(الصفحة 368)
الباب هي الصحيحة المتقدّمة الدالّة على أنّ الساتريّة والحضور في جماعة المسليمن كاشف عن العدالة ودليل شرعيّ عليها ، ولم يقع فيها التقييد بما إذا أفاد العلم
أو الظنّ الشخصيّ بتحقّق الملكة وسائر الأُمور المعتبرة .
وقد استدلّ على مختار العروة بروايتين :
إحداهما : مرسلة يونس بن عبدالرحمن ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : سألته عن البيّنة إذا أُقيمت على الحقّ ، أيحلّ للقاضي أن يقضي بقول البيّنة؟ فقال : خمسة أشياء يجب على الناس الأخذ فيها بظاهر الحكم : الولايات ، والمناكح ، والذبائح ، والشهادات ، والأنساب ، فإذا كان ظاهر الرجل ظاهراً مأموناً جازت شهادته
ولا يُسأل عن باطنه(1) . نظراً إلى أنّ توصيف الظاهر بكونه مأموناً مرجعه إلى حصول الوثوق والاطمئنان بكونه مطابقاً للواقع .
والجواب عنه : أنّ المأمونيّة إنّما هي في مقابل الفسق والفجور ، ومعنى الرواية أنّه إذا كان ظاهر الرجل ظاهراً دينيّاً ، عاملا بالوظائف ، مجتنباً عن المعاصي ، فشهادته جائزة ، في مقابل من كان ظاهره الفسق والفجور والإخلال بالوظائف الشرعيّة .
وبعبارة اُخرى : الرواية ظاهرة في أنّ الظاهر على قسمين : أحدهما : المأمونيّة ، والاُخرى : مقابلها ، وليست فيها دلالة بوجه على أنّ من كان ظاهره القيام بالوظائف الشرعيّة ، يجب أن يحصل منه الظنّ بالمطابقة مع الواقع حتى تكون شهادته جائزة ، كما هو ظاهر .
ثانيتهما : رواية أبي علي بن راشد قال : قلت لأبي جعفر(عليه السلام) : إنّ مواليك
- (1) الفقيه : 3 / 9 ح29 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 392 ، كتاب الشهادات ب41 ح3 .
(الصفحة 369)
قد اختلفوا فأُصلّي خلفهم جميعاً؟ فقال : لا تصلّ إلاّ خلف من تثق بدينه(1) ; فإنّ ظاهره اعتبار الوثاقة الشخصيّة بالدين ، أو به والأمانة ، كما في رواية الشيخ .
والجواب : أنّ الوثاقة بالدّين ظاهرة في الوثاقة بكونه إماميّاً إثنى عشرياً
ولا كلام فيه ، وأمّا الوثاقة بالأمانة ـ كما فيما رواه الشيخ ـ فالظاهر عدم اعتبارها في جواز الاقتداء لو كان المراد بها هي الوثاقة الشخصيّة ; لوضوح جواز الاقتداء بمن قامت البيّنة على عدالته ، أو كان مقتضى الاستصحاب بقاء عدالته ، إذاً فالمراد بالوثاقة إمّا الوثاقة النوعيّة ، أو الوثاقة بكونه أميناً في الظاهر ، ومرجعه إلى الوثوق بوجود الأمارة الكاشفة عن العدالة والاطمئنان بتحقّق حسن الظاهر .
وبالجملة : فلم يقم في مقابل ما دلّ على كاشفيّة حسن الظاهر بنحو الإطلاق الشامل لصورة عدم حصول الظنّ فضلا عن العلم ، دليل على التقييد بخصوص
ما إذا أفاد العلم أو الظنّ ، كما عرفت .
هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بمبحث العدالة ، وقد انقدح ممّا ذكرنا أنّ العدالة لاتكون عبارة عن مجرّد الملكة الراسخة الباعثة ، كما أفاده الماتن دام ظلّه ، بل هي بضميمة الاجتناب العملي تحقّق التقوى خارجاً ، بحيث لو تحقّق ارتكاب الكبيرة لا تتحقّق العدالة بوجه ، ومنه يظهر أنّ ارتكاب الكبيرة إنّما يؤثّر في زوال صفة العدالة حقيقة ، ويمنع عن تحقّقها واقعاً ; لدخالة الاجتناب عنها في الحقيقة والماهيّة ، كما أ نّه ظهر ممّا ذكرنا أنّ ارتكاب الصغيرة من دون إصرار لا يقدح في العدالة أصلا ، وأنّ ملكة المروءة دخيلة فيها بمقتضى الرواية ، فتأمّل جيّداً .
- (1) الكافي : 3 / 374 ذ ح5 ، تهذيب الأحكام : 3 / 266 ح755 ، وفيه : بدينه وأمانته ، وعنهما وسائل الشيعة : 8 / 309 ، كتاب الصلاة ، أبواب صلاة الجماعة ب10 ح2 .
(الصفحة 370)[الخطأ في نقل الفتوى أو خطأ المجتهد في بيان فتواه]
مسألة30: إذا نقل شخص فتوى المجتهد خطأً يجب عليه إعلام من تعلّم منه 1.
1 ـ الخطأ في نقل فتوى المجتهد، وكذا في بيان المجتهد فتوى نفسه ، تارة : بنحو تكون الفتوى الواقعيّة عبارة عن الحكم اللزومي من الوجوب أو الحرمة ، والناقل ينقله بنحو الإباحة ، واُخرى : بالعكس ، فهنا صورتان :
أمّا الصورة الاُولى: فقد استدلّ على وجوب الإعلام فيها بوجهين :
الأوّل : ما اعتمد عليه بعض الأعلام في الشرح على العروة ممّا حاصله : أنّه يتحقّق بذلك التسبيب إلى فعل الحرام ، والمستفاد من دليل الحرمة في جميع الموارد حسب المتفاهم العرفي إنّما هو مبغوضيّة انتساب العمل المحرّم إلى المكلّفين ، من دون فرق في ذلك بين أن يكون بالمباشرة أو بالتسبيب ، ومن هنا يكون تقديم الطعام النجس إلى الجاهل ليأكله أمراً حراماً ; لأنّ النهي والتحريم وإن كانا قد تعلّقا بأكل النجس ، إلاّ أنّ العرف يفهم من ذلك أنّ أكل النجس مبغوض مطلقاً; سواء صدر ذلك عن المكلّف بالمباشرة ، أم صدر بالتسبيبوإن كان الآكل حينئذمعذوراً بجهله ، بل يمكن أن يقال باستقلال العقل أيضاً بذلك ; لأنّ ما هو الملاك في المنع عن العمل بالمباشرة موجود في العمل بالتسبيب ، وحيث إنّ الناقل أو المجتهد في المقام أفتى بإباحة ما هو لازم فعله أو تركه ، فقد سبّباً إلى وقوع المكلّف في الأمر المبغوض . نعم، ما داما غافلين معذوران في التسبيب، فإذا ارتفعت الغفلة وجب عليهما الإعلام.
وأيّد ذلك بل استدلّ عليه بما ورد من أنّ المفتي ضامن ، كما في صحيحة
(الصفحة 371)
عبدالرحمن بن الحجّاج المتقدّمة في بحث التقليد(1) ، قال : «كان أبو عبدالله(عليه السلام)قاعداً في حلقة ربيعة الرأي ، فجاء أعرابيّ ، فسأل ربيعة الرأي عن مسألة فأجابه ، فلمّا سكت قال له الأعرابيّ : أهو في عنقك؟ فسكت عنه ربيعة ولم يردّ عليه شيئاً ، فأعاد المسألة عليه فأجابه بمثل ذلك ، فقال له الأعرابيّ : أهو في عنقك؟ فسكت ربيعة ، فقال أبو عبدالله(عليه السلام) : هو في عنقه . قال : أو لم يقل : وكلّ مفت ضامن؟!» . بناءً على أنّ المفتي عبارة عن مطلق من ينقل الحكم ، فيشمل المجتهد والناقل كليهما .
