(الصفحة 363)
وأمّا في الصورة الثالثـة التي دار الأمر بين النسخ والتخصيص ولم يعلم المتقدّم من العامّ والخاصّ عن المتأخّر، فالظاهر فيها ترجيح التخصيص أيضاً، لغلبتـه وندرة النسخ.
ودعوى أنّ هذه الغلبـة لا تصلح للترجيح، مدفوعـة بمنع ذلك واستلزامـه لعدم كون الغلبـة مرجّحـة في شيء من الموارد، لأنّ هذه الغلبـة من الأفراد الظاهرة لها، كيف وندرة النسخ تجد لا يكاد يتعدّى عن الموارد القليلـة المحصورة، وأمّا التخصيص فشيوعـه إلى حدّ قيل: «ما من عامّ إلاّ وقد خصّ»، واحتمال النسخ بعد تحقّق هذه الغلبـة أضعف من الاحتمال الذي لا يعتني بـه العقلاء في الشبهـة غير المحصورة، فعدم اعتنائهم بـه أولى، كما لايخفى.
دوران الأمر بين تقييد الإطلاق وحمل الأمر على الاستحباب
ومن الموارد التي قيل باندراجها في الأظهر والظاهر ما إذا دار الأمر بين تقيـيد المطلق وحمل الأمر في الطرف الآخر على الاستحباب وكون المأمور بـه أفضل الأفراد، أو حمل النهي فيه على الكراهة وكون المنهي أخسّ الأفراد وأنقصها. كما إذا دار الأمر بين تقيـيد قولـه: «إن ظاهرت فاعتق رقبـة»، وبين حمل قولـه: «إن ظاهرت فاعتق رقبـة مؤمنـة» على الاستحباب، وكون عتق الرقبـة المؤمنـة أفضل، أو حمل قولـه: «إن ظاهرت فلا تعتق رقبـة كافرة» على الكراهـة، وكون عتق الرقبـة الكافرة أبغض.
فالذي حكاه سيّدنا الاُستاذ دام بقاءه عن شيخـه المحقّق الحائري (قدس سره)
في هذا الفرض أنّـه قال: وممّا يصعب علي حمل المطلقات الواردة في مقام البيان
(الصفحة 364)
على المقيّد وتقيـيدها بدليلـه مع اشتهار استعمال الأوامر في الاستحباب، والنواهي في الكراهـة، خصوصاً بملاحظـة ما أفاده صاحب المعالم(1) في باب شيوع استعمال الأوامر في المستحبّات، هذا.
ولكن ذكر الاُستاذ أنّ المطلقات على قسمين: قسم ورد في مقابل من يسأل عن حكم المسألـة والواقعـة لأجل ابتلائـه بها، ومنظوره السؤال عن حكمها ثمّ العمل على طبق الحكم الصادر عن المعصوم (عليه السلام) في تلك الواقعـة، وقسم آخر يصدر لغرض الضبط، كما إذا كان السائل مثل زرارة ممّن كان غرضـه من السؤال استفادة حكم الواقعـة لأجل ضبطـه لمن يأتي بعده ممّن لا يكاد تصل يده إلى منبع العلم ومعدن الوحي. وما أفاده المحقّق الحائري (قدس سره)
إنّما يتمّ في خصوص القسم الأوّل، وأمّا في القسم الثاني فلا، كما لايخفى.
هذا كلّـه إنّما هو بالنسبـة إلى الدليلين اللذين كان أحدهما نصّاً أو أظهر والآخر ظاهراً.
(الصفحة 365)
القول
فيما إذا كان التعارض بين أكثر من دليلين
إذا ورد عامّ وخاصّان بينهما التباين
وأمّا إذا كان التعارض بين أزيد من دليلين، بأن كان هنا عامّ مثلا وخاصّان كقولـه: أكرم العلماء، ولا تكرم النحويـين منهم، ولا تكرم الصرفيـين منهم، فإنّ النسبـة بين كلّ من الأخيرين مع الأوّل هو العموم والخصوص مطلقاً، والكلام فيـه يقع في مقامين:
أحدهما:
أنّـه هل العامّ يلاحظ مع كلّ من المخصّصين قبل تخصيصـه بالآخر بحيث يكون الخاصّان في عرض واحد، أو أنّـه يخصّص بواحد منهما ثمّ تلاحظ النسبـة بعد التخصيص بينـه وبين الخاصّ الآخر؟ وربّما تنقلب النسبـة من العموم المطلق إلى العموم من وجـه كما في المثال، فإنّ قولـه: «أكرم العلماء» بعد تخصيصـه بقولـه: «لا تكرم الصرفيّين منهم»، يرجع إلى وجوب إكرام العالم الغير الصرفي. ومن المعلوم أنّ النسبـة بين العالم الغير الصرفي وبين العالم النحوي عموم من وجـه، لأنّـه قد يكون النحوي صرفيّاً، وقد لا يكون العالم الصرفي نحوياً، وقد يكون النحوي غير صرفي، ومورد الاجتماع العالم الصرفي النحوي.
