(الصفحة 57)
قد يكون واقعة واحدة ، وقد يكون واقعتين ، فإذا كانت الواقعة واحدة فقد يحتمل وجوبها مع القطع بعدم حرمتها ; لئلاّ يكون من دوران الأمر بين المحذورين ، فالاحتياط حينئذ يكون في الفعل ; سواء كان الوجوب المحتمل استقلاليّاً أم ضمنيّاً ، وقد يحتمل حرمته مع القطع بعدم وجوبه ، فالاحتياط حينئذ في الترك .
وإذا تعدّدت الواقعة فقد يكون الاحتياط في الجمع بين الفعلين من دون تكرار لأصل الواجب ، كما إذا تردّد أمر القراءة في صلاة بين الجهر والإخفات ، فالاحتياط حينئذ يتحقّق بالقراءة مرّتين في صلاة واحدة ، إحداهما جهرية والأُخرى مع الخفوت ; بأن يقصد بذلك تحقّق الواجب بإحداهما ، وأن تكون الاُخرى مستحبّة ; فإنّها من قراءة القرآن في الصلاة ، أو مع التكرار في أصل الواجب ; كما إذا علم إجمالا بوجوب أحدالفعلين; كالقصر والإتمام. وقد يكون الاحتياط في ترك الفعلين معاً ; كما إذا علم بحرمة أحدهما لا بعينه مع العلم بعدم وجوب الآخر ، وقد يكون في فعل أحدالفعلين وترك الآخر ; كما إذا علم إجمالا بوجوب الأوّل أو حرمة الثاني(1).
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أ نّه مع إسقاط قيد التكرار يدخل جميع الفروض في العبارة ، ولعلّ ذكره كان للتوضيح بالإضافة إلى بعض الفروض لا للاحتراز ، فتدبّر . وإلى إمكان المناقشة في بعض الأمثلة المذكورة كالقصر والإتمام ، نظراً إلى إمكان دعوى كون الإتمام والإتيان بالصلاة أربع ركعات يوجب تحقّق ما هو المأمور به واقعاً ; سواء كان قصراً أو تماماً ، وذلك لأ نّه على تقدير كونه قصراً لامانع من صحّته تماماً إلاّ إضافة ركعتين وعدم وقوع التسليم في محلّه .
فإذا فرضنا أنّ التسليم ليس من أجزاء الصلاة وكونه مخرجاً والمخرج ليس من
- (1) دروس في فقه الشيعة: 1/32 .
(الصفحة 58)
أجزاء المخرج عنه ، وفرضنا أيضاً أنّ وقوع المنافي قبل التسليم وبعد التشهّد لا يضرّ بصحّة الصلاة كما ربما يحتمل ، فحينئذ يتحقّق المأمور به بالإتيان به تماماً ولو كان في الواقع قصراً ـ : أ نّ حصره أيضاً لا يكون حاصراً لجميع الأقسام ; لأ نّه قد يكون الاحتياط في اختيار أحد الفعلين ، كما في موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، الذي يحكم العقل فيه بالاحتياط والأخذ بالمعيّن ; فإنّ الاحتياط هنا ليس في أصل الفعل بل في اختيار الفعل المعيّن ، كما هو واضح .
وأمّا ما في المستمسك من أنّ الجمع يمكن أن يكون داخلا في الأوّل ، فتأمّل(1) .
ففيه : أنّ المراد بالأمرين في عبارة المتن ليس خصوص الفعلين حتى يكون الجمع داخلا في الأوّل ، بل المراد هو الأعمّ منه ومن التركين ومن فعل وترك كما عرفت ، ولعلّه لأجل هذا أمر بالتأمّل .
- (1) مستمسك العروة الوثقى : 1 / 8 .
(الصفحة 59)[معنى التقليد]
مسألة 2 : التقليد هو العمل مستنداً إلى فتوى فقيه معيّن; وهو الموضوع للمسألتين الآتيتين. نعم، ما يكون مصحّحاً للعمل هو صدوره عن حجّة ـ كفتوى الفقيه ـ وإن لم يصدق عليه عنوان التقليد، وسيأتي أنّ مجرّد انطباقه عليه
مصحّح له 1
1 ـ في هذه المسألة جهات من البحث :
الجهة الأُولى : في معنى التقليد بحسب اللغة .
الظاهر أنّ معناه جعل القلادة في الجِيد(1) والعنق ـ أي عنق الغير ـ ويتعدّى إلى مفعولين، وفيه استعمالات مجازية، مثل حديث الخلافة: قلّدها رسول الله(صلى الله عليه وآله) عليّاً(عليه السلام)(2)، وفي تطبيق هذا المعنى اللغوي على المعنى الاصطلاحي خلاف ينشأ من الاختلاف في المعنى الاصطلاحي، وسيأتي توضيحه بعد بيان ذلك المعنى إن شاء الله تعالى .
الجهة الثانية : في تفسير التقليد وبيان معناه الاصطلاحي .
