(الصفحة 371)
عبدالرحمن بن الحجّاج المتقدّمة في بحث التقليد(1) ، قال : «كان أبو عبدالله(عليه السلام)قاعداً في حلقة ربيعة الرأي ، فجاء أعرابيّ ، فسأل ربيعة الرأي عن مسألة فأجابه ، فلمّا سكت قال له الأعرابيّ : أهو في عنقك؟ فسكت عنه ربيعة ولم يردّ عليه شيئاً ، فأعاد المسألة عليه فأجابه بمثل ذلك ، فقال له الأعرابيّ : أهو في عنقك؟ فسكت ربيعة ، فقال أبو عبدالله(عليه السلام) : هو في عنقه . قال : أو لم يقل : وكلّ مفت ضامن؟!» . بناءً على أنّ المفتي عبارة عن مطلق من ينقل الحكم ، فيشمل المجتهد والناقل كليهما .
قال : بل ورد في بعض الأخبار(2) أنّ كفارة تقليم المحرم أظفاره على من أفتى بجوازه ، وتدلّ عليه أيضاً صحيحة أبي عبيدة الحذاء قال : قال أبو جعفر(عليه السلام) : من أفتى الناس بغير علم ولا هدًى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، ولحقه وزر من عمل بفتياه(3) . وكذلك غيرها من الأخبار الدالّة على حرمة الفتوى بغير علم (4)، وذلك لأنّ الفتوى بالإباحة في المقام أيضاً من غير علم وإن كان المجتهد أو الناقل معذورين ما داما مشتبهين أو غافلين ، إلاّ أ نّه إذا ارتفعت الغفلة وجب عليهما إعلام الجاهل بالحال كما مرّ(5) .
أقول :الكلام في هذا الوجه تارة : من حيث الكبرى ، وأنّ التسبيب إلى الحرام هل يكون حراماً أم لا؟ واُخرى : من حيث الصغرى ، وأنّ المقام هل يكون مصداقاً لتلك القاعدة أم لا؟
- (1) في ص64 ـ 65 .
-
(2) وسائل الشيعة : 13 / 164 ـ 165 ، كتاب الحج ، أبواب بقيّة كفّارات الإحرام ب13 .
-
(3) الكافي : 7 / 409 ح2 ، وعنه وسائل الشيعة : 27 / 20 ، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي ب4 ح1 .
-
(4) وسائل الشيعة : 27 / 20 ـ 31 ، كتاب القضاء ، أبواب آداب القاضي ب4 .
-
(5) التنقيح في شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 371 ـ 372 .
(الصفحة 372)
أمّا من الجهة الأُولى : فسيأتي تفصيل البحث فيها في بعض مباحث النجاسات إن شاء الله تعالى .
وأمّا من الجهة الثانية : فربما يقال بعدم كون المقام من صغريات تلك القاعدة ، نظراً إلى أنّ عمل العامي المباشر لترك الواجب أو فعل الحرام إن أُريد كونه مستنداً إلى الفتوى بالإباحة أو نقلها ، فهو وإن كان صحيحاً إلاّ أنّ ذلك يقتضي الحرمة لو كان عمداً ، والمفروض خلافه . وإن أُريد استناده إلى ترك الإعلام الذي هو محلّ الكلام ، فهو غير صحيح ; لعدم استناد عمل العامّي إلى ترك الإعلام أصلا ، فالمقام لايكون من صغريات قاعدة حرمة التسبيب على فرض تماميّتها .
والظاهر أ نّه لا مجال للمناقشة في هذه الجهة ; فإنّ الفتوى أو نقلها وإن لم يكن عن عمد حتى يكون التسبيب مقتضياً لحرمته ، إلاّ أنّ ظهوره في البقاء والاستمرار الناشىء من البيان وترك الإعلام أمرٌ عمديّ والفعل مستند إليه ; ضرورة أنّ الفعل لا يكون مستنداً إلى الفتوى ولو مع رفع اليد عنها وإعلام خلافها ، بل هو مستند إلى الفتوى مع بقائها وعدم رفع اليد عنها ، وهو يحصل بترك الإعلام كما هو ظاهر ، والمفروض أ نّه عمديّ ، فبناءً على حرمة التسبيب يكون محرّماً .
