(الصفحة 293)
المنطوق حكماً عامّاً فهل المنفي في المفهوم نفي ذلك الحكم بنحو العموم، أو نفي العموم الغير المنافي لثبوت البعض، مثلا قولـه (عليه السلام): «الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجّسـه شيء»(1)، هل يكون مفهومـه أنّـه إذا لم يبلغ ذلك المقدار ينجّسـه جميع الأشياء النجسـة، أو أنّ مفهومـه تنجّسـه بشيء منها الغير المنافي لعدم تنجّسـه ببعض النجاسات.
والحقّ مع صاحب الحاشيـة، لأنّ المفهوم عبارة عن انتفاء الحكم في المنطوق عند انتفاء الشرط، لا ثبوت حكم نقيض للحكم في المنطوق، وقد حقّقنا ذلك في باب المفاهيم من مباحث الألفاظ(2).
وحينئذ: فالمراد بـ«ما لا يدرك كلّـه» في المقام بناءً على هذا الاحتمال: ما لا يدرك ولو بعض أجزائـه، لا ما لا يدرك شيء منها، كما لايخفى، هذا. ولكنّ الظاهر أنّ المراد بـه هو الكلّ المجموعي في الموضع الأوّل. وأمّا الموضع الثاني فقد عرفت أنّـه لابدّ من حملـه على الكلّ الأفرادي.
تتمّة : في اعتبار صدق الميسور في جريان القاعدة
قد اشتهر بينهم أنّـه لابدّ في جريان قاعدة الميسور من صدق الميسور على الباقي عرفاً، ولابدّ من ملاحظـة أدلّتها ليظهر حال هذا الشرط.
فنقول: أمّا قولـه (صلى الله عليه وآله وسلم):
«إذا أمرتكم بشيء فأتوا منـه ما استطعتم»
- 1 ـ راجع وسائل الشيعـة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب9، الحديث1 و 2 و 5 و 6.
- 2 ـ تقدّم في الجزء الأوّل: 255.
(الصفحة 294)
فدلالتـه على ذلك تـتوقّف على أن يكون المراد منـه: إذا أمرتكم بطبيعـة لها أفراد ومصاديق فأتوا من تلك الطبيعـة ـ أي من أفرادها ـ ما يكون مستطاعاً لكم، وحينئذ فالفرد المستطاع أيضاً فرد للطبيعـة صادق عليـه عنوانها كالصلاة والوضوء ونحوهما. وحينئذ فلو لم يكن عنوانها صادقاً على الفاقد للأجزاء المعسورة لا يمكن إثبات وجوبـه بهذا الحديث، لأنّـه لابدّ أن يكون مصداقاً لها، غايـة الأمر أنّـه مصداق ناقص والمعسور فرد كامل.
وأمّا بناءً على ما استظهرنا من الحديث من كون المراد منه هوالإتيانبالطبيعة المأمور بها زمان الاستطاعـة والقدرة، فلا يستفاد منه هذا الشرط، كما هو واضح.
وأمّا قولـه (عليه السلام):
«الميسور لا يسقط بالمعسور»، ففيـه احتمالات أربعـة:
أحدها: أن يكون المراد: الميسور من أفراد الطبيعـة المأمور بها لا يسقط بالمعسور.
ثانيها: أن يكون المراد: الميسور من أجزاء الطبيعـة المأمور بها لا يسقط بالمعسور من تلك الأجزاء.
ثالثها: أن يكون المراد: الميسور من أفراد الطبيعـة المأمور بها لا يسقط بالمعسور من أجزائها.
رابعها: عكس الثالث وهو: أنّ الميسور من أجزاء الطبيعـة المركّبـة المأمور بها لا يسقط بالمعسور من أفرادها.
ودلالـة هذا الحديث على الشرط المذكور مبنيّـة على الاحتمال الأوّل والثالث، وأمّا بناءً على الاحتمال الثاني والرابع فلا دلالـة لـه على ذلك. ولا يخفى أنّـه ليس في البين ما يرجّح أحد الاحتمالين بعد سقوط الاحتمال الثالث والرابع، لكونهما مخالفاً للظاهر، والقدر المتيقّن هي صورة وجدان الشرط وكون
(الصفحة 295)
الباقي صادقاً عليـه أنّـه ميسور المأمور بـه، كما هو غير خفي.
