(الصفحة 105)
بعينـه» وعرفت أنّ التمسّك بها للمقام مبني على أن يكون المراد من الشيء هو المجموع من الحلال والحرام والمختلط منهما، إذ ليس كلّ واحد من الأطراف فيـه الحلال والحرام، بل ما فيـه الحلال والحرام هو مجموع المشتبهين أو المشتبهات والمختلط منهما أو منها، فأصالـة الحلّيـة الجاريـة بمقتضى هذه الصحيحـة إنّما تجري في مجموع الأطراف، لا في كلّ واحد منها، لعدم كون كلّ واحد منها مصداقاً ومورداً لها، كما لايخفى.
وحينئذ فلا دليل على جريانها في كلّ واحد من الأطراف حتّى يقيّد إطلاق حجّيتها بما إذا لم تجر في الطرف الآخر، لاستلزام بقاء الإطلاق المحذور المتقدّم.
وإن شئت قلت: إنّ المحذور ـ وهو لزوم المخالفـة العمليـة ـ إنّما يلزم من جريانها مطلقاً، سواء كان إطلاقها بالنسبـة إلى الأفراد الاُخر التي هي عبارة عن الشبهات الاُخر المقرونـة بالعلم الإجمالي محفوظاً أم غير محفوظ، ضرورة أنّ جريانها ولو في شبهـة واحدة مقرونـة بالعلم الإجمالي يوجب المخالفـة العمليـة والإذن في المعصيـة، كما هو واضح.
وبالجملـة: موارد جريان أصل الحلّيـة هو كلّ مشتبـه بالشبهـة المقرونـة بالعلم الإجمالي، أي المختلط من الحلال والحرام، ولابدّ من أن يلاحظ الإطلاق بالنسبـة إليـه، وقـد عرفت أنّ تقيـيد الإطـلاق أيضاً لايوجب رفـع المحذور، كما لا يخفى، هذا.
وأمّا أدلّـة الاستصحاب فهي وإن كانت مقتضاها جريانـه في كلّ واحد من الأطراف، لوجود اليقين السابق والشكّ اللاحق فيـه، إلاّ أنّ ذلك مبني على أن يكون المراد من اليقين المأخوذ في أدلّتـه وكذا الشكّ هو اليقين والشكّ
(الصفحة 106)
الوجدانيـين، مع أنّا سنمنع ذلك في بحث الاستصحاب ونقول: إنّ ظاهرها هو كون المراد باليقين هي الحجّـة المعتبرة، وبالشكّ هو عدم الحجّـة، ومن الواضح وجود الحجّـة في أطراف العلم الإجمالي، فلا يكون من نقض الحجّـة بغيرها، كما لايخفى.
ثمّ إنّـه أجاب المحقّق النائيني عن هذا الوجـه
الذي أورده على نفسـه بكلام طويل، وملخّصـه: أنّ الموارد التي يحكم فيها بالتخيـير مع عدم قيام دليل عليـه بالخصوص لا تخلو عن أحد أمرين:
أحدهما: اقتضاء الكاشف والدليل الدالّ على الحكم التخيـير في العمل.
وثانيهما: اقتضاء المنكشف والمدلول ذلك وإن كان الدليل يقتضي التعيـينيّـة.
فمن الأوّل: ما إذا ورد عامّ كقولـه: «أكرم العلماء»، وعلم بخروج زيد وعمرو عن العامّ، ولكن شكّ في أنّ خروجهما هل هو على نحو الإطلاق، أو أنّ خروج كلّ منهما مشروط بحال عدم إكرام الآخر.
وبعبارة اُخرى: دار الأمر بين أن يكون التخصيص أفراديّاً وأحواليّاً معاً أو أحواليّاً فقط، والوظيفـة في هذا الفرض هو التخيـير في إكرام أحدهما، لأنّ مرجع الشكّ إلى الشكّ في مقدار الخارج عن عموم وجوب إكرام العلماء، ولابدّ من الاقتصار على المتيقّن خروجـه وهو التخصيص الأحوالي فقط، فلا محيص عن القول بالتخيـير، إلاّ أنّ منشأه هو اجتماع دليل العامّ وإجمال دليل الخاصّ بضميمـة وجوب الاقتصار على القدر المتيقّن، وليس التخيـير فيـه لأجل اقتضاء المجعول لـه، بل المجعول في كلّ من العامّ والخاصّ هو الحكم التعيـيني، فالتخيـير إنّما نشأ من ناحيـة الدليل.
(الصفحة 107)
ومن الثاني: المتزاحمان في مقام الامتثال; فإنّ التخيـير فيهما إنّما هو لأجل أنّ المجعول في باب التكاليف معنى يقتضي التخيـير في امتثال أحد المتزاحمين، لأنّـه يعتبر عقلا فيها القدرة على الامتثال، وحيث لا تكون القدرة محفوظـة في كليهما فالعقل يستقلّ بالتخيـير، والفرق بين التخيـير في هذا القسم والتخيـير في القسم الأوّل أنّ التخيـير هناك ظاهري وهنا واقعي.
إذا عرفت ذلك نقول:
إنّ القول بالتخيـير في باب الاُصول لا شاهد عليـه لا من ناحيـة الدليل والكاشف، ولا من ناحيـة المدلول والمنكشف.
أمّا انتفاء الأوّل: فواضح، فإنّ دليل اعتبار كلّ أصل من الاُصول العمليّـه إنّما يقتضي جريانـه عيناً، سواء عارضـه أصل آخر أو لم يعارضـه.
