(الصفحة 48)
تقدير تعلّق الأمر بالمأتيّ به ، وإن كان متجرّياً في عدم قصده الامتثال على كلّ تقدير(1) .
وأجاب عن هذا الاعتراض سيّدنا العلاّمة الاُستاذ الماتن ـ دام ظلّه العالي ـ بأنّ الفرق بين الصورتين من حيث الداعي واضح جدّاً ; لأنّ الداعي في الأُولى ليس إلاّ احتمال الأمر ، وفي الثانية له داعيان : داع إلى أصل الإتيان وهو الأمر المعلوم ، وداع إلى الإتيان بالمحتمل لأجل احتمال انطباق المعلوم عليه ، والانبعاث في كلّ من المحتملين إنّما هو عن هذين الداعيين . غاية الأمر أنّ الدّاعي الثاني ناشئ من الداعي الأوّل ، فالداعي الأوّل هو الأمر المعلوم تعلّقه بما ينطبق على أحد المحتملين لا احتمال الأمر . غاية الأمر أ نّه ينشأ من هذا الداعي إرادة الإتيان بكلّ من المحتملين ; لتوقّف الإتيان بالمأمور به عليه(2) .
وحينئذ فقد يكون المكلّف بمثابة ينبعث من الأمر المعلوم بحيث يحصل له الداعي إلى الإتيان بالمحتملين معاً ; لأ نّه لا يرضى إلاّ بالموافقة القطعيّة التي لا تحصل إلاّ بالإتيان بهما ، وقد يكون بحيث ينبعث من الأمر المعلوم بمقدار لا يحصل له إلاّ الداعي إلى الإتيان بأحد المحتملين ; لأ نّه يخاف من المخالفة القطعية الحاصلة بترك كلا المحتملين معاً ، وحينئذ فلو أتى بأحدهما وصادف الواقع يكون ممتثلا ; لأنّ الداعي له هو قصد الامتثال بالنسبة إلى الأمر المعلوم ، لا لأجل ما أفاده المحقّق النائيني من كفاية الإتيان باحتمال الأمر .
واستضعف ـ دام ظلّه ـ ما أفاده الشيخ(رحمه الله) بعدم الدليل على الجزم في النيّة ، بل
- (1) فوائد الاُصول : 4 / 136 ـ 137 .
-
(2) تهذيب الاُصول : 2 / 375 .
(الصفحة 49)
يكفي كون العمل مأتيّاً به لله تعالى ; وهو حاصل في إتيان كلّ واحد من المحتملين ، ولا يحتاج إلى الجزم بوجود الأمر في البين حتى لا تصحّ إطاعة المحتمل الأوّل إلاّ مع قصد الإتيان بالآخر .
وبالجملة : الداعي إلى الإتيان بأحد المحتملين ليس إلاّ إطاعة المولى ، فهو على فرض الانطباق مطيع لأمره، وقصدالإتيان بالآخرلاينفعوجودهولايقدح عدمه(1).
أقول : الظاهر أنّ مقصود الشيخ(رحمه الله) أ نّه يعتبر في باب العبادات أن يتحقّق عنوان الإطاعة والامتثال ، بخلاف سائر الواجبات التي يكتفى فيها بمجرّد تحقّق المأمور به في الخارج بأيّ نحو كان ، وتحقّق هذا العنوان فيما إذا لم يكن الأمر معلوماً للمكلّف لايتوقّف إلاّ على الإتيان بالعمل بداعي مجرّد احتمال الأمر ; لعدم إمكان الزائد على هذا المقدار في حقّه .
وأمّا إذا كان الأمر معلوماً للمكلّف ولو بالإجمال ، فتحقّق هذا العنوان يتوقّف على قصد رعاية الأمر وامتثاله مطلقاً ـ أي سواء كان المأمور به هو المحتمل الأوّل أو الثاني ـ وبدون ذلك لا مجال لتحقّق الامتثال ، فاللازم على المكلّف أن يكون حال الإتيان بالأوّل قاصداً للإتيان بالثاني ، وإلاّ لا يتحقّق الامتثال ولو انكشف كونه هو المأمور به .
