(الصفحة 46)الثالث : حكم الشكّ في اشتراط التكليف في مرحلة البقاء
لا يخفى أنّ تمام الملاك في باب جريان البراءة العقليّـة هو انتهاء الشكّ إلى الشكّ في أصل التكليف من دون أن يعتبر فيـه شيء آخر.
وبعبارة اُخرى: تمام الملاك هو عدم تماميّـة الحجّـة على العبد من ناحيـة المولى بحيث كان العقاب على مخالفتـه عقاباً بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان، كما أنّ تمام الملاك في باب جريان قاعدة الاشتغال هو أن يكون الشكّ في سقوط التكليف بعد تماميّـة الحجّـة من ناحيـة المولى.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّـه أفاد المحقّق النائيني على ما في التقريرات أنّـه كما يمكـن أن يكون التكيف في عالـم الجعل والثبوت ومرحلـة التشريع والحدوث مشروطاً كاشتراط وجوب الحجّ بالاستطاعـة والصلاة بالوقت، كذلك يمكن أن يحدث للتكليف الاشتراط في مرحلـة البقاء والاستمرار، بعدما كان مطلقاً في مرحلـة الحدوث والثبوت، كما لو فرض اشتراط بقاء التكليف بالصلاة بعدم الصيام، وهذان الفرضان متعاكسان في جريان البراءة والاشتغال عند الشكّ فيهما، فلو شكّ في إطلاق التكليف واشتراطـه في عالم الجعل والحـدوث فالأصل يقتضي البراءة عند عدم وجود ما شكّ في شرطيّتـه للتكليف، وإن شكّ فـي الإطـلاق والاشتـراط في مرحلـة البقاء والاستمـرار فالأصل يقتضي الاشتغال، لأنّ حقيقـة الشكّ يرجع إلى أنّ الصيام في المثال المتقدّم هل يكون مسقطاً للتكليف بالصلاة أو لا، وكلّما رجع الشكّ إلى الشكّ في المسقط فالأصل يقتضي عدم السقوط، بخلاف ما إذا رجع إلى الشكّ في أصل التكليف، فإنّـه
(الصفحة 47)
مجرى البراءة كما في الفرض الأوّل(1) ، انتهى.
وأنت خبير بأنّ مراده بما إذا كان التكليف مشروطاً بحسب البقاء والاستمرار إن كان هو اشتراط التكليف المجعول مطلقاً ابتداء، بحيث صار التكليف المطلق مشروطاً، فمن الواضح أنّـه من البداء المستحيل في حقّـه تعالى، وإن كان مراده أنّ التكليف الأوّل بحسب الحدوث والثبوت كان مطلقاً إلى حدّ مخصوص، وبعد حصول ذلك الحدّ يشكّ في جعلـه مشروطاً بوجود شيء آخر أو بعدمـه، أو أنّـه باق على إطلاقـه، فمرجع الشكّ حينئذ إلى الشكّ في أصل التكليف بعد ذلك الحدّ مادام لم يحصل الشرط، وهو مورد لجريان البراءة، كما لايخفى. فلا فرق حينئذ بين الفرضين.
وبالجملـة: فكون التكليف المطلق حدوثاً مشروطاً بقاءً ممّا لا يتصوّر على أحد الوجهين، وعلى الوجـه الآخر مورد لجريان البراءة، لا قاعدة الاشتغال.
الرابع : وجوه الشكّ في التعيين والتخيير
الشكّ في التعيـين والتخيـير يتصوّر على وجوه:
أحدها: أنّـه يعلم بتعلّق التكليف بأحد الشيئين بخصوصـه ويشكّ في أنّ الشيء الآخر هل هو عدلـه بحيث يكون ما تعلّق بـه التكليف قطعاً أحد فردي الواجب التخيـيري، أو لا يكون عدلا لـه، فيكون التكليف المتعلّق بالشيء الأوّل تكليفاً تعيـينيّاً ولا يقوم مقام متعلّقـه شيء آخر.
ثانيها: أنّـه يعلم بتعلّق التكليف بكلّ من الشيئين، ولكن يشكّ في أنّ كلاّ
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 421 ـ 422.
(الصفحة 48)
منهما واجب عيناً فيجب الإتيان بكليهما، أو أنّهما واجبان تخيـيراً يسقط كلّ منهما بفعل الآخر.
ثالثها: أنّـه يعلم بتعلّق الوجوب بأحد من الشيئين معيّـناً، ويعلم أيضاً بأنّ الإتيان بالشيء الآخر يوجب سقوط الوجوب المتعلّق بالشيء الأوّل، لكن يشكّ في أنّ إسقاطـه للوجوب هل هو لمكان كونـه أحد فردي الواجب التخيـيري بحيث تعلّق بـه الوجوب أيضاً، أو أنّـه لم يتعلّق بـه الوجوب، بل هو إمّا مباح أو مستحبّ موجب لسقوط الواجب.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّـه يقع الكلام فيما يقتضيـه الأصل العملي، وأنّ الأصل الجاري في المقام هو البراءة مطلقاً، أو الاشتغال مطلقاً، أو التفصيل بين أقسام الشكّ في التعيـين والتخيـير أو أنحاء الواجب التخيـيري، ونحن وإن أنكرنا تقسيم الواجب التخيـيري إلى الأقسام الثلاثـة المتقدّمـة، إلاّ أنّـه يمكن أن يكون الأقسام مختلفـة في الحكم وإن كانت بحسب الحقيقـة أقساماً للمخيّر فيـه، لا لأصل التخيـير.
