(الصفحة 38)
بالمأمور به بجميع ما اعتبر فيه من القيود والخصوصيّات ، والمفروض تحقّقه في المقام ; لأنّ الكلام بعد الفراغ عن عدم اعتبار قصد الوجه وشبهه، أو عدم كون الاحتياط مسلتزماً للإخلال به ـ : أنّه على تقدير تسليم مدخليّة الانبعاث عن البعث في تحقّق الطاعة لا دليل على اعتبار عنوان الطاعة في سقوط الأمر ولو كان عبادياً ، بل الواجب مجرّد الإتيان بما تعلّق به الأمر بشراشر أجزائه وشرائطه ، ولاوجه للحكم باعتبار تحقّق عنوان آخر بعد عدم نهوض دليل عقليّ أو نقليّ عليه ، فالإنصاف أنّ ما أفاده من كون الدعوى المذكورة غير مجازفة مجرّد ادّعاء بلا بيّنة وبرهان ، كما هو غير خفيّ .
مضافاً إلى أنّ الحاكم بالاستقلال في باب الإطاعة هو العقل ، ومن الواضح أنّ المكلّف المنبعث عن مجرّد احتمال البعث أقوى عنده ـ في صدق الإطاعة وعنوان المطيع ـ ممّن لا ينبعث إلاّ بعد العلم بثبوت البعث ، مع أنّ الانبعاث في أطراف العلم الإجمالي إنّما هو عن العلم بالبعث ; ضرورة أ نّه لو لم يكن العلم به ولو إجمالا متحقّقاً لم يتحقّق الانبعاث من كثير من الناس ، الذين لا ينبعثون عن مجرّد احتمال البعث ولا يتحرّكون بحركة الاحتمال ، كما هو ظاهر .
ثمّ إ نّه ذكر في «المستمسك» ـ في مقام الجواب عن هذا الوجه ـ أنّ فعل كلّ واحد من الأطراف ناشئ عن داعي الأمر بفعل الواجب ، والاحتمال دخيل في داعويّة الأمر لا أ نّه الداعي إليه ، وإلاّ كان اللازم في فرض العلم التفصيلي البناء على كون الفعل ناشئاً عن داعي العلم بالأمر لا عن داعي نفس الأمر ، إذ الفرق بين المقامين غير ظاهر(1) .
- (1) مستمسك العروة الوثقى : 1 / 8 .
(الصفحة 39)
ويمكن الإيراد عليه بأ نّه في صورة العلم بوجود البعث يكون الانبعاث مستنداً إلى نفس البعث ; لأ نّه قد نال الواقع ووصل إليه بالعرض ، وهذا بخلاف صورة الاحتمال ; فإنّ الانبعاث فيها لا محالة يكون مستنداً إلى الاحتمال الذي لا يكون له كاشفيّة بوجه ، وهذا هو الفارق بينهما في صدق الإطاعة والامتثال ; فإنّ المحرّك والداعي في الصورة الأُولى هو الواقع المنكشف ، وفي الصورة الثانية هو نفس الاحتمال ، فالتحقيق في الجواب ما ذكرنا .
ثالثها : كون التكرار لعباً بأمر المولى وعبثاً محضاً ، خصوصاً مع كون التمكّن من تحصيل العلم والامتثال التفصيلي بسهولة ، بحيث لا يحتاج إلى مؤنة زائدة على مثل السؤال عن العالم الحاضر عنده ، وكان التكرار الذي يحصل به الاحتياط متوقّفاً على تكرار العمل مائة أو أزيد مثلا ; فإنّه لا يرتاب في كون التكرار مع اجتماع هاتين الجهتين لعباً وعبثاً ، وهو ينافي العبوديّة المطلوبة في باب العبادات ، الذي هو محّل الكلام ومورد النقض والإبرام .
