(الصفحة 322)
وثمرة سترها أ نّه معه يحرم على المسلمين تفحّص ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه وتفتيش خلف الساتر ، بل يجب عليهم حينئذ تزكيته وإظهار عدالته في الناس مع سؤالهم عن حاله .
وحيث إنّ المعاصي على قسمين : وجوديّة ; وهو ارتكاب شيء من المحرّمات . وعدميّة ; وهو ترك شيء من الواجبات ، والمعاصي الوجوديّة على تقدير تحقّقها تحتاج إلى الستر الذي به يرائى عدم تحقّقها ; لأ نّه يحرم على المسلمين التفتيش والتفحّص .
وأمّا المعاصي العدميّة ، فيكفي في تحقّقها مجرّد الترك وعدم صدور الفعل ، فلا محالة يحتاج في إراءة خلافها إلى إيجاد الفعل ، فلذا جعل الدليل على خلافها التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهنّ ، وحفظ مواقيتهنّ بحضور جماعة من المسلمين ، وأن لا يتخلّف عن جماعتهم في مصلاّهم إلاّ من علّة .
وتخصيص الصلوات الخمس من بين الواجبات إنّما هو باعتبار كون ما عداها منها ، إمّا أن لايكون وجوبه مطلقاً ، بل مشروطاً بمثل الاستطاعة الماليّة أو البدنيّة ، أو كلتيهما ، أو ببعض الأُمور الاُخر . وإمّا أن لا يكون الشخص قادراً على مخالفته باعتبار إجبار الحاكم إيّاه عليه ، كالزكاة ونحوها ، وما عدا ما ذكر ينحصر في الصلوات الخمس ، فلذا جعل التعاهد عليها دليلا على العدالة ، مضافاً إلى أنّ الاهتمام بها من بين الواجبات بحيث يكون قبولها دائراً مدار قبولها أوجب تخصيصها من بينها ، ويؤيّده قوله(عليه السلام) في الرواية : «لأنّ من لا يصلّي لا صلاح له بين المسلمين» .
وهذا الذي جعله الإمام(عليه السلام) على طبق هذه الرواية طريقاً وأمارة شرعيّة ويرجع محصّله إلى حسن الظاهر مركَّب من أمرين ، كما انقدح ممّا ذكرنا :
(الصفحة 323)
أحدهما : كون الرجل ساتراً لعيوبه حتى لا يطّلع على المعاصي الوجوديّة والقبائح العرفيّة الصادرة منه ـ على تقديره ـ غيره من المسلمين ، بل كان طريق اطّلاعهم منحصراً بالتفتيش والتفحّص عمّا وراء الساتر وهو محرّم عليهم .
ثانيهما : كونه متعاهداً للصلوات الخمس ، ومعنى تعاهده لها إمّا الالتزام بالحضور في جماعات المسلمين حتى يصلّي معهم جماعة لأجل مدخليّتها في قبول الصلاة ، كما يستفاد من ذيل الرواية الدالّ على أ نّه لا صلاة لمن لا يصلّي في المسجد مع المسلمين بعد الحمل على نفي القبول لا نفي الصحّة . وإمّا كون حضوره فيها دليلا على أ نّه لا يتحقّق منه ترك الصلاة ، لا لأجل مدخليّة الجماعة في قبولها ، فالملاك هو نفس الإتيان بالصلاة ، لا هي مع وصف الجماعة .
