(الصفحة 444)
ومنها:
روايـة عبدالأعلى(1) الواردة في المسح على المرارة الدالّـة على أنّ هذا وأشباهـه يعرف من كتاب اللّه ولا يحتاج إلى السؤال.
ومنها:
ما قالـه أبوجعفر (عليه السلام) لأبان بن تغلب ممّا يدلّ على حبّـه (عليه السلام) لأن يجلس في المدينـة ويبيّن للناس مسائل الحلال والحرام ويفتي لهم(2).
ومنها:
غير ذلك.
وأمّا الطائفـة الثانيـة
الدالّـة على إرجاع العوام من الناس إلى الخواصّ من أصحابهم فكثيرة جدّاً، كما يظهر بالتـتبّع في مظانّها(3).
وبالجملـة:
فالمناقشـة في أصل وجود الاجتهاد والتقليد في تلك الأزمنـة ممّا لا ينبغي الإصغاء إليها.
الجواب الثاني
: كفاية عدم الردع للبناء الفعلي لإ
حراز رضى الشارع
نعم يقع الإشكال من جهـة اُخرى، وهي أنّـه لاشكّ في أنّ هذه الاختلافات الكثيرة الموجودة بين أهل الفتيا في مثل هذا الزمان لم تكن في زمان الأئمّـة (عليهم السلام) قطعاً، وحينئذ فكيف يمكن إحراز رضى الشارع وإمضائـه لبناء العقلاء الموجود فعلا، بعد اختلافـه مع البناء المتحقّق في الزمان السابق اختلافاً كثيراً لا يمكن أن يقاس أحدهما بالآخر أصلا؟ فلا محيص حينئذ عن التوسّل بأنّ
- 1 ـ تهذيب الأحكام 1: 363 / 1097، وسائل الشيعـة 1: 464، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب39، الحديث5.
- 2 ـ وسائل الشيعـة 30: 291، الفائدة الثانيـة عشرة.
- 3 ـ راجع وسائل الشيعـة 27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب11.
(الصفحة 445)
عدم الردع للبناء الفعلي يكفي في إحراز رضى الشارع وتنفيذه لـه.
توضيحـه: أنّـه لاشكّ في أنّـه لم يكن بناء الشارع في تبليغ الأحكام وهدايـة الأنام إلاّ على التوسّل بالطرق العقلائيّـة والاُمور العاديّـة، ولم يكن بناءه في مقام بيان الأحكام على الرجوع إلى علمـه بالمغيبات وتبليغ الأحكام حسب ما يعطيـه ذلك العلم.
وحينئذ: فليس دعوانا أنّ الشارع كان عليـه أن يردع عن هذه الطريقـة الفعليّـة لو كانت غير مرضيّـة لـه راجعـة إلى أنّـه لأجل كونـه عالماً بالمغيبات لابدّ لـه الردع أو الإمضاء بالنسبـة إلى الاُمور المستقبلـة والمتأخّرة عن زمانـه، وإذا لم يردع يكشف ذلك عن رضاه بذلك.
بل نقول: إنّ هذه المسألـة وهي الاجتهاد والاستنباط والرجوع إلى العالم بهذا النحو المعمول المتغاير لما كان متحقّقاً في الزمان السابق ممّا يقتضي طبع الأمر حدوثها في هذه الأزمنـة، بحيث لم يكن حدوثها مخفيّاً على العارفين بمسألـة الإمامـة وأنّـه يغيب الثاني عشر من شموس الهدايـة مدّة طويلـة عن أعين الناس وأنظار العامّـة، بحيث لا يكاد يمكن لهم الرجوع إليـه والاستضاءة من نور الولايـة، وفي ذلك الزمان لابدّ للناس من الرجوع إلى علمائهم والاستفتاء منهم مع شدّة اختلافهم بحيث قلّما يتّفق اتّحاد فتوى فقيـه واحد في كتبـه المختلفـة، بل في جميع المواضع من كتاب واحد، فضلا عن اتّحاد فقيهين أو الفقهاء منهم، وكما أنّ أصل غيبـة الإمام (عليه السلام)واضطرار الناس إلى الرجوع إلى فقهائهم كان معلوماً في زمان الأئمّـة (عليهم السلام)لخواصّ أصحابهم، فضلا عن أنفسهم، كذلك وجود هذا الاختلاف الكثير وشدّة الشقاق وكثرة الآراء والأقوال في زمان الغيبـة كان معلوماً لديهم أيضاً، بل يمكن أن يقال ـ كما هو الظاهر ـ إنّهم (عليهم السلام)
(الصفحة 446)
عمدوا إلى إيجاد هذا الاختلاف وهيّأوا مقدّماتـه اختياراً، لغرض بقاء الدين، وصيرورة النظر في الروايات الصادرة عنهم، واستخراج مراداتهم من الفنون حتّى يهمّ بعض الناس الورود في هذا الفنّ وصرف أوقاتـه فيـه، وبذلك يتحقّق حزب إلهي في مقابل سائر الأحزاب، ولو أنّهم كانوا قد جمعوا آرائهم في رسالـة واحدة ونشروها بين الاُمّـة ليرجع إليها كلّ من يقتدى بهم من دون تكلّف ومشقّـة نعلم قطعاً بأنّـه لم يكن يبقى من الدين في مثل هذه الأزمنـة عين ولا أثر، كما هو ظاهر لمن تدبّر.