وأجاب عن هذا الوجه المحقّق الاصفهاني(قدس سره) في رسالته في الاجتهاد والتقليد بما حاصله : أنّ اللعب إمّا يكون ضائراً بداعي الأمر بحيث لا يصدر الفعل عن داعي الأمر ، أو يضرّ به بحيث يكون تشريكاً في الداعي ، أو يكون عنواناً للفعل فيكون الفعل معنوناً بعنوان قبيح ، والكلّ باطل .
أمّا صدور الفعل لا عن داعي الأمر فهو خلف ; لأنّ المفروض أنّ المحرّك الأصلي نحو الصلاة الواجبة واقعاً هو الأمر بها .
وكذا لو كان تشريكاً في الداعي ، مع أ نّه لو كان تشريكاً بطلت العبادة ولو كان الدخيل داعياً عقلائيّاً .
وأمّا كـونه عنواناً لفعل الصلاة فلا وجه له ; لأنّ اللعب يحصل بالتكرير
(الصفحة 40)
لابالعمل المكرّر ، وبعبارة أُخرى : الإطاعة اليقينيّة تحصل بأحد نحوين : إمّا بالامتثال التفصيلي ، وإمّا بإتيان صلاتين أو أكثر ، ومن هذه الحيثيّة الراجعة إلى تحصيل اليقين بإطاعة الأمر ليس شيء منهما لغواً وعبثاً ، لكن مع إمكان الأوّل وعدم ترتّب غرض عقلائيّ على النحو الثاني يكون لغواً من هذه الجهة لا من حيث المحصّليّة لليقين ، فالصلاة الواقعيّة الموجودة في ضمن الصلوات المتكرّرة لاتوصف باللغوية والعبثية ، بل المجموع بما هو مجموع ، فلم يلزم وصف عنوانيّ قبيح في الصلاة المأتيّ بها موافقة لأمرها في ضمن المجموع(1) .
أقول : لو سلّمنا كون اللعب ضائراً بداعي الأمر ومنافياً للقربة المعتبرة في صحّة العبادة أو الإخلاص المعتبر فيها ، فهو غير ضائر بما هو محلّ الكلام في المسألة الاُصوليّة ; لما عرفت من أنّ النزاع فيها إنّما هو في جواز الاجتزاء بالامتثال الإجمالي مع فرض كون المأتيّ به واجداً لجميع ما اعتبر فيه من القيود والخصوصيّات ، ففرض كون اللعب منافياً لرعاية بعض تلك الخصوصيّات يوجب الخروج عمّا هو محلّ البحث .
وأمّا دعوى كون اللعب عنواناً للفعل ويصير موجباً لتعنون الفعل بعنوان قبيح فقد عرفت في كلام المحقّق المذكور الجواب عنها بما يرجع حاصله إلى نفي استلزام اللعب ; لصيرورة الفعل متّصفاً بعنوان قبيح ; لأ نّه يحصل بالتكرير لا بالعمل المكرّر .
ونحن نقول : إنّه لو سلمت هذه الدعوى أيضاً فتارة : يراد منها أ نّه يشترط
في صحّة العبادة وترتّب الغرض المطلوب عليها عدم انطباق عنوان مثل اللعب
- (1) بحوث في الاُصول ، الاجتهاد والتقليد : 185 ـ 186 .
(الصفحة 41)
عليها ، بحيث يكون الانطباق موجباً لعدم تحقّق العبادة واجدة لجميع الشرائط
المعتبرة فيها ; لأنّ من جملة الشرائط عدم انطباق مثل هذا العنوان ، أو أنّ الانطباق من جملة الموانع ، فلا تكون العبادة خالية عن المانع ، وأُخرى : يراد منها أنّ الانطباق وإن لم يكن وجوده أو عدمه دخيلا في العبادة شرطاً أو مانعاً ، إلاّ أ نّه ينافي ـ لأجل قبحه عند العقل ـ مع مقام العبوديّة وتحقّق الامتثال في خصوص الأمر العبادي .
