(الصفحة 79)
فعلى الأوّل: يكون المتّبع هي السيرة العقلائيّة الجارية في سائر الموارد .
وعلى الثاني : الذي يبتني عليه الجواب لا مجال لدعوى أنّ الآية تتضمّن كبرى كلّيّة قد تنطبق على أهل الكتاب وعلمائهم ، وقد تنطبق على الأئمّة(عليهم السلام) ; فإنّه على تقدير كون المخاطب هم المشركين ، وأهل الذكر علماء اليهود والنصارى كيف يمكن دعوى اشتمال الآية على كبرى كلّيّة وإفادتها أمراً عامّاً ، كما أ نّه مع ملاحظة الروايات الدالّة على أنّ أهل الذكر هم خصوص الأئمة(عليهم السلام) لا مجال لدعوى عموم الحكم في الآية ، بعد فرض كونه حكماً مولويّاً تعبّدياً .
ثمّ إ نّه اُورد على الاستدلال بها أيضاً بأنّ المراد من الآية الكريمة وجوب السؤال عنهم حتى يحصل العلم للسائل من الجواب ويعمل على طبق علمه ; لأنّ تعليق وجوب السؤال على عدم العلم ظاهر في ارتفاع عدم العلم ـ الذي هو المعلّق عليه الإيجاب ـ بالسؤال والجواب عقيبه ، كما هو ظاهر(1) .
وأُجيب عنه بوجهين :
أحدهما : أنّ مثل هذا الخطاب إنّما هو لبيان الوظيفة عند عدم العلم والمعرفة في قبال العلم بالحال ، لا أ نّه مقدّمة لتحصيل العلم ، مثلا يقال: إذا لست بطبيب فراجع الطبيب في العلاج ; فإنّ المتفاهم العرفي من مثله أنّ الغاية من الأمر بالمراجعة إنّما هو العمل على طبق قول الطبيب ، لا أنّ الغاية صيرورة المريض طبيباً وعالماً بالعلاج حتى يعمل على طبق علمه ونظره(2) .
ويرد على هذا الوجه ـ مضافاً إلى أنّ المقام نظير ما يقال : «إذا كنت مريضاً
- (1) المورد هو المحقّق الخراساني في كفاية الاُصول: 540.
-
(2) المجيب هو السيّد الخوئي في التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد و التقليد: 89.
(الصفحة 80)
فراجع الطبيب» فإنّ المتفاهم العرفي من مثله أنّ الغاية من الأمر بالمراجعة هو ارتفاع المرض ، فالغاية من الأمر بمراجعة المبتلى بمرض الجهل إلى العالم هو ارتفاع مرضه ورفع جهله بالرجوع إلى العالم ، كما لا يخفى ـ : أنّ مقتضى ذلك تكرّر السؤال ولزومه ثانياً وثالثاً ، وهكذا إلى أن يحصل العلم ; لصدق عنوان الجهل ما دام عدم العلم ، فيجب عليه التكرار لحصول المعلّق ما دام المعلّق عليه متحقّقاً ، ومن الواضح خلافه ، فلا محيص من أن يقال : إنّ الغاية هو حصول العلم .
ثانيهما : ما أفاده بعض المحقّقين(قدس سره) في رسالة الاجتهاد والتقليد من أنّ الظاهر وجوب السؤال حتى يحصل له العلم بمجرّد الجواب لا بأمر زائد عليه، وهذا لا يتمّ إلاّ مع كون الجواب مفيداً للعلم تعبّداً ، وعليه : فيستفاد من الآية وجوب قبول قول المجيب وترتيب الأثر العملي عليه ; لأ نّه علم تعبّدي(1) .
ويرد عليه: أنّ الظاهر كون المراد بالعلم الحاصل بالجواب هو العلم الذي علّق وجوب السؤال على عدمه ، ومن المعلوم أنّ المراد به هو العلم الواقعي الحقيقي ، فالغاية من الأمر بالسؤال إنّما هو تحقّق هذا العلم لا علم تعبّدي ، كما هو غير خفي .
