(الصفحة 475)
الإشكال بعينـه عليـه، بل على جميع الاستصحابات الحكميـة.
والسرّ فيـه ما ذكرنا من أنّ الحكم على العنوان حجّـة على المعنونات، فاستصحاب وجوب الحجّ على عنوان «المستطيع» جار بلا إشكال كاستصحاب جواز رجوع كلّ مقلّد إلى المجتهد الفلاني، وسيأتي كلام في هذا الاستصحاب فانتظر.
إشكال عدم بقاء موضوع الاستصحاب والجواب عنه
فالعمدة في المقام هو الإشكال المعروف، أي عدم بقاء الموضوع.
وتقريره: أنّـه لابدّ في الاستصحاب من وحدة القضيّـة المتيقّنـة والمشكوك فيها، وموضوع القضيّـة هو «رأي المجتهد وفتواه» وهو أمر قائم بنفس الحي، وبعد موتـه لا يتصف بحسب نظر العرف المعتبر في المقام بعلم ولا ظنّ، ولا رأي لـه بحسبـه ولا فتوى، ولا أقلّ من الشكّ في ذلك، ومعـه أيضاً لا مجال للاستصحاب، لأنّ إحراز الموضوع شرط في جريانـه، ولا إشكال في أنّ مدار الفتوى هو الظنّ الاجتهادي، ولهذا يقع المظنون بما هو كذلك وسطاً في قياس الاستنباط، ولا إشكال في عدم إحراز الموضوع، بل في عدم بقائـه.
وفيـه: أنّ مناط عمل العقلاء على رأي كلّ ذي صنعـة في صنعتـه هو أماريّتـه وطريقيّتـه إلى الواقع، وهو المناط في فتوى الفقهاء، سواء كان دليل اعتباره بناء العقلاء المحض أو الأدلّـة اللفظيّـة، فإنّ مفادها أيضاً كذلك، ففتوى الفقيـه بأنّ صلاة الجمعـة واجبـة طريق إلى الحكم الشرعي وحجّـة عليـه، وإنّما تـتقوّم طريقيّتـه وطريقيّـة كلّ رأي خبير إلى الواقع إذا أفتى وأخبر بنحو الجزم،
(الصفحة 476)
لكن الوجود الحدوثي للفتوى بنحو الجزم يوجب كونـه طريقاً إلى الواقع أبداً، ولا ينسلخ عنـه ذلك إلاّ بتجدّد رأيـه أو الترديد فيـه، وإلاّ فهو طريق إلى الواقع، كان صاحب الرأي حيّاً أو ميّتاً، فإذا شككنا في جواز العمل بـه من حيث احتمال دخالـة الحياة شرعاً في جوازه فلا إشكال في جريان الاستصحاب ووحدة القضيّـة المتيقّنـة والمشكوك فيها، فرأي العلاّمـة وقولـه وكتاب «قواعده» كلٌّ كاشف عن الأحكام الواقعيّـة، ووجودها الحدوثي كاف في كونـه طريقاً، وهو المناط في جواز العمل شرعاً ولدى العقلاء.
وإن شئت قلت: جزم العلاّمـة أو إظهار فتواه جزماً جعل كتابـه حجّةً وطريقاً إلى الواقع وجائز العمل في زمان حياتـه، ويشكّ في جواز العمل على طبقـه بعد موتـه، فيستصحب.
والعجب من الشيخ الأعظم(1) حيث اعترف بأنّ الفتوى إذا كان عبارة عن نقل الأخبار بالمعنى يتمّ القول بأنّ القول موضوع الحكم ويجري الاستصحاب معـه، مع أنّ حجّيـة الأخبار وطريقيّتها إلى الواقع أيضاً متقوّمتان بجزم الراوي، فلو أخبر أحد الرواة بيننا وبين المعصوم بنحو الترديد، لا يصير خبره أمارة وحجّـة على الواقع ولا جائز العمل، لكن مع إخباره جزماً يصير كاشفاً عنـه وجائز العمل مادام كونـه كذلك، سواء كان مخبره حيّاً أو ميّتاً، مع عدم بقاء جزمـه بعد الموت، لكن جزمـه حين الإخبار كاف في جواز العمل وحجّيـة قولـه دائماً إلاّ إذا رجع عن إخباره الجزمي.
وهذا جار في الفتوى طابق النعل بالنعل، فقول الفقيـه حجّـة على الواقع
- 1 ـ مطارح الأنظار: 260 / السطر6.
(الصفحة 477)
وطريق إليـه كإخبار المخبر، وهو باق على طريقيّتـه بعد الموت، ولو شكّ في جواز العمل بـه لأجل احتمال اشتراط الحياة شرعاً جاز استصحابـه وتمّ أركانـه.
وإن شئت قلت: إنّ جزم الفقيـه أو إظهاره الفتوى على سبيل الجزم واسطـة في حدوث جواز العمل بقولـه وكتابـه، وبعد موتـه نشكّ في بقاء الجواز لأجل الشكّ في كونـه واسطـة في العروض أو الثبوت فيستصحب.
وأمّا ما أفاد من كون الوسط في قياس الاستنباط هو المظنون بما هو كذلك وأنّ المظنون الحرمـة حرام أو مظنون الحكم واجب العمل(1). ففيـه: أنّ إطلاق الحجّـة على الأمارات ليس باعتبار وقوعها وسطاً في الإثبات كالحجّـة المنطقيّـة، بل المراد منها هي كونها منجّزةً للواقع، بمعنى أنّـه إذا قامت الأمارة المعتبرة على وجوب شيء وكان واجباً بحسب الواقع فتركـه المكلّف، تصحّ عقوبتـه ولا عذر لـه في تركـه، وبهذا المعنى تطلق «الحجّـة» على القطع كإطلاقها على الأمارات، بل تطلق على بعض الشكوك أيضاً.