فعلى الأوّل : فهو خارج عن النزاع في المسألة الأُصولية ; لما عرفت من كون المفروض فيها صورة اشتمال العبادة على جميع الخصوصيّات المعتبرة فيها ، وعدم كون الامتثال الإجمالي مانعاً عن رعايتها كذلك .
وعلى الثاني : فهو غير معقول ; لأ نّه بعد فرض مطابقة المأتيّ به لِما هو المأمور به بحسب الواقع وعدم وجود خلل فيه أصلا لا يعقل عدم الإجزاء ، ولا وجه للحكم بعدم الاكتفاء به في مقام الامتثال ، والمنافاة إن لم ترجع إلى الدخالة في العبادة
لا يتصوّر لها معنى أصلا ، كما هو أوضح من أن يخفى . فانقدح أنّ هذا الوجه أيضاً
لم ينهض دليلا على المنع في المسألة الأُصولية التي هي مسألة عقلية محضة ، كما عرفت .
رابعها : ما ذكره الشيخ الأعظم(قدس سره) في رسالة الاشتغال ; من أ نّه قد يقال بعدم جواز الاحتياط للزوم التشريع ، وذلك لأنّ قصد القربة المعتبر في الواجب الواقعي لازم المراعاة في كلا المحتملين ليقطع بإحرازه في الواجب الواقعي ، ومن المعلوم أنّ الإتيان بكلّ من المحتملين بوصف أنّها عبادة مقرّبة يوجب التشريع بالنسبة إلى ما عدا الواجب الواقعي فيكون محرّماً ، فالاحتياط غير ممكن في العبادات ، وإنّما يمكن في غيرها لعدم اعتبار قصد القربة فيها المستلزم لإتيان غير العبادة بوصف أنّها
(الصفحة 42)
عبادة ، كما عرفت(1) .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى عدم استلزام الاحتياط للتشريع ; لأنّ اعتبار قصد القربة في العبادة لا يقتضي لزوم رعايته في كلّ من المحتملين ، بل اللازم الإتيان بما هو الواجب في الواقع بوصف أنّها عبادة مقرّبة ، فيقصد في كلّ منهما حصول التقرّب به أو بصاحبه الذي يأتي به بعده أو أتى به قبله ، وإلى أ نّه على تقدير تسليم الاستلزام لا معنى لسراية الحكم عن عنوان التشريع على تقدير كونه من العناوين المعقولة الاختياريّة على خلاف ما قرّرنا في محلّه(2) ، وتعلّق النهي التحريمي به إلى عنوان الاحتياط المسلتزم له ـ : أ نّ البحث ليس في الجواز والتحريم بل في الاكتفاء في مقام الامتثال بالإجمالي منه ، ومن المعلوم أنّ قصد التقرّب في غير العبادة لايوجب بطلان العبادة المأتيّ بها مع جميع الخصوصيّات حتى القربة المعتبرة كما هو المفروض ، فتدبّر جيّداً .
ثمّ إنّ هنا روايتين قد استدلّ بهما على بطلان الاحتياط في العبادة :
إحداهما : ـ وهي التي حكي عن بعض المحقّقين(3) الاستدلال بها ـ صحيحة أبي أيّوب إبراهيم بن عثمان الخزاز ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) في حديث قال : إنّ شهر رمضان فريضة من فرائض الله ، فلا تؤدّوا بالتظنّي(4) .
والاُخرى :ما رواه الصدوق في محكي العيون بإسناده عن الفضل بن شاذان ،
- (1) فرائد الاُصول : 2/290 .
-
(2) سيرى كامل در اصول فقه: 10/208 ـ 209.
-
(3) الظاهر أنّه المحقّق محمد تقي الشيرازي في حاشيته على فرائد الاُصول، وهي مخطوطة .
-
(4) تهذيب الأحكام : 4 / 160 ح451 ، وعنه وسائل الشيعة : 10 / 256 ، كتاب الصوم ، أبواب أحكام شهر رمضان ب3 ح16 .