وأمّا انتفاء الثاني: فلأنّ المجعول فـي باب الاُصول العمليـة ليس إلاّ الحكم بتطبيق العمل على مؤدّى الأصل بما أنّـه الواقـع أولا بما أنّـه كـذلك على اختلاف الاُصول، ولكنّ الحكم بذلك ليس على إطلاقـه، بل مع انحفاظ رتبـة الحكم الظاهري باجتماع القيود الثلاثـة، وهي الجهل بالواقع، وإمكان الحكم على المـؤدّى بما أنّـه الواقـع، وعـدم لـزوم المخالفـة العمليـة، وحيث إنّـه يلزم من جريان الاُصول في أطراف العلم الإجمالي مخالفـة عمليّـة فلا يمكن جعلها جمعاً، وكون المجعول أحدها تخيـيراً وإن كان بمكان من الإمكـان، إلاّ أنّـه لادليل عليـه لا من ناحيـة أدلّـة الاُصول ولا من ناحيـة المجعول فيها(1)، انتهى.
وفي هذا الكلام وجوه من النظر:
منها:
أنّ ما ذكره ـ من أنّ التخيـير في القسم الأوّل إنّما هو من ناحيـة
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 28 ـ 31.
(الصفحة 108)
الدليل والكاشف لا المجعول والمنكشف، لأنّ المجعول في كلّ من العامّ والخاصّ هو الحكم التعيـيني ـ محلّ نظر، بل منع. ضرورة أنّـه لو كان الحكم المجعول في الخاصّ حكماً تعيـينيّاً وعلم ذلك لم يكن مجال للتخيـير، لأنّـه مساوق للعلم بكون التخصيص أفراديّاً وأحواليّاً معاً، لوضوح أنّـه لو كان التخصيص أحواليّاً فقط وكان خروج كلّ من الفردين مشروطاً بدخول الآخر يكون الحكم المجعول حكماً تخيـيريّاً.
وبالجملـة: فالذي أوجب الحكم بالتخيـير هو تردّد المجعول في الخاصّ بين كونـه تعيـينيّاً أو تخيـيريّاً بضميمـة وجوب الاقتصار في التخصيص على القـدر المتيقّن، فالتخيـير إنّما هـو مقتضى تـردّد المجعول بضميمـة مـا ذكـر، كما لا يخفى، ولا يكون ناشئاً من الدليل.
ومنها:
أنّ ما ذكره من أنّ التخيـير في القسم الثاني إنّما هو من ناحيـة المدلول والمنكشف، محلّ منع، بل التخيـير فيـه إنّما هو كالتخيـير في القسم الأوّل; لأنّ التخيـير فيـه إنّما يكون منشؤه إطلاق مثل قولـه: «انقذ كلّ غريق» بضميمـة التخصيص بالنسبـة إلى صورة العجز عن الإنقاذ بالإضافـة إلى الغريقين، مع لزوم الاقتصار في مقام التخصيص على القدر المتيقّن، وهو خروج الأحوالي فقط الذي مرجعـه إلى رفع اليد عن الإطلاق، لا الأفرادي والأحوالي معاً الذي مرجعـه إلى رفع اليد عن العموم.
وبالجملـة: فلا فرق بين القسمين إلاّ في أنّ الحاكم بالتخصيص في القسم الأوّل هو الدليل اللفظي، وفي القسم الثاني هو الدليل العقلي، وهو لا يوجب الفرق بين التخيـيرين من حيث المقتضي، كما لايخفى.
ومنها:
أنّـه لو سلّم جميع ما ذكر فنمنع ما ذكره من عدم كون التخيـير في
(الصفحة 109)
باب الاُصول العمليـة من ناحيـة الدليل والكاشف، لأنّ لنا أن نقول بكون التخيـير فيها من جهـة الدليل والكاشف، لأنّ أدلّـة أصالـة الحلّ تشمل بعمومها لأطراف العلم الإجمالي أيضاً.
غايـة الأمر: أنّها خصّصت بالنسبـة إليها قطعاً، ولكن أمر المخصّص دائر بين أن يكون مقتضاه خروج الأطراف مطلقاً حتّى يلزم الخروج الأفرادي والأحوالي معاً، وبين أن يكون مقتضياً لخروج كلّ واحد منها مشروطاً بدخول الآخر، فهذا الإجمال بضميمـة لزوم الاقتصار على القدر المتيقّن في مقام التخصيص أوجب التخيـير، كما هو واضح.
ومنها:
وهو العمدة، أنّ ما ذكره من عدم كون التخيـير في باب الاُصول من مقتضيات المجعول والمنكشف ممنوع جدّاً، ضرورة أنّ المقام إنّما هو من قبيل المتزاحمين، كما أنّ فيهما يكون الملاك في كلّ فرد موجوداً، فكذلك الملاك لجريان أصل الإباحـة في كلّ من الأطراف موجود قطعاً، وكما أنّ المانع العقلي هناك بضميمـة اقتضاء كلّ من المتزاحمين صرف القدرة إلى نفسـه يوجب الحكم بالتخيـير إمّا لتقيـيد الإطلاق، وإمّا لسقوط الخطابين واستكشاف العقل حكماً تخيـيريّاً، كذلك المانع العقلي هنا وهو لزوم المخالفـة القطعيـة بضميمـة اقتضاء كلّ من الأصلين لإثبات حكم متعلّقـه يوجب التخيـير قطعاً.
فالعمدة في الجـواب ما ذكرنا مـن أنّـه ليس هنا مـا يدلّ على جـريان أصل الحلّيـة في كلّ واحد من الأطراف، بل مجراه هو مجموعها الذي هو المختلـط مـن الحـلال والحـرام، وجريانـه فيـه مستلزم للمخالفـة القطعيـة كما مـرّ، فتأمّل فـي المقام فإنّـه مـن مـزالّ الأقـدام كما يظهر بمراجعـة كلمات الأعلام.