وأُورد على الاستدلال بالآية بإيراد ثالث ; وهو أنّ موردها ينافي القبول التعبّدي ; لأ نّه من الاُصول الاعتقادية التي يكون الواجب فيها تحصيل العلم(2) .
وقداعترف بورود هذاالإيراد من أجاب عن الإيراد الأوّل; بماعرفت من تضمّن الآية للكبرى الكلّيّة ، مع أنّ مقتضى ذلك الجواب عدم هذا الاعتراف ، فتأمّل .
وقد تحصَّل من جميع ما ذكرنا عدم تماميّة الاستدلال بآية السؤال أيضاً .
- (1) بحوث في الاُصول، الاجتهاد و التقليد: 18.
-
(2) المورد هو السيّد الخوئي في التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 90.
(الصفحة 81)
ثمّ إنّ هناك آيات دالّة على النهي عن التقليد عموماً أو خصوصاً :
أمّا الطائفة الاُولى : فهي الآيات الناهية عن العمل بالظنّ واتّباع غير العلم .
وأمّا الطائفة الثانية : فكقوله ـ عزّ من قائل حكاية عنهم ـ : {إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّة وَ إِنَّا عَلَى ءَاثَـرِهِم مُّقْتَدُونَ}(1). وقوله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ أَوَ لَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْـًا وَلاَ يَهْتَدُونَ}(2). وقوله ـ تعالى ـ : {وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ أَوَ لَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْـًا وَ لاَ يَهْتَدُونَ }(3) .
والجواب عن الطائفة الاُولى : أنّها لا تدلّ على حرمة التقليد وعدم حجّيّة فتوى المجتهد ، ولا على النهي عن اتّباع شيء من الأمارات المعتبرة ، وذلك لأنّ اعتبارها مستند إلى العلم ، إذ لا يعقل الانتهاء إلى الظنّ ، مع أنّ الأصل الأوّلي فيه عدم الحجّيّة وعدم ترتّب شيء من آثارها ، ولهذا اشتهر أنّ الشكّ في الحجّيّة مساوق للقطع بعدمها ، فحجّيّة كلّ حجّة لا محالة تنتهي إلى العلم . وعليه : فلا مجال لشمول قوله ـ تعالى ـ : {وَ لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِى عِلْمٌ}(4) لمثلها ، وإلاّ يلزم عدم حجّيّة ظاهرة ; لأ نّه أيضاً من الأمارات التي لا تفيد إلاّ الظنّ نوعاً ، فاللازم إمّا الالتزام بعدم حجّيّة ظواهرها الدالّة على النهي والمذمّة على اتّباع غير العلم مطلقاً ، وإمّا الالتزام بعدم شمولها لمثل فتوى المجتهد التي قام الدليل القطعي على
- (1) سورة الزخرف : 43 / 23 .
-
(2) سورة المائدة : 5 / 104 .
-
(3) سورة البقرة : 2 /170 .
-
(4) سورة الإسراء : 17 / 36 .
(الصفحة 82)
اعتبارها وحجّيتها ، وعلى كلا التقديرين يثبت المطلوب .
وعن الطائفة الثانية : أنّها أجنبية عمّا نحن فيه ; لأنّ محلّ البحث إنّما هو حجّيّة فتوى المجتهد العالم في خصوص المسائل الفرعيّة والأحكام العمليّة غير الاعتقاديّة ، وهذه الطائفة من الآيات إنّما وردت فى مقام التوبيخ والمذمّة على التقليد في الاُصول الاعتقادية الراجعة إلى النبوّة وشؤونها ، مع أنّهم كانوا يقلّدون آباءهم الذين هم كانوا مثلهم في الجهل وعدم العقل ، والضلالة وعدم الاهتداء .