ويمكن أن يقال عليه : إ نّه لا دليل على اعتبار هذا العنوان وتحقّقه في سقوط الأمر العبادي وحصول الغرض منه ، بل اللازم في باب العبادات مجرّد كون العمل صادراً لا عن داع دنيويّ ، والمفروض تحقّقه فيما نحن فيه ، فالظاهر بناءً على ما ذكرنا الاكتفاء بمجرّد الإتيان بداعي احتمال كون الأوّل هو المأمور به .
- (1) تهذيب الاُصول : 2 / 374 .
(الصفحة 50)
ثمّ إنّه على مبنى الشيخ(رحمه الله) لو بدا له بعد الإتيان بالأوّل قاصداً لعدم الإتيان بالآخر أو غير قاصد للإتيان به أن يأتي بالثاني أيضاً ، فهل يكفي ذلك في تحقّق الامتثال أم لا؟
الظاهر هو التفصيل بين ما لو انكشف كون الأوّل هو المأمور به ، فلا يكتفى به لعدم تحقّق قصد الامتثال ، وبين ما لو انكشف كون الثاني كذلك فيجتزئ به ; لأنّ إتيانه بداعي احتمال الأمر كاف بعد كونه هو المقدار الممكن في حقّه ، فتأمّل .
الأمر الثاني : حكي عن المحقّق القمّي(قدس سره) التفصيل في وجوب الاحتياط في باب الشرائط والموانع، بين ما يستفاد من مثل قوله(عليه السلام) : لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه(1) ، وما يستفاد من مثل قوله(عليه السلام) : لا صلاة إلاّ بطهور(2) . فاختار وجوب الاحتياط في موارد الشبهة الموضوعيّة في الثاني دون الأوّل(3) .
وهذا الكلام بظاهره ممّا لا يتمّ ، ولذا صار مورداً لاعتراض من تأخّر عنه ; بأ نّه لا فرق بمقتضى القاعدة العقليّة الحاكمة بوجوب الاحتياط بين الصورتين ، وأنّ حكم العقل بلزوم الإتيان بالأطراف أو الطرفين ثابت في البين ، ولكنّه وقع الإشكال في مبنى هذا التفصيل .
فالذي أفاده المحقّق النائيني ـ على ما في تقريراته ـ بعد استفادته من كلامه أنّ هذا التفصيل في باب الشرائط لا بينها وبين الموانع ، أنّ الوجه فيه قياس باب العلم
- (1) وسائل الشيعة : 4 / 347 ، كتاب الصلاة ، أبواب لباس المصلّي ب2 ح6 ، و فيه : في وصيّة النبي(صلى الله عليه وآله) لعلي(عليه السلام) ، قال : يا عليّ لا تصلّ في جلد ما لا يشرب لبنه ولا يؤكل لحمه .
-
(2) تهذيب الأحكام : 1/49 ح144 وص209 ح605 و ج 2/140 ح545 ، وعنه وسائل الشيعة : 1/365 ، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء ب1 ح1 .
-
(3) لم نعثر عليه في كتبه التي لدينا. نعم، حكى عنه المحقّق النائيني في فوائد الاُصول : 4/134 .
(الصفحة 51)
والجهل بالموضوع بباب القدرة والعجز ، فكما أنّ القدرة من شرائط الفعليّة لا التنجيز فكذا العلم . ثمّ أورد عليه بالفرق بين القدرة والعلم ; فإنّ القدرة من شرائط ثبوت التكليف وفعليّته والعلم من شرائط التنجيز(1) .
والذي اختاره سيدنا العلاّمة الأُستاذ ـ دام ظلّه ـ أنّ هذاالكلام من المحقّق القمّي(قدس سره) مبنيّ على ما هو المعروف منه من عدم كون العلم الإجمالي منجّزاً أصلا ، وأنّ الشبهة المقرونة لاتكون إلاّ كالشبهة البدويّة(2)، وحينئذفاللازم الرجوع إلى الأصل، وحيث إنّ المستفاد من العبارة الأُولى المانعية ومن الثانية الشرطية ، فالواجب في الصورة الاُولى هو الرجوع إلى البراءة لانحلال الحكم حسب أفراد المانع ، فيؤخذ في المعلوم ويجري في المشكوك الأصل ، والواجب في الصورة الثانية هو الرجوع إلى أصالة الاشتغال لوجوب إحراز الشرط ، ولا يحصل إلاّ بالصلاة في الثوبين مثلا .
