(الصفحة 74)
ويؤيّد التعميم ما ورد في تفسير الآية من الأخبار(1) الدالّة على وجوب النفر لأجل معرفة الإمام اللاّحق إذا مات الإمام السابق ، وأنّ النافرين في عذر ما داموا في الطلب ، والمنتظرين في عذر حتى يرجع إليهم أصحابهم .
وأمّا المقدّمة الثالثة : فكذلك ; لعدم الدليل على كون الإنذار من سنخ ما يتفقّه فيه لو لم نقل بظهور الآية في خلافه ، نظراً إلى أ نّه لم يجعل الإنذار مترتّباً على التفقّه ، بل جعل غاية للنفر في عرض التفقّه ، ففي الحقيقة يترتّب على النفر أمران : التفقّه والإنذار في رتبة واحدة ، مضافاً إلى أنّ صدق الإنذار على مجرّد الفتوى بالحكم الوجوبي أو التحريمي من دون أن يكون مقروناً بالتوعيد والتخويف ممنوع ; فإنّه لا يصدق عنوان المنذِر ـ بالكسر ـ على الحاكم بمثل ذلك ، فضلا عن المجتهد الذي استنبط الحكم .
وأمّا المقدّمة الرابعة : فيردّها أنّ حمل الحذر في الآية على مجرّد العمل على طبق فتوى المجتهد بالإتيان بما أفتى بوجوبه ، وترك ما أفتى بتحريمه خلاف الظاهر ، بل الظاهر أ نّه عبارة عن الخوف أو الترك الناشئ عن الخوف ، فيقال للمريض الذي اجتنب عن أكل غذاء مخصوص مثلا أ نّه تحذّر عنه لأجل تركه الناشئ عن خوف إدامة المرض أو شدّته، وإلاّ فمجرّد الترك لايصدق عليه هذاالعنوان فضلا عن الفعل.
ومن المعلوم أنّ مثل هذا الأمر القلبي أمر غير اختياريّ لا يمكن أن يتعلّق به الحكم الإلزامي . نعم ، يمكن إيجاده بمقدّمات يترتّب عليها ذلك قهراً ، وليس مثل الأفعال الاختياريّة القابلة لتعلّق الإرادة بها كما لا يخفى ، ومع هذا الوصف لا يبقى مجال لاستفادة الوجوب منها .
- (1) الكافي : 1 / 378 ـ 380 ، باب ما يجب على الناس عند مضيّ الإمام(عليه السلام).
(الصفحة 75)
وأمّا المقدّمة الخامسة : فيردّها وضوح عدم ثبوت الإطلاق للآية من حيث وجوب الحذر ; لأنّها ليست إلاّ مسوقة لبيان وجوب النفر لا لبيان غايتيّة التحذّر مطلقاً ، فلا دلالة لها على وجوب التحذّر ولو مع عدم حصول العلم للمنذَر ـ بالفتح ـ .
بل يمكن أن يقال بظهورها في خصوص هذه الصورة ، إمّا لأجل دلالتها على وجوب الإنذار على كلّ واحد من الطائفة النافرة بالنسبة إلى جميع القوم والفرقة . وبعبارة أُخرى : يجب إنذار جميع القوم على كلّ واحد من الطائفة المتعدّدة النافرة المتفقّهة ، وفي هذه الصورة يحصل للمنذَرين ـ بالفتح ـ العلم غالباً لأجل تعدّد المنذِرين ـ بالكسر ـ ، وإمّا لِما أفاده في الكفاية(1) من أنّ وجوب الحذر إنّما هو مع إحراز أنّ الإنذار إنّما هو بما تفقّهوا فيه لا بشيء آخر موضوع أو مجعول ، فلا يجب التحذّر إلاّ مع حصول العلم ، فتدبّر .