وبالجملـة: الحجّـة في الفقـه ليست هي القياس المنطقي، ولا يكون الحكم الشرعي مترتّباً على ما قام عليـه الأمارة بما هو كذلك ولا المظنون بما هـو مظنون.
فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ استصحاب جواز العمل على طبق رأي المجتهد وفتواه بمعنى حاصل المصدر وعلى طبق كتابـه، الكاشفين عن الحكم الواقعي أو الوظيفـة الظاهريّـة ممّا لا مانع منـه.
لا يقال: بناءً على ما ذكرت يصحّ استصحاب حجّيـة ظنّ المجتهد الموجود
- 1 ـ مطارح الأنظار: 260 / السطر2.
(الصفحة 478)
في زمان حياتـه. فلنا أن نقول: إنّ الحجّيـة والأماريّـة ثابتـتان لـه في موطنـه، ويحتمل بقاؤهما إلى الأبد، ومع الشكّ تستصحبان.
فإنّـه يقال: هذا غير معقول، للزوم إثبات الحجّيـة وجواز العمل فعلا لأمر معدوم، وكونـه في زمانـه موجوداً لا يكفي في إثبات الحجّيـة الفعليّـة لـه مع معدوميّتـه فعلا.
وإن شئت قلت: إنّ جواز العمل كان ثابتاً للظنّ الموجود، فموضوع القضيّـة المتيقّنـة هو الظنّ الموجود وهو الآن مفقود. اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ الظنّ في حال الوجود بنحو القضيّـة الحينيّـة موضوع للقضيّـة لا بنحو القضيّـة الوضعيّـة والتقيـيديّـة، وهو عين الموضوع في القضيـة المشكوك فيها. وقد ذكرنا في باب الاستصحاب أنّ المعتبر فيـه وحدة القضيّتين لا إحراز وجود الموضوع فراجع(1).
ولكن كون الموضوع كذلك في المقام محلّ إشكال ومنع، مع أنّـه لا يدفع الإشكال المتقدّم بـه.
تقرير إشكال آخر على الاستصحاب
ثمّ إنّ هاهنا إشكالا قويّاً على هذا الاستصحاب، وهو أنّـه إمّا أن يراد بـه استصحاب الحجّيـة العقلائيـة، فهي أمر غير قابل للاستصحاب، أو الحجّيـة الشرعيّـة فهي غير قابلـة للجعل.
أو جواز العمل على طبق قولـه، فلا دليل على جعل الجواز الشرعي، بل الظاهر من مجموع الأدلّـة هو تنفيذ الأمر الارتكازي العقلائي، فليس في الباب
- 1 ـ الاستصحاب، الإمام الخميني (قدس سره): 203.
(الصفحة 479)
دليل جامع لشرائط الحجّيـة يدلّ على تأسيس الشرع جواز العمل أو وجوبـه على رأي المجتهد، فها هي الأدلّـة المستدلّ بها للمقصود، فراجعها حتّى تعرف صدق ما ذكرناه.
أو استصحاب الأحكام الواقعيّـة، فلاشكّ في بقائها، لأنّها لو تحقّقت أوّلا فلاشكّ في أنّها متحقّقـة في الحال أيضاً، لأنّ الشكّ في بقائها إمّا لأجل الشكّ في النسخ، أو الشكّ في فقدان شرط، كصلاة الجمعـة في زمان الغيبـة، أو حدوث مانع، والفرض أنّـه لاشكّ من هذه الجهات.
أو الأحكام الظاهريّـة; بدعوى كونها مجعولـة عقيب رأي المجتهد، بل عقيب سائر الأمارات، فهو أيضاً ممنوع، لعدم الدليل على ذلك، بل ظاهر الأدلّـة على خلافها، لأنّ الظاهـر منها إمضاء ما هو المرتكز لدى العقلاء، والمرتكز لديهم هو أماريّـة رأي المجتهد للواقع كأماريّة رأي كلّ ذي صنعة إلى الواقع في صنعتـه.
وبالجملـة: لابدّ في جريان الاستصحاب من حكم أو موضوع ذي حكم، وليس في المقام شيء قابل لـه، أمّا الحكم الشرعي فمفقود، لعدم تطرّق جعل وتأسيس من الشارع، وأمّا ما لدى العقلاء من حجّيـة قول أهل الخبرة، فلعدم كونـه موضوعاً لحكم شرعي، بل هو أمر عقلائي يتنجّز بـه الواقع بعد عدم ردع الشارع إيّاه، وأمّا إمضاء الشارع وارتضائـه لما هو المرتكز بين العقلاء فليس حكماً شرعيّاً حتّى يستصحب تأمّل بل لا يستفاد من الأدلّـة إلاّ الإرشاد إلى ما هو المرتكز، فليس جعل وتأسيس، كما لايخفى.
إن قلت: بناءً عليـه ينسدّ باب الاستصحاب في مطلق مؤدّيات الأمارات، فهل فتوى الفقيـه إلاّ إحداها؟! مع أنّـه حقّق في محلّـه جريانـه في مؤدّياتها، فكما يجري فيها لابدّ وأن يجري في الحكم المستفاد من فتوى الفقيـه.