قال : بل ورد في بعض الأخبار(2) أنّ كفارة تقليم المحرم أظفاره على من أفتى بجوازه ، وتدلّ عليه أيضاً صحيحة أبي عبيدة الحذاء قال : قال أبو جعفر(عليه السلام) : من أفتى الناس بغير علم ولا هدًى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، ولحقه وزر من عمل بفتياه(3) . وكذلك غيرها من الأخبار الدالّة على حرمة الفتوى بغير علم (4)، وذلك لأنّ الفتوى بالإباحة في المقام أيضاً من غير علم وإن كان المجتهد أو الناقل معذورين ما داما مشتبهين أو غافلين ، إلاّ أ نّه إذا ارتفعت الغفلة وجب عليهما إعلام الجاهل بالحال كما مرّ(5) .
أقول :الكلام في هذا الوجه تارة : من حيث الكبرى ، وأنّ التسبيب إلى الحرام هل يكون حراماً أم لا؟ واُخرى : من حيث الصغرى ، وأنّ المقام هل يكون مصداقاً لتلك القاعدة أم لا؟
- (1) في ص64 ـ 65 .
-
(2) وسائل الشيعة : 13 / 164 ـ 165 ، كتاب الحج ، أبواب بقيّة كفّارات الإحرام ب13 .
-
(3) الكافي : 7 / 409 ح2 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 20 ، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي ب4 ح1 .
-
(4) وسائل الشيعة : 27 / 20 ـ 31 ، كتاب القضاء ، أبواب آداب القاضي ب4 .
-
(5) التنقيح في شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 371 ـ 372 .
(الصفحة 372)
أمّا من الجهة الأُولى : فسيأتي تفصيل البحث فيها في بعض مباحث النجاسات إن شاء الله تعالى .
وأمّا من الجهة الثانية : فربما يقال بعدم كون المقام من صغريات تلك القاعدة ، نظراً إلى أنّ عمل العامي المباشر لترك الواجب أو فعل الحرام إن أُريد كونه مستنداً إلى الفتوى بالإباحة أو نقلها ، فهو وإن كان صحيحاً إلاّ أنّ ذلك يقتضي الحرمة لو كان عمداً ، والمفروض خلافه . وإن أُريد استناده إلى ترك الإعلام الذي هو محلّ الكلام ، فهو غير صحيح ; لعدم استناد عمل العامّي إلى ترك الإعلام أصلا ، فالمقام لايكون من صغريات قاعدة حرمة التسبيب على فرض تماميّتها .
والظاهر أ نّه لا مجال للمناقشة في هذه الجهة ; فإنّ الفتوى أو نقلها وإن لم يكن عن عمد حتى يكون التسبيب مقتضياً لحرمته ، إلاّ أنّ ظهوره في البقاء والاستمرار الناشىء من البيان وترك الإعلام أمرٌ عمديّ والفعل مستند إليه ; ضرورة أنّ الفعل لا يكون مستنداً إلى الفتوى ولو مع رفع اليد عنها وإعلام خلافها ، بل هو مستند إلى الفتوى مع بقائها وعدم رفع اليد عنها ، وهو يحصل بترك الإعلام كما هو ظاهر ، والمفروض أ نّه عمديّ ، فبناءً على حرمة التسبيب يكون محرّماً .
نعم ، ربما يناقش في أنّ مقتضى ذلك حرمة السكوت وترك الإعلام لا وجوب الإعلام ، كما أ نّه ربما يناقش بأنّ قاعدة حرمة التسبيب إنّما يكون مجراها خصوص التسبيب إلى فعل المحرّم ، ولا تشمل التسبيب إلى ترك الواجب ; لعدم كون ترك الواجب محرّماً ، بل الواجب ما كان فعله واجباً ، كما أنّ الحرام ما كان فعله محرّماً لاما كان تركه واجباً .
وأمّا الروايات ، فيمكن المناقشة في دلالتها ـ مضافاً إلى أنّها تختصّ بخصوص المجتهد ; لظهور عنوان «المفتي» أو «من أفتى» في خصوص المجتهد ، ولا يشمل