(الصفحة 295)
الباقي صادقاً عليـه أنّـه ميسور المأمور بـه، كما هو غير خفي.
وأمّا قولـه (عليه السلام):
«ما لا يدرك كلّـه لا يترك كلّـه» فيحتمل أن يكون المراد بـه أنّ المركّب الذي لا يدرك كلّـه لا يترك ذلك المركّب بكلّيتـه، ومعناه حينئذ لزوم الإتيان بالمركّب الناقص بعد تعذّر درك التامّ.
ويحتمل أن يكون المراد بـه أنّ المركّب الذي لا يدرك كلّـه لا يترك كلّ ذلك المركّب; أي لا يترك كلّ جزء من أجزائـه. فعلى الأوّل يدلّ على كون الباقي لابدّ وأن يكون مصداقاً للطبيعـة المأمور بها، وعلى الثاني لا دلالـة لـه على ذلك، والظاهر هو المعنى الثاني.
المرجع في تعيين الميسور
ثـمّ إنّ المرجـع فـي تعيـين الميسور هل هـو العرف أو الشرع؟ وجهـان مبنيّان على أنّ المراد مـن قولـه (عليه السلام):
«الميسور لا يسقط بالمعسور»، هل هـو أنّ الـميسور مـن المصلحـة الكائنـة فـي الطبيعـة المأمـور بهـا لا يسقـط بالمعسـور منها، أو أنّ المراد أنّ الميسور من نفس الطبيعـة المأمور بها لا يسقط بالمعسور منها؟
فعلى الأوّل يكون المرجع هو الشرع، لعدم اطّلاع العرف على قيام الباقي المقدور ببعض المصلحـة، لاحتمالـه أن تكون المصلحـة متقوّمـة بالمجموع، وعلى الثاني يكون المرجع هو العرف، كما هو واضح. وهذا هو الظاهر.
وحينئذ فكلّ مورد حكم العرف فيـه بأنّ الباقي في المقدور ميسور للطبيعـة المأمور بها يحكم فيـه بلزوم الإتيان بـه.
(الصفحة 296)
ودعـوى:
أنّ ذلك مستلزم لتخصيص كثيـر، بل الخـارج منـه أكثـر مـن الباقي بمراتب.
مدفوعـة:
بمنع استلزامـه لتخصيص الأكثر، كيف وقد حكموا بـه في مثل الصلاة والوضوء والحجّ ونظائرها، وكثير من الموارد التي لم يجروا فيها القاعدة فإنّما هو لخروجها عنها موضوعاً كالصوم مثلا، فإنّ عدم حكمهم بوجوب الصوم على من قدر على الصيام بمقدار لا يبلغ مجموع النهار ـ مثلا ـ إنّما هو لكون الصوم أمراً بسيطاً لا يكون لـه أجزاء، ومورد القاعدة إنّما هو المركّبات، كما هو واضح، هذا.
ولكنّ الخطب سهل بعدما عرفت من ضعف أسناد الروايات الثلاث التي هي مدرك للقاعدة وعرفت(1) أيضاً أنّـه لا جابر لضعفها، فتدبّر.
- 1 ـ تقدّم في الصفحـة 283.
(الصفحة 297)
خاتمة
في شرائط الاُصول
حسن الاحتياط مطلقاً
إعلم أنّـه لا يعتبر في حسن الاحتياط عقلا شيء زائد على تحقّق موضوعـه وعنوانـه.
نعم هنا إشكالات لابدّ من التعرّض لها والجواب عنها.
بعضها يرجع إلى مطلق الاحتياط ولو كان في الشبهات البدويّـة.
وبعضها إلى الاحتياط في خصوص الشبهات المقرونـة بالعلم الإجمالي.
وبعضها إلى الاحتياط فيما إذا قامت الحجّـة المعتبرة على خلافـه.
أمّا الإشكال
الراجع إلى مطلق الاحتياط، فهو أنّ الاحتياط يعتبر فيـه أن يكون الإتيان بالعمل بانبعاث من بعث المولى، وليس الاحتياط عبارة عن مجرّد الإتيان بالعمل مطلقاً، لعدم صدق الإطاعـة مع عدم الانبعاث، لأنّ حقيقـة الطاعـة أن تكون إرادة العبد تبعاً لإرادة المولى بانبعاثـه عن بعثـه وتحرّكـه عن تحريكـه، وهذا يتوقّف على العلم بتعلّق البعث والتحريك نحو العمل، ولا يمكن الانبعاث بلا توسيط البعث الواصل إلى المكلّف.