وأمّا قولـه (عليه السلام):
«ما لا يدرك كلّـه لا يترك كلّـه» فيحتمل أن يكون المراد بـه أنّ المركّب الذي لا يدرك كلّـه لا يترك ذلك المركّب بكلّيتـه، ومعناه حينئذ لزوم الإتيان بالمركّب الناقص بعد تعذّر درك التامّ.
ويحتمل أن يكون المراد بـه أنّ المركّب الذي لا يدرك كلّـه لا يترك كلّ ذلك المركّب; أي لا يترك كلّ جزء من أجزائـه. فعلى الأوّل يدلّ على كون الباقي لابدّ وأن يكون مصداقاً للطبيعـة المأمور بها، وعلى الثاني لا دلالـة لـه على ذلك، والظاهر هو المعنى الثاني.
المرجع في تعيين الميسور
ثـمّ إنّ المرجـع فـي تعيـين الميسور هل هـو العرف أو الشرع؟ وجهـان مبنيّان على أنّ المراد مـن قولـه (عليه السلام):
«الميسور لا يسقط بالمعسور»، هل هـو أنّ الـميسور مـن المصلحـة الكائنـة فـي الطبيعـة المأمـور بهـا لا يسقـط بالمعسـور منها، أو أنّ المراد أنّ الميسور من نفس الطبيعـة المأمور بها لا يسقط بالمعسور منها؟
فعلى الأوّل يكون المرجع هو الشرع، لعدم اطّلاع العرف على قيام الباقي المقدور ببعض المصلحـة، لاحتمالـه أن تكون المصلحـة متقوّمـة بالمجموع، وعلى الثاني يكون المرجع هو العرف، كما هو واضح. وهذا هو الظاهر.
وحينئذ فكلّ مورد حكم العرف فيـه بأنّ الباقي في المقدور ميسور للطبيعـة المأمور بها يحكم فيـه بلزوم الإتيان بـه.
(الصفحة 296)
ودعـوى:
أنّ ذلك مستلزم لتخصيص كثيـر، بل الخـارج منـه أكثـر مـن الباقي بمراتب.
مدفوعـة:
بمنع استلزامـه لتخصيص الأكثر، كيف وقد حكموا بـه في مثل الصلاة والوضوء والحجّ ونظائرها، وكثير من الموارد التي لم يجروا فيها القاعدة فإنّما هو لخروجها عنها موضوعاً كالصوم مثلا، فإنّ عدم حكمهم بوجوب الصوم على من قدر على الصيام بمقدار لا يبلغ مجموع النهار ـ مثلا ـ إنّما هو لكون الصوم أمراً بسيطاً لا يكون لـه أجزاء، ومورد القاعدة إنّما هو المركّبات، كما هو واضح، هذا.
ولكنّ الخطب سهل بعدما عرفت من ضعف أسناد الروايات الثلاث التي هي مدرك للقاعدة وعرفت(1) أيضاً أنّـه لا جابر لضعفها، فتدبّر.
- 1 ـ تقدّم في الصفحـة 283.
(الصفحة 297)
خاتمة
في شرائط الاُصول
حسن الاحتياط مطلقاً
إعلم أنّـه لا يعتبر في حسن الاحتياط عقلا شيء زائد على تحقّق موضوعـه وعنوانـه.
نعم هنا إشكالات لابدّ من التعرّض لها والجواب عنها.
بعضها يرجع إلى مطلق الاحتياط ولو كان في الشبهات البدويّـة.
وبعضها إلى الاحتياط في خصوص الشبهات المقرونـة بالعلم الإجمالي.
وبعضها إلى الاحتياط فيما إذا قامت الحجّـة المعتبرة على خلافـه.
أمّا الإشكال
الراجع إلى مطلق الاحتياط، فهو أنّ الاحتياط يعتبر فيـه أن يكون الإتيان بالعمل بانبعاث من بعث المولى، وليس الاحتياط عبارة عن مجرّد الإتيان بالعمل مطلقاً، لعدم صدق الإطاعـة مع عدم الانبعاث، لأنّ حقيقـة الطاعـة أن تكون إرادة العبد تبعاً لإرادة المولى بانبعاثـه عن بعثـه وتحرّكـه عن تحريكـه، وهذا يتوقّف على العلم بتعلّق البعث والتحريك نحو العمل، ولا يمكن الانبعاث بلا توسيط البعث الواصل إلى المكلّف.