وبالجملـة: فلا ينبغي الشكّ في أنّ هذا الوضع الفعلي كان معلوماً في زمان الأئمّـة (عليهم السلام) لا لأجل كونهم مطّلعين على ما يكون، بل لأجل كون طبع الأمر ينجرّ إلى ذلك، ومع ذلك فلا محيص عن الالتزام بأنّ عدم ردعهم يكشف عن إمضاء الشارع وتنفيذه لنفس هذه الطريقـة، فافهم واغتنم.
إذا عرفت ذلك فنقول:
مناط بناء العقلاء في رجوع الجاهل إلى العالم ومقتضاه
إنّ رجوع الجاهل إلى العالم
يمكن
أن يكون لأجل حصول الاطمئنان من قولـه، بحيث لا ينقدح في ذهنـه احتمال الخلاف ولا يلتفت إليـه، وعلى تقدير التوجّـه والالتفات لا يعتنى بـه.
ويمكن
أن يكون لأجل انسداد باب العلم عليه واضطراره من الرجوع إليـه.
ويمكن
أن يكون لأجل التبعيّـة لأئمّتهم ورؤسائهم الجاعلين لهذا القانون في الأزمنـة السابقـة لأغراض منظورة لهم، من دون أن يكون أمراً ارتكازيّاً للناس، بل صار ارتكازيّاً لهم بعد جعل رؤسائهم.
(الصفحة 447)
فهذه احتمالات متصوّرة في بادئ النظر، لكن لا سبيل إلى الثاني، لأنّ الانسداد لا ينتج الرجوع إلى العالم والتعبّد بقولـه، بل يقتضي الاحتياط ولو مبعّضاً كما لايخفى.
والثالث أيضاً في غايـة البعد بل مستحيل عادةً فإنّا نرى أنّ هذا الأمر ـ وهو رجوع الجاهل إلى العالم ـ أمر متّفق عليـه بين جميع أهل الأمصار في جميع الأعصار والقرون.
فدعوى استناد ذلك إلى جعل الأئمّـة والرؤساء ترجع إلى تصادف اتّفاق جميع الأئمّـة على جعل هذا الأمر مع كثرة الفصل بين البلاد وعدم الارتباط بين ساكنيها في تلك الأزمنـة أصلا، فإسناد ذلك إلى مجرّد التصادف مستبعد جدّاً، بل محال عادة، كما عرفت.
فلا محيص عن الالتـزام بأنّ الوجـه في رجـوع الجاهـل إلى العالم هو كون قولـه طريقاً موجباً لحصول الاطمئنان بحيث لا يكاد ينقدح في ذهنهم احتمال الخلاف كما هو الشأن في مثل قاعدة اليد من القواعد العقليّـة المتداولـة بين الناس(1). نعم لا يبعد أن يكون للانسداد دخل في أعمالهم في جميع الموارد أو في بعضها.
لكن يرد على هذا الوجـه: أنّـه كيف يمكن أن يدّعى بناء العقلاء على إلغاء احتمال الخلاف والخطأ مع هذه الاختلافات الكثيرة المشاهدة من الفقهاء بل من فقيـه واحد في كتبـه العديدة بل في كتاب واحد. ولهذا لا يبعد أن يكون رجوع
- 1 ـ من هنا إلى آخر الكتاب عين عبارات سيّدنا الاُستاذ دام بقاءه في رسالتـه الموضوعـة في هذا الباب فلا تغفل. [المقرّر حفظـه اللّه].
(الصفحة 448)
العامّي إلى الفقيـه إمّا لتوهّم كون فنّ الفقـه ـ كسائر الفنون ـ يقلّ الخطأ فيـه وكان رجوع المقلّد لمقدّمـة باطلـة وتوهّم خطأ، أو لأمر تعبّدي أخذه الخلف عن السلف، لا لأمر عقلائي وهو أمر آخر غير بناء العقلاء.
ودعوى قلّـة خطأ العلماء بالنسبـة إلى صوابهم بحيث يكون احتمالـه ملغى ـ وإن كثر ـ بعد ضمّ الموارد بعضها إلى بعض غير وجيهـة، مع ما نرى من الاختلافات الكثيرة في كلّ باب إلى ما شاء اللّه.
وقد يقال: إنّ المطلوب للعقلاء في باب الاحتجاجات بين الموالي والعبيد قيام الحجّـة وسقوط التكليف والعقاب بأيّ وجـه اتّفق، والرجوع إلى الفقهاء موجب لذلك، لأنّ المجتهدين مع اختلافهم في الرأي مشتركون في عدم الخطأ والتقصير في الاجتهاد، ولا ينافي ذلك الاختلاف في الرأي، لإمكان عثور أحدهما على حجّـة في غير مظانّها، أو أصل من الاُصول المعتمدة ولم يعثر عليهما الآخر مع فحصـه بالمقدار المتعارف، فتمسّك بالأصل العملي أو عمل على الأمارة التي عنده، فلا يكون واحد منهما مخطئاً في اجتهاده، ورأي كلّ منهما حجّـة في حقّـه وحقّ غيره، فرجوع العقلاء إليهما لأجل قيام الحجّـة والعذر، وهما المطلوب لهم لا إصابـة الواقع الأوّلي.
وأوضح من ذلك ما لو قلنا بجعل المماثل في مؤدّى الأمارة.
وفيـه أوّلا: أنّ تسميـة ذلك «عدم الخطأ» في غير محلّـه. نعم لا يكون ذلك تقصيراً وإن كان مخطئاً، ومع اختلافهما لا محالـة يعلم بخطأ أحدهما، ومعـه لايكون البناء على الرجوع إذا كان الاختلاف كثيراً ولو في غير مورد اختلافهما، للاعتداد باحتمال الخطأ حينئذ.