ثانيهما:
أنّـه لو فرض كون الخاصّان في عرض واحد، ولكن كان تخصيص العامّ بهما مستهجناً أو مستلزماً للاستيعاب وبقاء العامّ بلا مورد، فهل المعارضـة
(الصفحة 366)
حينئذ بين العامّ ومجموع الخاصّين كما اختاره الشيخ(1) وتبعـه غير واحد من المحققين المتأخّرين عنـه(2)، أو أنّ المعارضـة بين نفس الخاصّين، كما هو الأقوى لما يأتي؟
أمّا الكلام في المقام الأوّل:
فمحصّلـه أنّـه لا مجال لتوهّم تقديم أحد الخاصّين على الآخر بعد اتّحادهما في النسبـة مع العامّ، خصوصاً إذا لم يعلم المتقدّم منهما صدوراً عن المتأخّر، كما هو الغالب، ولا ينبغي توهّم الخلاف فيما إذا كان الخاصّان دليلين لفظيّين، لأنّـه لا وجـه لتقديم ملاحظـة العامّ مع أحدهما على ملاحظتـه مع الآخر.
نعم لو كان أحدهما دليلا لبّياً كالدليل العقلي الذي يكون كالقرينـة المتصلـة بالكلام، بحيث لم يكن يستفاد من العامّ عند صدوره من المتكلّم إلاّ العموم المحدود بما دلّ عليـه العقل، كما أنّـه لو فرض أنّـه لا يستفاد عند العقلاء من قولـه: «أكرم العلماء» إلاّ وجوب إكرام العدول منهم، فلا شبهـة حينئذ في أنّـه لابدّ من ملاحظتـه بعد التخصيص بدليل العقل مع الخاصّ الآخر، بل لا يصدق عليـه التخصيص وانقلاب النسبـة، كما لايخفى، هذا.
ولو لم يكن الدليل اللبّي كالقرينة المتّصلة كالإجماع ونحوه، فلا ترجيح له على الخاصّ اللفظي أصلا، لعين ما ذكر في الدليلين اللفظيـين.
نعم حكى سيّدنا الاُستاذ دام بقاءه عن شيخـه المحقّق الحائري (قدس سره)
أنّـه بعد اختياره في كتاب الدرر ما ذكرنا(3) عدل عنـه في مجلس الدرس وفصّل بين
- 1 ـ فرائد الاُصول 2: 794 ـ 795.
- 2 ـ كفايـة الاُصول: 516، فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 743.
- 3 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 682.
(الصفحة 367)
المخصّص اللفظي واللبّي مطلقاً، وقدّم التخصيص باللبّي كذلك على التخصيص باللفظي، نظراً إلى أنّ المخصّص اللفظي مانع عن حجّيـة ظهور العامّ، والمخصّص اللبّي من تـتمّـة المقتضي، لا أنّـه مانع، هذا.
ولكنّـه يرد عليـه: عدم الفرق بينهما أصلا; لا في أنّـه بعد ملاحظـة الخاصّ يستكشف تضيـيق دائرة المراد الجدّي من أوّل الأمر وأنّ صدور العامّ كان بنحو التقنين وإفادة الحكم على النحو الكلّي، ولا في أنّـه قبل العثور على المخصّص لفظياً كان أو لبّياً تكون أصالـة العموم متّبعـة، وبعد الظفر عليـه يرفع اليد عنـه، فلا فرق بينهما أصلا، كما لايخفى.
وأمّا الكلام في المقام الثاني:
فقد عرفت(1) أنّـه ذهب الشيخ إلى وقوع التعارض مع مجموع الخاصّين، نظراً إلى أنّ تخصيص العامّ بهما يوجب الاستهجان أو الاستيعاب، ولكنّـه لا وجـه لـه، لأنّ مجموع الخاصّين لا يكون أمراً ورائهما، والمفروض أنّـه لا معارضـة لشيء منهما مع العامّ، فلا وجـه لترتيب أحكام المتعارضين عليـه وعليهما.
غايـة الأمر أنّـه حيث لا يمكن تخصيص العامّ بمجموعهما يرجع ذلك إلى عدم إمكان الجمع بين الخاصّين، لا من حيث أنفسهما، بل من جهـة تخصيص العامّ بهما، فيقع التعارض بينهما تعارضاً عرضياً، ولابدّ من المعاملـة مع الخاصّين حينئذ معاملـة المتعارضين.
وحينئذ: فإن قلنا بعدم اختصاص الأخبار العلاجيّـة بالتعارض الذاتي وشمولهما للتعارض العرضي أيضاً، فلابدّ من الرجوع إلى المرجّحات المذكورة
- 1 ـ تقدّم في الصفحـة 365 ـ 366.