هذا ما يقتضيه التحقيق في معنى الرواية الشريفة من الجهة التي هي محطّ البحث ، وبه يظهر الخلل فيما أفادوه في هذا المقام ، ولا بأس بالتعرّض للبعض ، فنقول :
منها : ما أفاده بعض الأعاظم من المعاصرين في كتابه في الصلاة ، ومحصّله : أ نّ الظاهر من الرواية بيان معرفة العدالة في الخارج لا بيان مفهومها ، وظاهر السؤال عن طريق تشخيص العدالة أن يكون مفهومها معلوماً معيّناً عند السائل ; لأنّها عرفاً هي الاستقامة والاستواء ، وإذا أطلق الشارع فلا يشكّ في أنّ مراده هو الاستقامة في جادّة الشرع الناشئة من الحالة النفسانيّة ; وهي التديّن الباعث له على ملازمة التقوى . وحيث لم يكن لهذا المعنى أثر خاصّ وكاشف قطعيّ ألجأ السائل إلى أن يسأل طريقه عن الإمام(عليه السلام) ، وهذا بخلاف سائر الملكات ، كالشجاعة والسخاوة وأمثال ذلك ; فإنّها تُستكشف قطعاً عند وجود آثارها الخاصّة ، فعرَّفه الإمام(عليه السلام) الطريق إلى تشخيصها وأجابه بالستر والعفاف إلخ .
(الصفحة 324)
وهذه العناوين المذكورة في الجواب وإن كانت مشتملة على الملكة ، ولكن لا تدلّ على الملكة الخاصّة التي هي التديّن والخوف من عقوبة الله ـ جلّت عظمته ـ التي هي عبارة عن العدالة ، فلا ينافي جعلها طريقاً تعبديّاً إلى ثبوت العدالة .
ثمّ إنّه حيث تحتاج معرفة الشخص بالستر والعفاف ، وأ نّه تارك للقبائح على وجه الإطلاق إلى معاشرة تامّة في جميع الحالات ، وهذه ممّا لا يتّفق لغالب الناس ، فجعل الشارع لذلك دليلا وطريقاً آخر ; وهو كونه ساتراً لعيوبه في الملأ وبين أظهر الناس ، وطريقاً ثالثاً نافعاً لمن ليس له معاشرة مع شخص مطلقاً إلاّ في أوقات حضور الصلاة مع الجماعة ، فمن حضر جماعة المسلمين يحكم بعدالته ، وأ نّه لا يرتكب القبائح الشرعيّة مع الجهل بأحوال ذلك الشخص ، بل لحضوره في صلاة الجماعة ثلاث فوائد :
الاُولى : أنّ ترك الجماعة مع المسلمين بدون علّة بحيث يعدّ إعراضاً عنها من أعظم الذنوب ، فمن تركها كذلك فليس ساتراً لعيوبه ، بل هو مظهر لها .
الثانية : أنّ من لم يحضر الجماعة لا دليل لنا على أ نّه يصلّي .
الثالثة : أنّ حضوره للجماعة دليل شرعاً على كونه تاركاً لما نهى الله عنه وعاملا بكلّ ما أمر الله ـ تعالى ـ به ، وقد أشار إلى كلّ واحد من هذه الفوائد الصحيحة المتقدّمة ، فتدبّر فيها(1) .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ جعل الأمارة المعرّفة للعدالة وبيانها للسائل ، مع جعل أمـارة لتلك الأمارة ومعرِّفاً لذلك المعرّف كما بيّنه(قدس سره) بعيد جدّاً ; لأ نّه لا حاجة إلى جعل الأمارة المعرّفة حينئذ أصلا ، وإلى أنّ مجرّد الحضور لجماعة
- (1) كتاب الصلاة للشيخ عبد الكريم الحائري : 517 ـ 518 .
(الصفحة 325)
المسلمين لا ينافي عدم كونه ساتراً لعيوبه ، فلا معنى لجعله طريقاً في قبال الستر للعيوب ، خصوصاً مع كون ظاهر الرواية هو كون الستر للعيوب ، والحضور لجماعة المسلمين معاً طريقاً ودليلا ، لا كلّ واحد من الأمرين ـ : أ نّ ذلك كلّه خلاف ظاهر الرواية ; فإنّك عرفت أنّ السؤال فيها إنّما هو عن معنى العدالة ومفهومها ; لاختلاف المراجع في ذلك العصر في معناها ، وكان غرض السائل السؤال عمّا يُراد منها عند أئـمّة أهل البيت(عليهم السلام) ، والجواب لا ينطبق إلاّ على ذلك كما حقّقناه .
