى .
وبالجملة : فالظاهر أنّ هذه الجملة جزء أخير من معرّف العدالة ، ومعطوفة على الجملة الأُولى ، وهو مطابق لِما أفاده سيّدنا العلاّمة الاُستاذ البروجردي(قدس سره) على ما قرّرته في كتاب «نهاية التقرير»(2) الذي يشتمل على تقريراته في جلّ مباحث الصلاة ، وقد طبع في ثلاثة أجزاء .
ولكن فيه شيء ; وهو أنّ ذكر المروءة أوّلا في تفسير العدالة ، وبيان حقيقتها قبل ما هو بمنزلة الركن في معناها ـ وهو اجتناب الكبائر بالوصف المذكور فيها ـ ربما لا يلائم مقام التعريف وبيان المعنى، خصوصاًمع ذكر عبارات مختلفة وجهات متنوّعة.
فالأولى أن يقال : إنّ الجملة الأُولى تدلّ على اعتبار كلا الأمرين من المروءة واجتناب الكبيرة ، والجملة الثانية تخصيص بعد التعميم ، وامتيازها إنّما هو من جهة كونها الركن في معناها ، وبها قوام العدالة ، ويؤيّده ـ مضافاً إلى ما ذكرنا ـ تفسير العفّة في اللغة كما عرفت بالكفّ عمّا لا يحلّ ويَجمُلُ ، حيث جمع بين الاجتناب عن غير الجميل والاجتناب عن غير الحلال ، وبناءً على ذلك يكون اعتبار الملكة في العدالة ، ودلالة الرواية عليه واضحاً ; لما عرفت من أنّ الستر والعفاف من الأوصاف النفسية .
وأمّا كفّ البطن والفرج إلخ ، فهو أيضاً يرجع إلى حالة نفسانيّة ; لأ نّه ـ مضافاً إلى
- (1) سورة البقرة : 2 / 229 .
-
(2) نهاية التقرير : 3 / 237 .
(الصفحة 321)
دلالة لفظ «الكفّ» عليها ; لأ نّه ليس مجرّد الترك والاجتناب كما هو ظاهر ـ قد عرفت أنه ليس المراد مجرّد الكفّ في بعض الحالات وبعض الأزمنة بل في جميعهما ، وهذا لا ينطبق إلاّ على وجود حالة مانعة عن ارتكاب الحرام وباعثة على الإتيان بالواجب . وعليه : فقوله(عليه السلام) بعد ذلك : «ويُعرف باجتناب الكبائر» إذا كان تخصيصاً بعد التعميم لابدّ وأن يكون المراد به هو ملكة الاجتناب .
وأمّا بناءً على ما أفاده الاُستاذ(قدس سره) من كون كلّ من الجملتين بعض المعرّف للعدالة ، فدلالة الرواية على اعتبار الملكة في الجملة الاُولى واضحة . وأمّا الجملة الثانية ، فدلالتها عليه مبنيّة على ما ذكرنا من أنّ المعروفيّة باجتناب الكبائر في جميع الحالات لا يكاد ينطبق إلاّ على وجود حالة نفسانيّة وملكة راسخة مانعة عن ارتكابها ، مضافاً إلى أنّ اعتبار الملكة في ناحية المروءة يستلزم اعتبارها في طرف الاجتناب عن الكبيرة بطريق أولى ، فتدبّر .
كما أنّ تفسير الكبائر بالتي أوعد الله عليها النار يشعر بل يدلّ على اعتبار كون الاجتناب ناشئاً لا عن عدم المقتضي ، ولا عن داع نفسانيّ ، بل عن إيعاد الله ـ تبارك وتعالى ـ عليها النار والخوف من ترتّب العقاب عليه ، وعلى ما ذكرنا فدلالة الرواية على اعتبار الملكة في العدالة على كلا التقديرين واضحة .
ثمّ إنّه يشعر بل يدلّ على أنّ العدالة عبارة عن حالة نفسانيّة ، نصب الطريق والدليل عليه في هذه الرواية بقوله(عليه السلام) : «والدلالة على ذلك كلّه» الخ ، ومعناه أنّ الدليل الشرعي والكاشف عن وجود تلك الحالة ، بحيث يكون وجوده كافياً في مقام ترتيب الآثار المترتّبة على العدالة والمرغوبة منها ، أن يكون الشخص ساتراً لجميع عيوبه على تقدير وجودها ، أعمّ من العيوب المنافية للمروءة ، وغير الجائزة شرعاً .