(الصفحة 52)
البعيد أن يكون المستفاد من العبارة الاُولى بنظر المحقّق القمّي(رحمه الله) هو الشرطية بعد
كون جمهور الأصحاب(1) قائلا بالمانعية(2) .
ويمكن أن يقال : إنّ ما أفاده المحقّق القمي(رحمه الله) ليس مبنيّاً على ما هو المعروف منه من عدم ثبوت وصف التنجيز للعلم الإجمالي ، بل على أنّ الدليل المتضمّن لإفادة الشرعية أو المانعية لو كان بصورة الخطاب وبيان التكليف تقتصر في مفاده على خصوص المورد ، الذي يمكن أن يكون التكليف باعثاً إليه أو زاجراً عنه ، فإنّ التكليف في مثل المقام وإن لم يكن تكليفاً نفسياً بل يكون غيريّاً ، إلاّ أ نّه مع ذلك لايفيد الشرطية أو المانعية إلاّ بالمقدار الذي يمكن سعة دائرة التكليف .
ومن الواضح أنّ مثل قوله(عليه السلام) : لا تصلّ فيما لايؤكل لحمه(3) لا يمكن أن يكون زاجراً عن الفرد الذي يشكّ في كونه من مصاديق غير المأكول ، وهذا بخلاف
ما لو كان الدليل مثل قوله(عليه السلام) : لا صلاة إلاّ بطهور(4) الظاهر في عدم تحقّق الماهيّة
بدونه ، كما لا يخفى .
وهذا الذي ذكرناه وإن لم يكن خالياً عن النظر بل المنع ، إلاّ أ نّه يمكن أن يكون وجهاً لما أفاده القمّي(رحمه الله) ، فتأمّل(5) .
- (1) المبسوط: 1/82، جامع المقاصد: 2/81، مفتاح الكرامة: 5/466 وما بعده، جواهر الكلام: 8/75 وما بعده .
-
(2) تهذيب الاُصول : 2 / 372 ـ 373 .
-
(3 ، 4) تقدّما في ص50 .
-
(5) إشارة إلى أنّ هذا الوجه إنّما يصحّح التفصيل في خصوص الشبهات البدوية . وأمّا الشبهات المقرونة ، فعلى تقدير كون العلم الإجمالي منجّزاً ـ كما هو المفروض ـ لا يبقى فيها فرق ، كما أ نّه على هذا التقدير يلزم أن لا يكون الاجتناب فى التكاليف النفسية ـ مثل قوله : لا تشرب الخمر ـ في الشبهات المقرونة منها بالعلم الإجمالى لازماً أيضاً ، كما لا يخفى .
نعم ، يمكن أن يقال بأنّ هذا التفصيل من القمّي(رحمه الله) إنّما هو في خصوص الشبهة البدوية لا الأعمّ منها ومن المقرونة ، فلابدّ من المراجعة إلى كلامه ليظهر الحال ، المؤلّف دام ظلّه .
(الصفحة 53)
الأمر الثالث : إذا كان المعلوم بالإجمال أمرين مترتّبين شرعاً كالظهرين ، واشتبه بعض شرائطهما كالقبلة والستر ، فلا إشكال في جواز الشروع في محتملات الواجب الثاني بعد استيفاء محتملات الأوّل ; سواء كان الشروع في الثاني على طبق الشروع في الأوّل أم لا ، ولا في عدم جواز استيفاء محتملات الثاني قبل استيفاء الأوّل ، ولا في عدم جواز الشروع في محتملات الثاني قبل استيفاء الأوّل على نحو يغاير الشروع في الأوّل كما هو ظاهر ، إنّما الإشكال في جواز الإتيان بهما مترتّباً ، كما إذا صلّى الظهر إلى جهة والعصر إلى تلك الجهة ، ثمّ صلّى الظهر إلى جهة أُخرى والعصر إليها ، وهكذا ، أو صلّى الظهرين قصراً ثمّ تماماً ، أو بالعكس .