نعم ، ربما يناقش في أنّ مقتضى ذلك حرمة السكوت وترك الإعلام لا وجوب الإعلام ، كما أ نّه ربما يناقش بأنّ قاعدة حرمة التسبيب إنّما يكون مجراها خصوص التسبيب إلى فعل المحرّم ، ولا تشمل التسبيب إلى ترك الواجب ; لعدم كون ترك الواجب محرّماً ، بل الواجب ما كان فعله واجباً ، كما أنّ الحرام ما كان فعله محرّماً لاما كان تركه واجباً .
وأمّا الروايات ، فيمكن المناقشة في دلالتها ـ مضافاً إلى أنّها تختصّ بخصوص المجتهد ; لظهور عنوان «المفتي» أو «من أفتى» في خصوص المجتهد ، ولا يشمل
(الصفحة 373)
الناقل بمجرّده ـ بأنّ صحيحة عبدالرحمن ظاهرة إمّا في ضمان كلّ مفت ولو كانت فتواه عن علم وهدى من الله . وإمّا في ضمان خصوص من كانت فتواه على خلاف الواقع عن عمد وقصد ، وعلى أيّ فلا دلالة لها على الحرمة في المقام ، إلاّ أن يقال :
إنّ فتواه بخلاف الواقع وإن لم تكن في المقام عن عمد واختيار ، إلاّ أنّ ترك الإعلام الموجب لظهورها في البقاء موجب لذلك ، كما لا يخفى ، وصحيحة أبي عبيدة لادلالة لها إلاّ على ثبوت وزر من عمل بفتياه للمفتي .
وهذا ـ مضافاً إلى أ نّه لا يلازم الوجوب الشرعيّ ، بل غايته اللزوم العقلي من جهة تخفيف الوزر ـ يكون مورده الفتوى بغير علم ; وهو لا يشمل المقام إلاّ على النحو الذي ذكرنا .
الوجه الثاني : ما أفاده في المستمسك من أنّ المستفاد من آية النفر الشريفة(1)وجوب الإعلام ، حيث يترتّب عليه إحداث الداعي العقلي إلى العمل بالواقع الذي هو متعلّق الإعلام لاختصاص الإنذار بذلك ، فإذا كان المكلّف غافلا عن الحكم الكلّي ، أو قاطعاً بالخلاف ، أو متردّداً على نحو يكون جهله عذراً ، وجب إعلامه ; لما يترتّب عليه من إحداث الدّاعي العقلي ، وإذا كان جاهلا جهلا لا يعذر فيه لا يجب إعلامه .
وكذا لو انحصر الإعلام بطريق الخبر الذي لا يكون حجّة في نظر السامع ; فإنّه لا يجب ; لعدم ترتّب الأثر المذكور ، ولا تبعد استفادة ذلك أيضاً ممّا تضمّن أنّ الغرض من إرسال الرسل قطع أعذار المكلّفين وإقامة الحجّة عليهم ; مثل قوله ـ تعالى ـ : {أَن تَقُولُوا مَا جَآءَنَا مِن م بَشِير وَ لاَ نَذِير فَقَدْ جَآءَكُم بَشِيرٌ
- (1) سورة التوبة : 9 / 122 .
(الصفحة 374)
وَنَذِيرٌ}(1). {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةُم بَعْدَ الرُّسُلِ}(2). {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَــلِغَةُ}(3) ونحوه ، فتأمّل.
ثمّ إنّ الظاهر اختصاص هذا الصنف من الآيات بالحكم الإلزامي ، فإذا كان المجهول حكماً غير إلزاميّ لم يجب إعلامه .