وحينئذ: فلابدّ من التكلّم في كلّ من أقسام الشكّ في التعيـين والتخيـير، وكذا في كلّ من أنحاء الواجب التخيـيري ولنمحّض الكلام فعلا في خصوص البراءة العقليّـة.
مقتضى الأصل في الوجوه المذكورة
الوجه الأوّل :
فنقول: إذا شكّ في التعيـين والتخيـير على الوجـه الأوّل من الوجوه الثلاثـة المتصوّرة، وكان الواجب التخيـيري الذي هو طرف الشكّ من الواجبات
(الصفحة 49)
التخيـيريّـة الابتدائيـة في عالم التشريع فهل الأصل العملي الجاري فيـه هي البراءة أو الاشتغال؟ التحقيق أن يقال: إنّ ذلك يبتني على كيفيـة إنشاء الخطاب التخيـيري وتصويره:
فتارة يقال: بأنّ الخطاب التخيـيري عبارة عن تقيـيد إطلاق الخطاب المتعلّق بكلّ من الفردين أو الأفراد بما إذا لم يأت المكلّف بعدلـه، فيكون وجوب العتق في الخصال مقيّداً بعدم الإطعام والصيام، وكذا وجوب الإطعام مقيّد بعدم الخصلتين الاُخريـين، وحينئذ فكلّ واجب تخيـيري يكون واجباً مشروطاً بعدم الإتيان بعدلـه.
واُخرى يقال: برجوع جميع الواجبات التخيـيريّـة إلى الواجب التعيـيني، نظراً إلى أنّ الغرض يكون مترتّباً على الجامع، فهو الواجب تعييناً والتخيـير بين أفراده تخيـير عقلي، وهذا الوجـه هو الذي اختاره المحقّق الخراساني(1) وتبعـه بعض من تلاميذه(2)، كما أنّ الوجـه الأوّل هو الذي قوّاه المحقّق النائيني على ما في التقريرات(3).
وثالثـة يقال: بأنّ الواجب التخيـيري سنخ آخر من الخطاب في مقابل الخطاب التعيـيني، وهذا هو الذي اخترناه وحقّقناه(4).
ورابعـة يقال: بأنّ مرجع كون الشيء واجباً تعيـينيّاً إنّما هو إلى كونـه
- 1 ـ كفايـة الاُصول: 174.
- 2 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 481.
- 3 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 417.
- 4 ـ تقدّم في الجزء الأوّل: 155.
(الصفحة 50)
مطلوباً بطلب تامّ قائم بـه بشراشر وجوده الموجب بمقتضى النهي عن النقيض للمنع عن جميع أنحاء عدمـه حتّى العدم في حال وجود غيره، في قبال الواجب التخيـيري الذي مرجعـه إلى كونـه متعلّقاً لطلب ناقص على نحو لا يقتضي إلاّ المنع عن بعض أنحاء عدمـه، وهو العدم في حال عدم العدل، وهذا الوجـه هو الذي اختاره المحقّق العراقي على ما في التقريرات(1). ولكن لا يخفى أنّـه لا يكون تصويراً للواجب التخيـيري بحيث يندفع بـه ما أورد عليـه، بل إنّما هو تقرير لـه وبيان للمراد منـه، فتدبّر.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّـه لو قيل في تصوير الواجب التخيـيري بالوجـه الأوّل الذي مرجعـه إلى اشتراطـه بعدم الإتيان بالعدل، فالأصل الجاري في المورد المفروض هي البراءة، لأنّ مرجع الشكّ في التعيـينيـة والتخيـيريّـة إلى الشكّ في الإطلاق والتقيـيد، وهو مرجـع البراءة فيما لو لـم يحصل القيد، فإذا أتى ببعض الأطراف يشكّ في أصل التكليف، لعدم تحقّق الشرط على تقدير الاشتـراط، لأنّ الشـرط عبـارة عـن عـدم الإتيـان بالعـدل، والمفـروض أنّـه أتـى بـه، هذا.
ولو قيل في تصوير الواجب التخيـيري بالوجـه الثاني الذي مرجعـه إلى كون التخيـير تخيـيراً عقليّاً كشف عنـه الشارع، والواجب الشرعي هو الجامع والقدر المشترك بين الأطراف ففي جريان البراءة أو الاشتغال وجهان، ذكرهما في كتاب الدرر(2).
- 1 ـ نهايـة الأفكار 3: 288.
- 2 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 481.