والذي اختاره المحقّق النائيني ـ على ما في التقريرات ـ هو عدم الجواز ، بناءً على ما اختاره سابقاً من ترتّب الامتثال الإجمالي على الامتثال التفصيلي وتأخّره عنه(1) ، نظراً إلى أنّ في المقام جهتين :
إحداهما : إحراز القبلة في فرض اشتباهها ، وهو لا يمكن بنحو التفصيل
على ما هو المفروض ، فيجتزئ من جهته بالامتثال الإجمالي .
والأُخرى : إحراز الترتيب بين الصلاتين وهو بمكان من الإمكان ; لجواز الإتيان بجميع محتملات الواجب الأوّل ثمّ الشروع في الثاني . وعليه : يعلم حين الاشتغال بمحتملات العصر بوقوع الظهر قطعاً وحصول الترتيب جزماً ، وعدم العلم بأنّ العصر الواقعي هل هو المحتمل الأوّل أو الوسط أو الأخير إنّما هو للجهل بالقبلة لاالجهل بالترتيب ، وسقوط اعتبار الامتثال التفصيلي بالإضافه إلى شرط ـ لعدم الإمكان ـ لا يوجب سقوط اعتباره بالنسبة إلى ما يمكن من الشرائط كالترتيب في
(الصفحة 54)
المقام ، فلا وجه لرفع اليد عن هذه الجهة الدخيلة في الامتثال(1) ، انتهى ملخّص ما أفاده(قدس سره) .
وأورد عليه سيّدنا العلاّمة الاُستاذ دام ظلّه ـ مضافاً إلى منع المبنى ، نظراً إلى ما عرفت من كون الامتثالين في رتبة واحدة وعدم تأخّر الإجمالي عن التفصيلي ـ بمنع البناء ، نظراً إلى عدم الفرق بين هذه الصورة وبين ما إذا شرع في محتملات الثاني بعد استيفاء الأوّل ، وعدم كون الأمر في المقام دائراً بين الموافقة الإجمالية والتفصيليّة ، وذلك لأنّ كلّ واحد من محتملات العصر لو صادف القبلة فقد أتى قبله بالظهر ويحصل الترتيب واقعاً ، وغير المصادف منها عمل لا طائل تحته كغير المصادف من الآخر ولا ترتيب بينهما .
وبالجملة : الترتيب أمر إضافي يتقوّم بثلاثة أُمور : وجود الظهر ، ووجود العصر ، وتأخّر الثاني عن الأوّل ، ولا مجال لحصول العلم التفصيلي بتحقّق هذا الأمر الإضافي بعد عدم كون العصر معلوماً إلاّ بالإجمال ، فلا فرق بين الصورتين(2) .
وربما يقال : بأنّ الوجه في عدم جواز الشروع في العصر قبل استيفاء محتملات الأوّل ، هو أ نّه قد علم من الشرع بمقتضى الأدلّة(3) أنّ الاشتغال بالعصر إنّما يجوز بعد العلم بالفراغ عن الظهر ، فمع الشك في الفراغ عنه لا يجوز الاشتغال بالأمر المترتّب عليه .
ودعوى أنّ الاشتغال غير الجائز إنّما هو الاشتغال بالعصر الواقعي ، وفي هذه
- (1) فوائد الاُصول : 4 / 138 .
-
(2) تهذيب الاُصول : 2 / 375 ـ 377 .
-
(3) وسائل الشيعة: 4/125 ـ 131 و 156 ـ 162 و 290 ـ 293، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت: ب4 و 10 و 63 .
(الصفحة 55)
الصورة لا يعلم كونه هو العصر الواقعي ، بل كونه عصراً يلازم كون السابق ظهراً ، فلا وجه لعدم جواز الاشتغال به .
مدفوعة بأنّ المستفاد من الأدلّة ـ مثل دليل العدول ونحوه(1) ـ أنّ الشارع لم يرض بالاشتغال بصلاة بعنوان أنّها الصلاة اللاحقة إلاّ بعد العلم بفراغ الذمّة عن التكليف بالصلاة السابقة ، فمع الشكّ في الفراغ عن عهدة تكليف الظهر كيف يجوز الشروع في صلاة بعنوان أنّها صلاة العصر ؟ فتدبّر .
