(الصفحة 43)
عن الرضا(عليه السلام) في حديث ، أ نّه كتب إلى المأمون : وصيام شهر رمضان يصام للرؤية ويفطر للرؤية . ورواه في تحف العقول مرسلا نحوه ، وفي الخصال بإسناده عن الأعمش ، عن جعفر بن محمّد(عليهما السلام) في حديث شرائع الدين مثله(1) .
والجواب عن الاستدلال بهما ـ مضافاً إلى أنّ البحث كما عرفت إنّما هو في حكم العقل بجواز الاكتفاء بالاحتياط الذي هو عبارة عن الإتيان بالعبادة بجميع ما اعتبر فيها من الخصوصيّات لا في حكم الشرع بذلك ; لعدم كون النزاع في الجواز والحرمة كما مرّ مراراً ، وإلى أنّ مرجع مفاد الروايتين إلى اعتبار أمر آخر في فرائض الله غير الأُمور المعروفة ; وهو عدم جواز إتيانها مع التظنّي وعدم العلم ، ومرجعه إلى اعتبار التمييز الذي عرفت أنّ الإخلال به في مورد الاحتياط لا يستلزم الحكم بعدم الاجتزاء به فيما هو محلّ البحث والنزاع ـ : أنّ الروايتين ليس مفادهما ما توهّمه المستدلّ ، بل ظاهرهما عدم جواز الإتيان بفريضة من فرائض الله مع الشك والتظنّي بعنوان أنّها تلك الفريضة ، فلا يجوز الإتيان بالصوم في يوم الشك من شعبان بعنوان أ نّه صوم شهر رمضان والفريضة الإلهيّة في هذا الشهر .
وأمّا الإتيان به بعنوان الاحتياط واحتمال كونه من رمضان ، فلا دلالة في الروايتين على عدم جواز هذا النحو من الإتيان ، فقوله(عليه السلام) : «لا تؤدّوا بالتظنّي» في الرواية الأُولى ، و«يصام للرؤية» في الرواية الثانية معناه عدم جواز الأداء مع الشك بعنوان تلك الفريضة، وعدم جواز الصيام قبل الرؤية بعنوان أ نّه من رمضان وفريضة من فرائض الله ، فهما أجنبيّان عمّا نحن بصدده من جواز الإتيان بعنوان الاحتياط .
- (1) عيون أخبار الرضا(عليه السلام) : 2 / 124 ح1 ، تحف العقول : 419 ، الخصال : 606 ح1 ، وعنها وسائل الشيعة : 10 / 259 ، كتاب الصوم ، أبواب أحكام شهر رمضان ب3 ح26 .
(الصفحة 44)
وقد اُورد على الاستدلال بالروايتين بوجوه أُخَر من الإيراد أيضاً ، لكنّها غير مجدية أو خالية عن الخدشة ، فراجعها .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أ نّه لم يقم دليل على تأخّر رتبة الامتثال الإجمالي عن التفصيلي ، بل الظاهر حكم العقل بكونهما في رتبة واحدة .
في حكم صورة الشك
نقول : إنّ الشك المتصوّر تارة: في المسألة الفقهيّة ، وأنّ قصد الوجه مثلا مع فرض عدم إمكان رعايته في الامتثال الإجمالي هل يكون معتبراً في صحّة العبادة وتحقّق الطاعة أم لا؟ وأُخرى: في المسألة الأُصوليّة ، وهي تساوي مرتبتي الامتثالين أو تأخّر الإجمالي عن التفصيلي ، وثالثة: في صغرى المسألة الأُصولية ; مثل الشك في أنّ قصد الوجه المعتبر في العبادة هل يمكن رعايته في الامتثال الإجمالي، أم لا يمكن إلاّ في الامتثال التفصيلي؟
أمّا الشكّ في المسألة الفقهيّة : فمع عدم وجود إطلاق رافع له ، أو عدم جواز التمسّك بالإطلاق يرجع إلى أصالة البرائة لو كان الترديد بين الأقلّ والأكثر في متعلّق التكليف ، وإلى أصالة الاشتغال لو كان الترديد بينهما في الأسباب والمحصّلات على اختلاف فروضه وصوره ، والمحكي عن الشيخ الأعظم(قدس سره) أ نّه ذهب إلى عدم دخل قصد الوجه في الإطاعة بنظر العقلاء ، فيرجع في دفعه إلى إطلاقات أدلّة الإطاعة ، فتأمّل(1) .