(الصفحة 298)
وحينئذ فمع كون الأمر مجهولا للمكلّف لا يعقل أن ينبعث منـه، وبدون تحقّق الانبعاث لا يتحقّق الإطاعـة، واحتمال الأمر وإن كان محرّكاً باعثاً، إلاّ أنّـه لا يكفي; لأنّـه لابدّ من كون الانبعاث مسبّباً عن نفس بعث المولى وتحريكـه، والاحتمال يغاير البعث الواقعي.
ودعوى:
أنّ الانبعاث إنّما هو عن الأمر المحتمل لا احتمال الأمر.
مدفوعـة:
بأنّ الانبعاث عن الأمر المحتمل مستحيل، لأنّـه لابدّ من إحراز ذلك وإحراز وجود الأمر لا يجتمع مع توصيفـه بكونـه محتملا، فمع الاحتمال لا يكون الأمر بمحرز، ومع إحرازه لا يكون الأمر محتملا، فلا يعقل الانبعاث عن الأمر بوصف كونـه محتملا، هذا.
ويمكن توسعـة دائرة هذا الإشكال بالقول بأنّ الانبعاث لا يكون عـن البعث ولو في مـوارد العلم بالبعث، لأنّ المحرّك والباعث ليس هـو البعث بوجوده الواقعي، وإلاّ لكان اللازم ثبوت الملازمـة بينهما وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر، مع أنّ الضرورة قاضيـة بخلافـه; لأنّـه كثيراً ما لا يتحقّق الانبعاث مـع تحقّق البعث في الواقع ونفس الأمـر، وكثيراً ما ينبعث المكلّف مع عدم وجـود البعث في الواقع، فهذا دليل على أنّ المحرّك والباعث ليس هو نفس البعث، بل الصورة الذهنيـة الحاكيـة عنـه باعتقاد المكلّف، فوجود البعث وعدمـه سواء.
وهذا لا يختصّ بالبعث، بل يجري في جميع أفعال الإنسان وحركاتـه، ضرورة أنّ المؤثّر في الإخافـة والفرار ليس هو الأسد بوجوده الواقعي، بل صورتـه الذهنيـة المعلومـة بالذات المنكشفـة لدى النفس. ولا فرق في تأثيرها بين كونها حاكيـة عن الواقع واقعاً وبين عدم كونها كذلك; لعدم الفرق في حصول
(الصفحة 299)
الخـوف بين العالم بوجـود الأسد الغير الموجـود، وبين العالم بوجـود الأسد الموجـود.
وبعبارة اُخرى: لا فرق بين العالم وبين الجاهل بالجهل المركّب، ولو كان المؤثّر هو الأسد بوجود الواقعي لكان اللازم عدم تحقّق الخوف بالنسبـة إلى الجاهل، مع أنّ الوجدان يشهد بخلافـه.
فانقدح ممّا ذكر: أنّ الانبعاث عن بعث المولى لا يتوقّف على وجوده في الواقع، بل يتحقّق في صورة الجهل المركّب بـه. والسرّ أنّ الانبعاث إنّما هو عن البعث بصورتـه الذهنيـة المعلومـة بالذات، وإلاّ يلزم عدم انفكاك الانبعاث عن البعث، فلا يتحقّق الانبعاث بدونـه، ولا البعث بدون الانبعاث، ولازمـه عدم تحقّق العصيان أصلا، كما لا يخفى.
وحينئذ: يظهر عدم إمكان تحقّق الإطاعـة أصلا ولو في صورة العلم بعد كـون المعتبر في حقيقتها هـو كون الانبعاث مستنداً إلى نفس البعث بوجـوده الواقعي.
ويمكن تصوير ذلك بصورة البرهان بنحو الشكل الأوّل الذي هو بديهي الانتاج بأن يقال: إنّ الإطاعـة هو الانبعاث ببعث المولى، ولا شيء من الانبعاث ببعث المولى بممكن التحقّق، ينتج: فلا شيء من الإطاعـة بممكن.
والجواب عن هذا الإشكال أوّلا:
أنّـه لا يعتبر في تحقّق الإطاعـة بنظر العرف والعقلاء إلاّ وجود البعث والعلم بـه، فإذا تحقّق البعث وصار موجـوداً واقعاً وعلم بـه المكلّف بتوسّط صورتـه الذهنيـة ففعل بداعي ذلك يتحقّق حينئذ عنوان الإطاعـة.
ودعوى: أنّ الانبعاث لم يكن مسبّباً عن البعث، مدفوعـة: بأنّ الصورة