فنقول : قد اختلف ظاهر كلماتهم في تعريفه ، والمتحصّل من مجموعها أربعة :
أحدها : ما حكي عن العلاّمة(قدس سره) في النهاية من أ نّه هو العمل بقول الغير من غير حجّة معلومة(3) ، وإليه يرجع تفسيره إلى العمل عن استناد ، أو الاستناد إلى الغير
- (1) الجِيد : العنق ، وقيل : مقلَّده ، لسان العرب مادّة «جيد» .
-
(2) الكافي : 1 / 199 ح1 .
-
(3) وحكى عنه في الفصول الغروية : 411 .
(الصفحة 60)
في العمل .
ثانيها: ما حكي عن جامع المقاصد من أنّه عبارة عن قبول قول الغير من غير حجّة(1).
ثالثها: ماحكي عن العضدي من أ نّه الأخذ بقول الغير من غير حجّة(2) . واختاره المحقّق الخراساني(قدس سره) في الكفاية ، حيث قال : إنّه أخذ قول الغير ورأيه للعمل به في الفرعيّات ، أو للالتزام به في الاعتقاديات تعبّداً بلا مطالبة دليل على رأيه(3) .
رابعها : التفسير بالالتزام بالعمل بقول مجتهد معيّن، كما اختاره صاحب العروة(4)ونسب إلى ظاهر الفصول(5) .
إذا عرفت ذلك يقع الكلام في أمرين :
الأمر الأوّل : أ نّه هل الاختلاف الذي عرفته في معنى التقليد اختلاف حقيقي في معناه ومفهومه ، أو أ نّه اختلاف بحسب العبارة والنزاع في الحقيقة لفظي؟
ربما يقال بالثاني ، نظراً إلى أنّ عدم تعرّضهم للخلاف في ذلك مع تعرّضهم لكثير من الجهات غير المهمّة يدلّ على عدم تحقّق الاختلاف واقعاً ، وأنّ مراد الجميع واحد(6) ، ويؤيّده ما عن القوانين(7) من نسبة التعريف بالعمل بقول الغير من غير
- (1) جامع المقاصد: 2/69، وفيه: «أنّ التقليد هو قبول قول الغير المستند إلى الاجتهاد» و قال في رسائله ج 3/175 : «المقلِّد في اصطلاحهم هو الآخذ بقول الغير من غير حجّة ملزمة» .
-
(2) شرح العضدي لمختصر المنتهى : 2 / 305 .
-
(3) كفاية الاُصول : 539 .
-
(4) العروة الوثقى: 1/ 7 مسألة 8.
-
(5) الفصول الغرويّة : 411 .
-
(6) مستمسك العروة الوثقى: 1/11.
-
(7) قوانين الاُصول : 2 / 160 .
(الصفحة 61)
حجّة إلى العضدي وغيره ، مع أنّ تعريف العضدي كما عرفت إنّما هو الأخذ ، مع أنّ الظاهر أنّ المراد بالأخذ هو العمل كما في كثير من المقامات ; مثل الأخذ بما وافق الكتاب ، والأخذ بما خالف العامّة ، والأخذ بقول أعدلهما ، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرّمات ، إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة ، ولعلّه كان هو المراد من القبول المذكور في كلام بعضهم .
ولكنّ الظاهر عدم كون النزاع لفظيّاً ; لأ نّه ـ مضافاً إلى أنّ تفسير الأخذ بالعمل مع احتمال أن يكون المراد به التعلّم أو أخذ الرسالة ممّا لا شاهد له ، وكذا تفسير القبول به ـ على تقدير تسليم ذلك لا يرجع النزاع إلى اللفظ ; لتصريح القائل بالالتزام بعدم لزوم العمل في تحقّق التقليد كما في العروة(1) . وصرّح به صاحب الفصول(2) على ما حكي ، فكيف يجتمع مع القول بأنّ التقليد هو نفس العمل ، وعدم التعرّض للخلاف لا دلالة فيه على عدم كون المسألة خلافية ، كما هو ظاهر .
مضافاً إلى أنّهم رتّبوا الثمرة على هذا النزاع وبنوا مسألة البقاء على تقليد الميّت ، وكذا مسألة العدول عن الحيّ إلى الآخر المساوي له في الفضل على الخلاف في معنى التقليد ; فإنّه وإن كان ترتّب الثمرة والابتناء محلّ نظر بل منع ـ كما سيأتي في المسألتين إن شاء الله تعالى ـ إلاّ أنّ البناء على الخلاف في معنى التقليد دليل على كون الاختلاف فيه لا ينحصر باللفظ ، بل النزاع في أمر حقيقي كما هو غير خفيّ .
الأمر الثاني : أنّه ـ بعد البناء على كون الاختلاف في مفهوم التقليد ومعناه اختلافاً معنوياً ـ يقع الكلام في تحقيق ما هو الحقّ في معناه .
- (1) العروة الوثقى : 1 / 7 مسألة 8 .
-
(2) الفصول الغرويّة : 411 .