(الصفحة 327)
لجميع عيوبه ، وهذا هو المعبّر عنه بحسن الظاهر ، كما أ نّه جعل الإتيان بالفرائض في المجامع علناً وبمرئى ومنظر من الناس كاشفاً عن أنّ فاعلها مجتنب عن المحرّمات ، بحيث لو لم يتعاهد الفرائض في المجامع لم يحكم بعدالته ، وبعد ذلك لا دلالة في الرواية على اعتبار الملكة في العدالة بوجه ، بل هي بمعنى الاستقامة العمليّة في جادّة الشرع . نعم ، لابدّ وأن تكون مستمرّة وكالطبيعة الثانويّة للانسان حتى يصدق أ نّه مستقيم ; فإنّ الاستقامة في بعض الأوقات دون بعض لا يوجب صدق الاستقامة ، إنتهى ملخّصاً(1) .
وبملاحظة ما ذكرنا في معنى الرواية ينقدح الخلل في هذا الكلام من جهات كثيرة :
من جهة أنّ السؤال في الرواية إنّما هو عن معنى العدالة ومفهومها ، لا عن الأمارة الكاشفة بعد وضوح معناها عند السائل . وعليه : فقوله(عليه السلام) في الجواب : «أن تعرفوه» بيان لحقيقة العدالة وماهيّتها في لسان الشارع .
ومن جهة أنّه على تقدير كون السؤال عن الأمارة ، تكون الأمارة هي نفس عناوين الستر والعفاف وأشباههما ، لا المعروفيّة بهذه العناوين ، وليت شعري أنّه
ما معنى كون الكاشف هو الاشتهار والمعروفيّة والستر وغيرهما ; فإنّ جعل مثل الستر كاشفاً في مقابل الاشتهار والمعروفيّة ممّا لا يتصوّر ; فإنّه إن كان الكاشف هو المعروفيّة ، فلا وجه لكون الستر بنفسه كاشفاً . وإن كان الكاشف هو الستر ،
فلا معنى لكون المعروفيّة كاشفة في مقابل الستر . ثمّ إنّه بعد ما لا تكون الملكة معتبرة في العدالة ـ كما هو مدّعاه ـ لا يظهر وجه لكون مثل الستر والعفاف كاشفاً
- (1) التنقيح في شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 268 ـ 270 .
(الصفحة 328)
عنها ; لعدم المغايرة بين الكاشف والمكشوف عنه أصلا .
ومن جهة دلالة عناوين الستر والعفاف وأشباههما على اعتبار الملكة ، كما عرفت .
ومن جهة أنّ قوله(عليه السلام) : «ويُعرف» تتمّة للمعرّف الأوّل وجزء لمعنى العدالة ومفهومها ، لا أمارة عليها ، بل لا وجه للأماريّة بعد عدم دخالة الملكة في شيء من المعرِّف والمعرَّف ; فإنّه أيّ فرق بين اجتناب الكبيرة ، وبين مثل الستر والعفاف . وإن أُريد بهما المعروفيّة ، فمن الواضح أنّ مجرّد الاجتناب لا دلالة فيه على المعروفيّة أصلا .
ومن جهة أنّ التعاهد للصلوات الخمس لم يجعل في الرواية طريقاً لخصوص الاجتناب عن الكبيرة ، بل هو جزء من الطريق المركّب منه ، ومن كونه ساتراً لجميع عيوبه بالنحو الذي ذكرنا .
ومن غير هذه الجهات الذي لا يكون مخفيّاً على المتأمّل فيما ذكرناه وما أفاده .
في الكبيرة والصغيرة
والكلام في هذا الباب يقع في أمرين :
الأمر الأوّل : صحّة تقسيم المعاصي إلى الكبائر والصغائر ، واختلاف المعاصي من هذه الجهة التي يرجع إلى اتّصاف بعضها بكونها كبيرة مطلقة ، وبعضها الآخر بكونها صغيرة كذلك ، فنقول :
غير خفيّ على الناظر في صحيحة عبدالله بن أبي يعفور المتقدّمة(1) أنّها مشعرة
(الصفحة 329)
بل دالّة على أنّ المعاصي الشرعيّة على قسمين : كبيرة ، وصغيرة . كما أ نّها تشعر بأنّ ضابط الكبيرة هو ما أوعد الله تعالى عليها النار ، بناءً على كون الوصف توضيحيّاً لا احترازيّاً ، كما هو الظاهر .
ويدلّ على ذلك قبل الرواية قوله تعالى : {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَآلـِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّـَاتِكُمْ}(1) . وقوله تعالى : {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَـلـِرَ الاِْثْمِ وَالْفَوَ حِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ}(2) . حيث إنّ الآيتين تدلاّن على اتّصاف بعض المنهيّات والآثام بوصف الكبر ، وبعض آخر بخلافه .
نعم ، تمكن المناقشة في الجميع ; بأ نّه لا دلالة لشيء منها على كون المعاصي على قسمين ، بل غاية مفادها أنّ الأُمور التي تعلّق بها النهي ، وينطبق عليها عنوان الإثم على قسمين ، وحيث إنّ النهي على قسمين : تحريميّ ، وتنزيهيّ ، فيمكن أن يكون المراد بالكبيرة خصوص ما تعلّق به النهي التحريمي ، الشامل لجيمع المعاصي في قبال ما تعلّق به النهي التنزيهي ، وإطلاق السيّئة على المكروه لا مانع منه أصلا ، كما أنّ انطباق الإثم عليه أيضاً كذلك ، ولا يكون في الرواية دلالة على أنّ المضاف إليه في قوله(عليه السلام) : «ويُعرف باجتناب الكبائر» هو خصوص المعاصي ، فلعلّ المراد به المنهيّات التي تكون أعمّ من المعاصي .