وأمّا الشكّ في المسألة الأُصوليّة : فالذي صرّح به في تقريرات المحقّق النائيني(قدس سره)
- (1) فرائد الاُصول : 1/417 ، رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري ، ضمن مجموعة رسائل : 49 .
(الصفحة 45)
أ نّه يرجع فيه إلى أصالة الاشتغال ; لدوران الأمر فيه بين التعيين والتخيير ، نظراً إلى أنّ الاكتفاء بالامتثال الإجمالي مع القدرة على التفصيلي منه مشكوك لدى العقل ; فيدور الأمر بين تعيّن الثاني والتخيير بينه وبين الأوّل ، والحكم فيه هو الرجوع إلى أصالة الاشتغال(1) .
واُجيب عنه تارة : كما في المستمسك بأنّ مرجع الشك في المقام إلى الشكّ في اعتبار العلم بالأمر في تحقّق الإطاعة ، فيكون من قبيل الدوران بين الأقلّ والأكثر لا من قبيل الدروان بين التعيين والتخيير . نعم ، يتمّ ذلك بناءً على أنّ الباعث على العمل الاحتمال ; لتباين نحوي الامتثال ; إذ في أحدهما يكون الباعث الأمر، وفي الآخر الاحتمال ، فالشك في اعتبار الامتثال التفصيلي يكون من التردّد بين التعيين والتخيير(2) وأُخرى : كما في شرح بعض الأعلام بأنّ مرجع المقام إلى الشك في اعتبار أمر زائد في عبادية العبادة ; وهو لزوم الانبعاث عن بعث المولى مع الإمكان دون احتماله ، وفي مثله تجري البراءة على المختار(3) .
أقول : وفي الكلّ نظر :
أمّا ما أفاده المحقّق النائيني(قدس سره) ، ففيه : أ نّك عرفت أ نّه بعد اشتمال الامتثال الإجمالي على جميع الخصوصيّات المعتبرة في العبادة شرطاً وشطراً ، وعدم كون التكرار مستلزماً للإخلال بشيء من تلك الخصوصيّات لا يعقل أن لا يدرك العقل الاجتزاء والاكتفاء به ، وأن يبقى شاكّاً متردّداً بعد كون أجزاء المأتي به المطابق للواقع أمراً بديهيّاً لا يجري فيه الارتياب واحتمال الخلاف .
- (1) فوائد الاُصول : 3 / 73 .
-
(2) مستمسك العروة الوثقى : 1 / 8 ـ 9 .
-
(3) دروس في فقه الشيعة: 1/31 .
(الصفحة 46)
وأمّا ما أفاده الشارحان ، فيرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ الشكّ في اعتبار العلم بالأمر في تحقّق الطاعة ، أو في اعتبار أمر زائد في عباديّة العبادة مرجعه إلى أنّ متعلّق التكليف هو عنوان الطاعة والعبادة بوصف أنّها عبادة ، والشكّ في مدخليّة شيء في هذا العنوان يكون المرجع فيه أصالة الاشتغال ; لعدم كون الترديد حينئذ بين الأقلّ والأكثر في متعلّق التكليف ، بل في السبب المحصّل للعنوان المأمور به كما هو غير خفيّ ـ : أ نّ هذا خروج عمّا هو المفروض من الشكّ في المسألة الأُصولية ; لأنّ المفروض هو صورة اشتمال الامتثال الإجمالي على جميع ما له دخل في صحّة العبادة واتّصاف المأتيّ به بكونه مطابقاً لما هو المأمور به ، ففرض الشكّ في اعتبار شيء آخر في تحقّق الطاعة أو في اتّصاف العبادة بالعبادية خارج عن محلّ الكلام ، فتدبّر جيّداً .