ثمّ أورد ـ دام ظلّه ـ على ما أفاده المحقّق المتقدّم في مبنى التفصيل المذكور أوّلا :بأنّ القياس المذكور لا يصحّح التفصيل ; لعدم الفرق بين العجز عن الشرط والعجز عن المانع ، فلو كان مفاد الدليل هو الشرطيّة المطلقة والمانعيّة كذلك فلازمه سقوط الأمر بسبب عدم التمكّن ، وإن لم يكن كذلك فلازمه سقوط الشرط والمانع عن وصفهما ، كما لا يخفى .
وثانياً : بأنّ العلم والقدرة كلاهما من شرائط التنجيز ; لأنّ الأحكام الشرعيّة أحكام قانونيّة مطلقة ، وليست القدرة من شرائطها ، وإلاّ لكان الأصل الجاري مع الشك فيها هو أصل البراءة ، مع أنّ بناءهم على الاحتياط ، مضافاً إلى أ نّه من
- (1) فوائد الاُصول : 4 / 135 .
-
(2) راجع قوانين الاُصول: 2/26 ـ 28; وحكى عنه في فوائد الاُصول: 4/124 ـ 125.
(الصفحة 52)
البعيد أن يكون المستفاد من العبارة الاُولى بنظر المحقّق القمّي(رحمه الله) هو الشرطية بعد
كون جمهور الأصحاب(1) قائلا بالمانعية(2) .
ويمكن أن يقال : إنّ ما أفاده المحقّق القمي(رحمه الله) ليس مبنيّاً على ما هو المعروف منه من عدم ثبوت وصف التنجيز للعلم الإجمالي ، بل على أنّ الدليل المتضمّن لإفادة الشرعية أو المانعية لو كان بصورة الخطاب وبيان التكليف تقتصر في مفاده على خصوص المورد ، الذي يمكن أن يكون التكليف باعثاً إليه أو زاجراً عنه ، فإنّ التكليف في مثل المقام وإن لم يكن تكليفاً نفسياً بل يكون غيريّاً ، إلاّ أ نّه مع ذلك لايفيد الشرطية أو المانعية إلاّ بالمقدار الذي يمكن سعة دائرة التكليف .
ومن الواضح أنّ مثل قوله(عليه السلام) : لا تصلّ فيما لايؤكل لحمه(3) لا يمكن أن يكون زاجراً عن الفرد الذي يشكّ في كونه من مصاديق غير المأكول ، وهذا بخلاف
ما لو كان الدليل مثل قوله(عليه السلام) : لا صلاة إلاّ بطهور(4) الظاهر في عدم تحقّق الماهيّة
بدونه ، كما لا يخفى .
وهذا الذي ذكرناه وإن لم يكن خالياً عن النظر بل المنع ، إلاّ أ نّه يمكن أن يكون وجهاً لما أفاده القمّي(رحمه الله) ، فتأمّل(5) .
- (1) المبسوط: 1/82، جامع المقاصد: 2/81، مفتاح الكرامة: 5/466 وما بعده، جواهر الكلام: 8/75 وما بعده .
-
(2) تهذيب الاُصول : 2 / 372 ـ 373 .
-
(3 ، 4) تقدّما في ص50 .
-
(5) إشارة إلى أنّ هذا الوجه إنّما يصحّح التفصيل في خصوص الشبهات البدوية . وأمّا الشبهات المقرونة ، فعلى تقدير كون العلم الإجمالي منجّزاً ـ كما هو المفروض ـ لا يبقى فيها فرق ، كما أ نّه على هذا التقدير يلزم أن لا يكون الاجتناب فى التكاليف النفسية ـ مثل قوله : لا تشرب الخمر ـ في الشبهات المقرونة منها بالعلم الإجمالى لازماً أيضاً ، كما لا يخفى .
نعم ، يمكن أن يقال بأنّ هذا التفصيل من القمّي(رحمه الله) إنّما هو في خصوص الشبهة البدوية لا الأعمّ منها ومن المقرونة ، فلابدّ من المراجعة إلى كلامه ليظهر الحال ، المؤلّف دام ظلّه .