ومن الواضح أنّ رجوع الجاهل إلى مثله بمجرّد تحقّق الارتباط النسبي والاُبوّة والبنوّة لا يجوز عند العقل والعقلاء ، كما أنّ التقليد في الاُصول الاعتقاديّة التي يكون المطلوب فيها تحصيل العلم واليقين غير جائز ، فهذه الآيات الكريمة لامساس لها بالمقام أصلا .
ثالثها : الروايات الكثيرة المستفيضة بل المتواترة إجمالا ; للعلم الإجمالي بصدور بعضها ، الدالّة على جواز التقليد أو الإفتاء الملازم لجواز التقليد أو الإرجاع إلى خواصّ أصحابهم ، أو النهي عن الإفتاء بغير علم الدّال بالمفهوم على جوازه إذا كان عن مدرك صحيح ومستند معتبر ، أو على جواز الاجتهاد وتعليم طريقته وبيان ما يجب الأخذ به من الدليل في صورة التعارض ، أو على أ نّه مع وجود دلالة الكتاب وظهوره في بيان حكم المسألة لا حاجة إلى السؤال والاستفهام ، وغير ذلك من العناوين الملازمة لجواز الاجتهاد والتقليد .
وينبغي نقل هذه الروايات للحاجة إلى ملاحظتها في مسألة تقليد الأعلم الآتية إن شاء الله تعالى أيضاً :
منها : ما رواه أحمد بن علي بن أبى طالب الطبرسي في الاحتجاج عن أبي محمّد العسكري(عليه السلام) في قوله ـ تعالى ـ : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَـبَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ
(الصفحة 83)
يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ}(1) . قال : هذه لقوم من اليهود ـ إلى أن قال :ـ وقال رجل للصادق(عليه السلام) : إذا كان هؤلاء العوام من اليهود لا يعرفون الكتاب إلاّ بما يسمعونه من علمائهم ، فكيف ذمّهم بتقليدهم والقبول من علمائهم؟ وهل عوام اليهود إلاّ كعوامنا يقلّدون علماءهم؟ ـ إلى أن قال :ـ فقال(عليه السلام) : بين عوامنا وعوام اليهود فرق من جهة ، وتسوية من جهة ، أمّا من حيث الاستواء ; فإنّ الله ذمّ عوامنا بتقليدهم علماءهم ، كما ذمّ عوامهم . وأمّا من حيث افترقوا ; فإنّ عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح ، وأكل الحرام والرشا ، وتغيير الأحكام ، واضطرّوا بقلوبهم إلى أنّ من فعل ذلك فهو فاسق ، لا يجوز أن يصدّق على الله ، ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله ، فلذلك ذمّهم .
وكذلك عوامنا إذا عرفوا من علمائهم الفسق الظاهر ، والعصبيّة الشديدة ، والتكالب على الدنيا وحرامها ، فمن قلّد مثل هؤلاء فهو مثل اليهود الذين ذمّهم الله بالتقليد لفسقة علمائهم ، فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه ، مخالفاً على هواه ، مطيعاً لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلّدوه ، وذلك لا يكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة لا كلّهم ، فإنّ من ركب من القبائح والفواحش مراكب علماء العامّة فلا تقبلوا منهم عنّا شيئاً ولا كرامة ، وإنّما كثر التخليط فيما يتحمّل عنّا أهل البيت لذلك ; لأنّ الفسقة يتحمّلون عنّا فيُحرّفونه بأسره لجهلهم ، ويضعون الأشياء على غير وجهها لقلّة معرفتهم ، وآخرون يتعمّدون الكذب علينا ، الحديث(2) .
ومنها : ما في رجال النجاشي في ترجمة أبان بن تغلب من قوله(عليه السلام) له : إجلس في
- (1) سورة البقرة : 2 / 79 .
-
(2) الاحتجاج : 2/ 509 ـ 512، رقم 337، وعنه وسائل الشيعة : 27/131 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب10 ح20 .