وأمّا آية الكتمان(4) ، فظاهرها وجوب الإظهار في مقام الاستعلام ; سواء ترتّب عليه الإنذار أم لا ، وسواء كان الاستعلام بطريق السؤال ـ كما في المتردّد إذا سأل عن الحكم ـ أم بمحض وجود الداعي إلى معرفة الحكم والعلم به وإن كان غافلا عن ذلك ; سواء كان معتقداً لخلاف الواقع ، أم غافلا عنه ، أم متردّداً غافلا عن وجود من يجب سؤاله ، أم غير ذلك من موارد وجود الرغبة النفسانيّة في معرفة الحكم ، ولو لم تدفع إلى السؤال لوجود المانع ، فيكون بين مفاد الآية الشريفة ،
وما سبق العموم من وجه ، ولعدم التنافي بين المفادين ـ لكونهما من قبيل المثبتين ـ يتعيّن العمل بهما معاً ، ولازم ذلك وجوب البيان مع السؤال ، وإن لم يكن السائل معذوراً في جهله ، بل لعلّها تقتضي وجوبه مع عدم اعتقاد السائل حجيّة الخبر ، وقد عرفت عدم اقتضاء آية النفر وجوب الإعلام حينئذ .
وكيف كان، ففي فرض المسألة كما يجب على الناقل أو المفتي خطأً إخبار الجاهل ، كذلك يجب على غيره من المكلّفين;لعموم الأدلّة الدالّة على وجوب الإعلام(5) انتهى.
- (1) سورة المائدة : 5 / 19 .
-
(2) سورة النساء : 4 / 165 .
-
(3) سورة الأنعام : 6 / 149 .
-
(4) سورة البقرة : 2 / 159 .
-
(5) مستمسك العروة الوثقى : 1 / 75 ـ 77 .
(الصفحة 375)
وأنت خبير بأنّ مرجع ما أفاده(قدس سره) إلى وجوب تبليغ الأحكام الشرعيّة وبيانها للناس وحفظها عن الخفاء والاندراس ، ولأجله صرّح في ذيل كلامه بأ نّه «كما يجب على المفتي أو الناقل خطأً إخبار الجاهل ، كذلك يجب على غيره من المكلّفين ; لعموم الأدلّة الدالّة على وجوب الإعلام» مع أنّ الظاهر أنّ المقصود في هذه المسألة وجوب الإعلام على خصوص الناقل أو المفتي خطأً دون سائر المكلّفين ، مضافاً إلى اختلاف كيفيّة الإعلام في المقامين ; فإنّ الإعلام هناك إنّما يتحقّق ببيان الأحكام الشرعيّة على النحو المتعارف الذي يتمكّن العامّي من الوصول إليه ، والإعلام هنا إنّما هو بإعلام كلّ فرد ممّن تعلّم الفتوى على خلاف الواقع بأيّ نحو أمكن ، فبين المقامين فرق ظاهر .
وأمّا الصورة الثانية : أعني ما إذا كانت الفتوى الواقعيّة غير إلزاميّة ، والناقل
أو المجتهد نقلها بنحو الإلزام ، فربما يقال بعدم وجوب الإعلام حينئذ ، لعدم جريان قاعدة حرمة التسبيب في هذه الصورة ; لأنّ المفروض أنّ الفتوى صارت سبباً لترك أمر مباح ، أو فعل أمر لا يكون واجباً ، وليس شيء منهما بحرام ، وأدلّة وجوب تبليغ الأحكام ـ مضافاً إلى أنّ مقتضاها وجوب البيان بالنحو المذكور ،
لا وجوب إيصالها إلى آحاد المكلّفين ـ مختصّة بالأحكام الإلزاميّة، ولا تشمل الأحكام الترخيصيّة، إمّالاقترانهابالقرينة في نفسها ، وإمّا لأنّ التعلّم واجب طريقيّ.
والوجه فيه هو التحفّظ على المصالح لئلا تفوت ، والتجنّب عن الوقوع في المفاسد ، ومن الظاهر عدم وجوب التعليم إلاّ فيما وجب فيه التعلّم ، والتعلّم إنّما يجب في خصوص الأحكام الإلزاميّة; لأنّ الأحكام الترخيصيّة لا يجب فيها التعلّم والتقليد.