وأمّا الشكّ في صغرى المسألة الأُصوليّة : فالظاهر أنّ المرجع فيه هو أصالة الاشتغال ; للشكّ في تحقّق ما هو الدخيل في المأمور به قطعاً مع الاقتصار على الامتثال الإجمالي ; لأنّ المفروض الشكّ في إمكان رعاية مثل قصد الوجه المعتبر فرضاً في الاحتياط ، والمرجع في مثل هذا الشكّ أصالة الاشتغال بلا إشكال .
هذا تمام الكلام في الصورة الأُولى ; وهو الاكتفاء بالامتثال الإجمالي مع التمكّن من الامتثال التفصيلي .
وأمّا الصورة الثانية : أي صورة عدم التمكّن من الامتثال التفصيلي ، فالمصرّح بعدم جواز الاحتياط فيها هو الحلّي(قدس سره) على ما حكي عنه سابقاً(1) ; من حكمه بعدم جواز تكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين بالنجاسة ، وأنّه لابدّ من أن يصلّي عارياً ،
(الصفحة 47)
والحقّ أ نّه لا مجال بعد الحكم بالجواز في الصورة الأُولى للمناقشة في هذه الصورة أصلا ، فجواز الاحتياط في كلتا الصورتين بمعنى الاجتزاء والاكتفاء به في مقام الامتثال ، أو ترتّب الأثر المقصود واضح لا ينبغي أن يخفى .
بقي في باب الاحتياط أُمور ينبغي أو يجب التنبيه عليها :
الأوّل : فصّل الشيخ الأعظم الأنصاري(قدس سره) في العبادات بين الشبهات البدوية والمقرونة بالعلم الإجمالي بالاكتفاء في الأُولى بمجرّد قصد احتمال الأمر ; لأ نّه هو الذي يمكن في حقّه ، وبعدم الاكتفاء به في الثانية ، بل اللازم قصد امتثال الأمر المعلوم بالإجمال على كلّ تقدير .
قال : ولازمه أن يكون المكلّف حال الإتيان بأحد المحتملين قاصداً للإتيان بالآخر ، إذ مع عدم ذلك لا يتحقّق قصد امتثال الأمر المعلوم بالإجمال على كلّ تقدير ، بل يكون قصد امتثال الأمر على تقدير تعلّقه بالمأتيّ به ، وهذا لا يكفي في تحقّق الامتثال مع العلم بالأمر(1) .
واعترض عليه المحقّق النائيني ـ على ما في التقريرات ـ بأنّ العلم بالأمر لا يوجب فرقاً في كيفيّة النيّة ، فإنّ الطاعة في كلّ من المحتملين ليست إلاّ احتمالية كالشبهة البدوية ، إذ المكلّف لا يمكنه أزيد من قصد امتثال الأمر الاحتمالي عند الإتيان بكلّ من المحتملين ، وليس المحتملان بمنزلة فعل واحد مرتبط الأجزاء حتى يقال : العلم بتعلّق التكليف بالفعل الواحد يقتضي قصد امتثال الأمر المعلوم ، فلو أتى المكلّف بأحد المحتملين من دون قصد الإتيان بالآخر يحصل الامتثال على
- (1) فرائد الاُصول: 2/303 ـ 304، لكن ليس فيها بهذه العبارة، بل هذه العبارة بعينها محكيّة عنه(قدس سره) في فوائد الاُصول: 4/136 وتهذيب الاُصول: 2/373 ـ 374 .