ثمّ إنّه مع تسليم هذه المقدّمات لا يبقى مجال للإشكال على الاستدلال بالآية ; لوجوب التقليد بما أفاده بعض المحقّقين في رسالته في الاجتهاد والتقليد ، حيث قال : إن كان التفقّه موقوفاً على إعمال النظر كانت الآية دليلا على حجّية الفتوى وإلاّ فلا ، ومن الواضح صدق التفقّه في الصدر الأوّل بتحصيل العلم بالأحكام بالسماع من النبي(صلى الله عليه وآله) أو الإمام(عليه السلام) ، فلا دلالة لها حينئذ إلاّ على حجّية الخبر فقط ، والإنذار بحكاية ماسمعوه من المعصوم(عليه السلام) من بيان ترتّب العقاب على شيءفعلاأوتركاً لاينبغي الريب فيه ، بل الإفتاء والقضاء أيضاً كان في الصدر الأوّل بنقل الخبر ، فتدبّر(2) .
- (1) كفاية الاُصول: 343.
-
(2) بحوث في الاُصول، الاجتهاد والتقليد: 18 .
(الصفحة 76)
وذلك ; لأ نّه ـ مضافاً إلى عدم كون التفقّه في الصدر الأوّل صادقاً بمجرّد السماع عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) أو الإمام(عليه السلام) ; لِما عرفت من وجود التفقّه بمعناه الحقيقي الملازم لإعمال النظر في الصدر الأوّل ، لمثل الرواية المتقدّمة(1) الدالّة على أنّ وظيفة أصحابهم(عليهم السلام)التفريع على الاُصول المتلقّاة عنهم، وأنّ من عرف معاني كلامهم يكون أفقه الناس ـ يردعليه: أنّ اختلاف مراتب التفقّه من حيث السهولةوالصعوبة لايوجب اختصاص الآية بخصوص المرتبة الموجودة في الصدر الأوّل ; لعدم وجود ما يدلّ عليه.
ودعوى عدم كون تلك المرتبة صادقاً عليها عنوان التفقّه ، يدفعها استعمال التفقّه في الآية الشريفة ، فمجرّد نقل الخبر إن كان مصداقاً للتفقّه فالآية غير مختصّة به ، وإن لم يكن مصداقاً له فالآية غير شاملة له ، بل لابدّ من الالتزام بوجود التفقّه الملازم لإعمال النظر في عصر النزول لئلا تكون الآية الشريفة بلا مورد، كما لايخفى.
وقد انقدح من جيمع ما ذكرنا أ نّه لا دلالة للآية على حجيّة فتوى المجتهد بالإضافة إلى المقلد ، وأنّ معناها(2) بحسب الظاهر ـ والله العالم ـ أ نّه يجب على الفقيه الإنذار والتخويف والتوعيد ليحصل للناس حالة التخوّف والتحذّر النفساني ، فيصير ذلك موجباً للقيام بما هو وظيفتهم والتعرّض لامتثال ما على عهدتهم من التكاليف الإلهيّة ، والتناسب بين الإنذار والتفقّه لأجل كون الفقيه عالماً بشؤون
- (1) في ص70 .
-
(2) بل معناها بحسب التحقيق هو تفقّه النافرين بسبب ما يرونه في الجهاد من النصرة الإلهيّة والإمدادات الغيبيّة وقوّة الإيمان ، وإنذار القوم الذين هم الكفّار الموجودون في المدينة لعلّهم يحذرون ويدخلون في دين الله ، أو يصون الإسلام والمسلمون من شرورهم ، ويؤيّد ذلك رجوع الضمير في «ليتفقّهوا» وما بعده إلى النافرين لا المتخلّفين ; لعدم كونهم مذكورين ، وأيضاً لا يناسب الحذر بالنسبة إلى المجاهدين ، المؤلّف أدام الله ظلّه على رؤس المسلمين .
(الصفحة 77)
الإنذار وحدوده وكيفيّته وخصوصيّاته ; لأ نّه الذي يكون عارفاً بشرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وبالعقوبات المترتّبة على ترك الأوّل وفعل الثاني ، فالإنذار المطابق للواقع إنّما يتحقّق منه كما هو ظاهر .
ومنها : آية السؤال قال الله ـ تبارك وتعالى ـ : {وَ مَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ فَسْـَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(1) .