ثمّ إنّ ظاهر هذا التفسير أ نّه جعل قوله(عليه السلام) «ويُعْرَف باجتناب الكبائر» تتمّة للأمارة الأوّلية وجزءاً للمعرِّف والطريق ، وحينئذ يرد عليه : أنّ ظاهره كون الملكة المانعة عن اجتناب الكبيرة ناشئة عن الخوف والعقاب الذي أوعده الله تعالى على ارتكابها ، وحينئذ فلا يبقى فرق بين العدالة ، وبين الأمارة الكاشفة عنها أصلا ، كما لا يخفى .
ومنها : ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري(قدس سره) في رسالة العدالة في معنى قوله(عليه السلام) : «وتُعرف باجتناب الكبائر» من أنّ الضمير في «تُعرف» إمّا راجع إلى العدالة ; بأن يكون معرّفاً مستقلاًّ ، وإمّا راجع إلى الشخص ; بأن يكون من تتمّة المعرّف الأوّل ، وإمّا أن يكون راجعاً إلى الستر وما عطف عليه ليكون معرِّفاً للمعرَّف ، وقوله(عليه السلام) : «والدليل على ذلك . . .إلخ» معرِّفاً ثالثاً . واستظهر في ذيل كلامه أنّ أظهر الاحتمالات المتقدّمة هو كونه تتمّة للمعرِّف ; بأن يجعل المراد بكفّ البطن والفرج واليد واللسان ، كفّها عن المعاصي الخاصّة التي تتبادر عند إطلاق نسبة المعصية إلى إحدى الجوارح . وحينئذ فيكون قوله(عليه السلام) : «وتعرف باجتناب الكبائر» من قبيل التخصيص بعد التعميم والتقييد بعد الإطلاق ، تنبيهاً على أنّ ترك مطلق المعاصي
(الصفحة 326)
غير معتبر في العدالة(1) .
ويرد عليه : أ نّه لا مجال لجريان الاحتمالات الثلاثة بعد كون قوله(عليه السلام) : «ويُعرف» بصيغة المذكّر كما في الوسائل وغيرها . وعليه : فلابدّ من رجوع الضمير إلى الرجل ، وأن تكون الجملة عطفاً على الجملة الأُولى تتمّة للمعرّف وجزءاً للمعنى والمفهوم . نعم ، المغايرة بين الجملتين ـ بناءً على ما اخترنا ـ إنّما هو بالتخصيص والتعميم من جهتين : من جهة شمول الجملة الأُولى لملكة المروءة ، والاجتناب عن مطلق المعاصي كبيرة كانت أو صغيرة ، واختصاص الثانية بخصوص المعصية الكبيرة .
ومنها : ما أفاده بعض الأعلام في الشرح على العروة ، ويرجع حاصله إلى أنّ الرواية لا دلالة لها بوجه على اعتبار الملكة في العدالة ، بل لا نظر لها إلى بيان حقيقة
العدالة بنفسها أو بلازمها ، وإنّما أوكلته إلى الراوي نفسه ; لوضوح معناها عند كلّ من يفهم اللغة العربيّة ; أعني الاستقامة وعدم الانحراف ، وإنّما سيقت الرواية لبيان كاشفها ومعرّفها ، وقد جعلت الكاشف عنها هو الاشتهار والمعروفيّة والستر وغيرهما ممّا ورد في الحديث ، إذن هي كواشف تعبديّة عن العدالة ، وحيث إنّ معرفة كون المكلّف معروفاً بالعفاف يتوقّف على الصحبة وطول المعاشرة ، فقد جعل(عليه السلام)الاجتناب عن الكبائر طريقاً وكاشفاً عن المعروفيّة بترك المحرّمات والإتيان بالواجبات .
ثمّ إنّ كونه مجتنباً عن الكبائر لـمّا لم يكن أمراً ظاهراً في نفسه ، وكان محتاجاً إلى طول المعاشرة احتاج ذلك أيضاً إلى طريق كاشف عنه ; وهو كون الرجل ساتراً
- (1) رسالة في العدالة للشيخ الأنصاري : 13 ، 15 و16 .