ولكنّ الظاهر أنّ هذه المناقشة موهونة ، والاحتمال لا يقاوم ظهور الآيتين والرواية في كون المحرّمات والمعاصي على قسمين : كبيرة ، وصغيرة . ويؤيّده ما عرفت من ظهور الرواية في كون الوصف توضيحيّاً لا احترازيّاً ، وأنّها بصدد إفادة
- (1) سورة النساء : 4 / 31 .
-
(2) سورة النجم : 53 / 32 .
(الصفحة 330)
الضابطة ، ومن المعلوم عدم جريانها في جميع المعاصي والمحرّمات ; لعدم إيعاد الله ـ تبارك وتعالى ـ عليها النار ; لأنّ الظاهر أنّ المراد به هو الإيعاد عليه بالخصوص ، لا الإيعاد بنحو العموم في مثل قوله تعالى : {وَ مَن يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ و فَإِنَّ لَهُ ونَارَ جَهَنَّمَ}(1) الآية .
وأمّا الأصحاب ، فالقدماء منهم لا يظهر من كلماتهم هذا التقسيم أصلا . نعم ، ذكر ذلك الشيخ(قدس سره) في كتاب المبسوط ، حيث قال ـ بعد تفسير العدالة في الشريعة بأنّها عبارة عن العدالة في الدين ، والعدالة في المروءة ، والعدالة في الأحكام ، وبعد تفسير كلّ واحد من هذه الأُمور الثلاثة ـ : فإن ارتكب شيئاً من الكبائر ـ ثمّ عدّ جملة منها ـ سقطت شهادته ، فأمّا إن كان مجتنباً للكبائر ، مواقعاً للصغائر ; فإنّه يعتبر الأغلب من حاله ، فإن كان الأغلب من حاله مجانبته للمعاصي ، وكان يواقع ذلك نادراً قبلت شهادته ، وإن كان الأغلب مواقعته للمعاصي ، واجتنابه لذلك نادراً لم تقبل شهادته . قال : وإنّما اعتبرنا الأغلب في الصغائر ; لأنّا لو قلنا : إ نّه لا تقبل شهادة من أوقع اليسير من الصغائر ، أدّى ذلك إلى أن لا تقبل شهادة أحد ; لأ نّه لا أحد ينفكّ من مواقعة بعض المعاصي(2) .
ولكنّه أورد عليه ابن إدريس بقوله : «وهذا القول لم يذهب إليه(رحمه الله) إلاّ في هذا الكتاب ; أعني المبسوط ، ولا ذهب إليه أحد من أصحابنا ; لأ نّه لا صغائر عندنا في المعاصي إلاّ بالإضافة إلى غيرها ، وما خرّجه واستدلّ به من أ نّه يؤدّي ذلك إلى أن لا تقبل شهادة أحد ; لأ نّه لا أحد ينفكّ من مواقعة بعض المعاصي ، فغير واضح ;
- (1) سورة الجنّ : 72 / 23 .
-
(2) المبسوط : 8 / 217 .
(الصفحة 331)
لأ نّه قادر على التوبة من ذلك الصغير ، فإذا تاب قبلت شهادته ، وليست التوبة ممّا
يتعذّر على إنسان ، ولا شكّ أنّ هذا القول تخريج لبعض المخالفين ، فاختاره شيخنا هاهنا ونصره ، وأورده على جهته ولم يقل عليه شيئاً ; لأنّ هذا عادته في كثير ممّا يورده في هذا الكتاب(1) .
وذهب جماعة اُخرى من القدماء أيضاً إلى أنّ المعاصي كلّها كبيرة (2)، ولكنّ المشهور بين المتأخّرين ، بل المنسوب إلى أكثر العلماء ، أو إلى العلماء ، أو إلى المشهور المعروف ، هو اختلاف المعاصي (3) واتّصاف بعضها بالكبر في حدّ ذاته وبعضها بالصغر كذلك .
والتحقيق أ نّه لا مجال للمناقشة في أصل التقسيم ; لأ نّه ـ مضافاً إلى ما عرفت من دلالة الكتاب والسنّة عليه ـ يدلّ على ذلك أ نّه مع دعوى الإضافة أيضاً لا محالة ينتهي الأمر إلى ذنب أو ذنوب ليس لها فوق ، وهذا الذي ليس له فوق ، كما أ نّه كبيرة بالإضافة إلى ما دونه من الذنوب ، كذلك كبيرة في حدّ نفسها وبقول مطلق ; إذ لا يتصوّر فوق بالإضافة إليه ـ كما هو المفروض ـ حتى يتّصف هذا الذنب بالصغر بملاحظته .
وهكذا الأمر في طرف الصغيرة ; فإنّه مع دعوى الإضافة أيضاً لا محالة ينتهي الأمر إلى ذنب أو ذنوب لم يكن دونه ذنب ، وهذا الذي ليس تحته ذنب ، كما أ نّه
- (1) السرائر : 2 / 118 .
-
(2) أوائل المقالات ، ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد: 4 / 83 ـ 84 ، العُدّة في اُصول الفقه: 1 / 139 ، مجمع البيان: 3 / 67، وراجع الكافي في الفقه: 435 ، والمهذّب: 2 / 556، كما حكى عنهما في مسالك الأفهام: 14 / 166 .
-
(3) مجمع الفائدة والبرهان : 12 / 318 ـ 320 ، مصابيح الظلام : 1/444 ، مفتاح الكرامة : 3 / 89 ، جواهر الكلام : 13/305 .