وتقريب الاستدلال بها أنّها تدلّ على وجوب السؤال على الجاهل غير العالم ، ومن المعلوم أنّ فائدة السؤال إنّما هي ترتيب الأثر على الجواب ; لأنّ السؤال بما هو لا يكون له موضوعيّة ، فإيجابه من دون وجوب العمل على طبق الجواب يكون لغواً ظاهراً ، وحيث إنّ الفقيه من المصاديق الواضحة لأهل الذكر فالآية تدلّ بإطلاقها على حجّية فتواه إذا كانت مسبوقة بالسؤال ، وفيما إذا لم تكن مسبوقة تكون فتواه أيضاً حجّة ; لعدم الفصل أو لدلالة نفس الآية ـ على ما هو المتفاهم منها عند العرف ـ على عدم دخالة سبق السؤال بوجه ، كما هو ظاهر .
واُورد على الاستدلال بها بأ نّه إنّما يتمّ لو كان الحكم فيها عامّاً شاملا لكلّ جاهل ، وكان المراد من أهل الذكر عنوانه العامّ الشامل للفقيه أيضاً ، مع أ نّه لو اقتصر النظر على ظاهرها يكون مقتضاها اختصاص الحكم بالمشركين ، حيث استغربوا أن يخصّص الله ـ تبارك وتعالى ـ رجلا بالنبوّة والسفارة ، ويحصل لبشر هذه المزيّة والفضيلة ، وعليه : فالحكم بوجوب السؤال متوجّه إليهم ويكون المراد من أهل الذكر علماء اليهود والنصارى(2) .
- (1) سورة الأنبياء : 21/ 7 .
-
(2) المورد هو المحقّق الخراساني في كفاية الاُصول: 540 ، والمحقّق الإصفهاني في بحوث في الاُصول، الاجتهاد والتقليد: 18.
(الصفحة 78)
والمعنى حينئذ أنّكم أيّها المشركون إن كنتم لا تعلمون ولا يكون إنكاركم ناشئاً عن العناد واللجاج ، بل عن الجهل وعدم الاطّلاع فاسألوا علماء اليهود والنصارى المطّلعين على الكتب السماوية المبشّرة برسالة خاتم النبيّين ، والمشتملة على ذكر الأمارات والعلائم . ولو راجعنا إلى الأخبار الواردة في تفسير الآية(1) يكون المستفاد منها أنّ أهل الذكر هم الأئمّة المعصومون ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ لا غير ، فلا مجال معها لدعوى كون الفقيه أيضاً من أهل الذكر .
وبالجملة : فالآية لا دلالة فيها على شمول الحكم لكلّ جاهل وعلى عموم أهل الذكر للفقيه ونحوه .
وقد أُجيب عن هذا الإيراد بأنّ الآية قد تضمّنت كبرى كلّيّة قد تنطبق على أهل الكتاب ، وقد تنطبق على الأئمّة(عليهم السلام) ، وقد تنطبق على العالم والفقيه حسبما تقتضيه المناسبات على اختلافها باختلاف المقامات ، فإنّ المورد إذا كان من الاعتقاديّات كالنبوّة وما يرجع إلى صفات النبيّ(صلى الله عليه وآله) فالمناسب السؤال عن علماء أهل الكتاب ، ولو كان من الأحكام الفرعيّة فالمناسب الرجوع إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله) أو الأئمّة(عليهم السلام) مع التمكّن ، ومع عدمه إلى الفقهاء ، فالآية تضمّنت كبرى رجوع الجاهل إلى العالم المنطبقة على كلّ من أهل الكتاب وغيرهم(2) .
ويمكن الخدشة في هذا الجواب بأ نّه تارة يقال : إنّ الآية لا تكون بصدد تحميل تعبّديّ وإيجاب مولويّ ، بل غرضها الإرشاد إلى ما هو المرتكز عند العقلاء من رجوع الجاهل إلى العالم . واُخرى يقال : بأنّها بصدد إفادة حكم مولويّ تعبّديّ .
- (1) الكافي : 1 / 210 ـ 212 ، باب أنّ أهل الذكر . . . هم الأئمّة(عليهم السلام) .
-
(2) المجيب هو المحقّق الاصفهاني في نهاية الدراية: 2/229، والسيّد الخوئي في مصباح الاُصول: 2 / 189 ـ190 ودروس في فقه الشيعة: 1/12 والتنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 89 ـ 90 .