الأمر الرابع : قال صاحب العروة بعد حكمه بجواز العمل بالاحتياط ولو كان مستلزماً للتكرار : لكن يجب أن يكون عارفاً بكيفيّة الاحتياط بالاجتهاد أو بالتقليد(2) . وفي المستمسك : هذا شرط للاكتفاء بالاحتياط في نظر العقل ، بل لعلّ عدم المعرفة مانع من حصول الاحتياط فلا يحصل الأمن(3) .
أقول :يرد على المتن أ نّه بعد وضوح عدم كون هذا الوجوب إلاّ وجوباً عقليّاً إرشادياً لا دليل على لزوم المعرفة بكيفيّة الاحتياط من طريق التقليد أو الاجتهاد ، بل اللازم بعد ترك الطريقين هو التوسّل إلى الاحتياط ولو لم يكن عارفاً بكفيّـته ، بل احتاط في الكيفيّة أيضاً .
ألا ترى أ نّه في مثل اشتباه القبلة إذا كان الواجب أمرين مترتّبين شرعاً كالظهرين مثلا ، إذا أراد المصلّي الاحتياط بالصلاة إلى أربع جهات .
فتارة: يعرف من طريق الاجتهاد أو التقليد أنّ اللازم مثلا هو تقديم محتملات الظهر بجميعها ; بأن يأتي بها أوّلا ثمّ يأتي بمحتملات العصر ثانياً .
- (1) وسائل الشيعة: 4/290، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت: ب63 ، وص125 ب4 ، و ص156 ب10 .
-
(2) العروة الوثقى : 1/6 مسألة 2 .
-
(3) مستمسك العروة الوثقى : 1 / 7 .
(الصفحة 56)
وأُخرى: يشكّ في أ نّه هل يلزم عليه ذلك ، أو يجوز له الإتيان بمحتمل العصر عقيب محتمل الظهر بالنسبة إلى كلّ جهة من الجهات؟ فإذا احتاط في هذه الصورة لأجل تركه الطريقين وأتى بالكيفيّة الأُولى الموافقة للاحتياط لا مجال لدعوى عدم الاجتزاء به ، مستندة إلى عدم كون الكيفيّة معروفة عنده بالاجتهاد أو التقليد .
ضرورة عدم الفرق ـ في كفاية الاحتياط ـ بين الاحتياط في أصل العمل ، وبين الاحتياط في كيفيّته كما هو ظاهر . نعم ، يختصّ ذلك بما إذا كانت الكيفيّة جارياً فيها الاحتياط كما في المثال المفروض ، وإلاّ فلا محيص عن التوسّل بأحد الطريقين .
ويرد على الشرح ـ مضافاً إلى أنّ ظاهر صدر العبارة أنّ الاحتياط من دون معرفة الكيفيّة بأحد الطريقين لا يجوز الاكتفاء به في نظر العقل ، ولو مع العلم بإحراز الاحتياط وتحقّقه ، ونحن لا نتصوّر وجهاً لذلك ـ أ نّه لم يفهم وجه للترقي إلى أنّ عدم المعرفة مانع من حصول الاحتياط ; فإنّ عدم المعرفة مانع عن حصول العلم بالاحتياط لا عن حصول أصله ; لعدم كون العلم بالكيفيّة دخيلا في الذات بوجه .
الأمر الخامس : قال في العروة أيضاً : قد يكون الاحتياط في الفعل ، كما إذا احتمل كون الفعل واجباً وكان قاطعاً بعدم حرمته ، وقد يكون في الترك ، كما إذا احتمل حرمة فعل وكان قاطعاً بعدم وجوبه ، وقد يكون في الجمع بين أمرين مع التكرار ، كما إذا لم يعلم أنّ وظيفته القصر أو التمام(1) .
وفي شرح بعض الأعلام : لا يخفى أنّ حصر المصنّف(رحمه الله) كيفيّة الاحتياط في الصورة المذكورة لا يكون حاصراً لجميع الأقسام ، وذلك لأنّ متعلّق الشكّ
- (1) العروة الوثقى : 1/6 مسألة 3 .