(الصفحة 499)
فصل
في اختلاف الحي والميّت في مسأ
لة البقاء
إذا قلّد مجتهداً كان يقول بوجوب الرجوع إلى الحي فمات، فإن غفل المقلّد عن الواقعـة ولوازمها ورجع عنـه بتوهّم جواز تقليده في الرجوع فلا كلام إلاّ في صحّـة أعمالـه وعدمها. وإن تذكّر بعدم جواز تقليده في ذلك، فإنّـه أيضاً تقليد للميّت، أو تحيّر ورجع إلى الحي في هذه المسألـة وكان هو قائلا بوجوب البقاء، فمع تقليده من الحي فيها يجب عليـه البقاء في سائر المسائل.
وأمّا في هذه المسألـة الاُصوليـة، فلا يجوز لـه البقاء; لأنّـه قلّد فيها الحي ولا تحيّر لـه فيها حتّى قلّد عن الميّت، ولا يجوز للمفتي الحي الإفتاء بالبقاء فيها; لكون الميّت على خطأ عنده، فلا يشكّ حتّى يجري الاستصحاب.
وكذا لا يجوز لـه إجراء الاستصحاب للمقلّد، لكونـه غير شاكّ فيها، لقيام الأمارة لديـه، وهي فتوى الحي، بل لا يجري بالنسبـة إليـه ولو مع قطع النظر عن فتوى الحي، لأنّ المجتهد في الشبهات الحكميّـة يكون مشخصاً لمجاري الاُصول، وأمّا الأحكام ـ اُصوليّةً أو فرعيّة ـ فلا اختصاص لها بالمجتهد، بل هي مشتركـة بين العالم والجاهل، فحينئذ لو رأى خطأ الميّت وقيام الدليل على
(الصفحة 500)
خلافـه فلا محالـة يرى عدم جريان الاستصحاب، لاختلال أركانـه، وهو أمر مشترك بينـه وبين جميع المكلّفين.
وبما ذكرناه تظهر مسألـة اُخرى
،
وهي أنّـه: لو قلّد مجتهداً في الفروع، فمات، فقلّد مجتهداً يرى وجوب الرجوع فرجع إليـه فمات، فقلّد مجتهداً يرى وجوب البقاء يجب عليـه الرجوع إلى فتوى المجتهد الأوّل، لقيام الأمارة الفعليّـة على بطلان فتوى الثاني بالرجوع، فيرى أنّ رجوعـه عن الميّت الأوّل كان باطلا، فالميزان على الحجّـة الفعليّـة; وهي فتوى الحي.
والقول بجواز البقاء على رأي الثاني برأي الثالث غير صحيح; لأنّ الثالث يرى بطلان رأي الثاني في المسألـة الاُصوليّـة، وعدم صحّـة رجوع المقلّد عن تقليد الأوّل، فقامت عند المقلّد فعلا أمارة على بطلانـه، فلا معنى لبقائـه فيها.
وأمّا شيخنا العلاّمـة أعلى اللّه مقامـه
ـ بعد نقل كلام شيخنا الأعظم (قدس سره)
من كون المقام إشكالا وجواباً نظير ما قيل في شمول أدلّـة حجّيـة خبر الثقـة لخبر السيّد بعدم حجّيتـه، وأجاب عنـه بمثل ما أجاب في ذلك المقام، وبعد بيان الفرق بين المقامين بأنّـه لم يلزم في المقام التخصيص المستهجن واللغز والمعمّا; لعدم عموم صادر عن المعصوم فيـه ـ قال ما ملخّصـه:
المحقّق في المقام فتوى: أنّـه لا يمكن الأخذ بكليهما، لأنّ المجتهد بعدما نزّل نفسـه منزلـة المقلّد في كونـه شاكّاً رأى هنا طائفتين من الأحكام ثابتـتين للمقلّد، إحداهما: فتوى الميّت في الفروع، وثانيتهما: الفتوى في الاُصول الناظرة إلى الفتاوى في الفروع والمسقطـة لها عن الحجّيـة، فيرى أركان الاستصحاب فيهما تامّـة.
ثمّ قال: لا محيص من الأخذ بالفتوى الاُصوليّـة، فإنّـه لو اُريد في
(الصفحة 501)
الفرعيّـة استصحاب الأحكام الواقعيّـة فالشكّ في اللاحق موجود دون اليقين السابق; أمّا الوجداني فواضح، وأمّا التعبّدي فلارتفاعـه بموت المفتي، فصار كالشكّ الساري، وإن اُريد استصحاب الحكم الظاهري الجائي من قبل دليل اتّباع الميّت، فإن اُريد استصحابـه مقيّداً بفتوى الميّت فالاستصحاب في الاُصوليّـة حاكم عليـه، لأنّ الشكّ في الفروعيّـة مسبّب عن الشكّ فيها، وإن اُريد استصحاب ذات الحكم الظاهري وجعل كونـه مقول قول الميّت جهـة تعليليـة فاحتمال ثبوتـه إمّا بسبب سابق، فقد سدّ بابـه الاستصحاب الحاكم، أو بسبب لاحق فهو مقطوع العدم، إذ مفروض الكلام صورة مخالفـة فتوى الميّت للحي.
نعم، يحتمل بقاء الحكم الواقعي، لكن لا يكفي ذلك في الاستصحاب، لأنّـه مع الحكم الظاهري في رتبتين وموضوعين، فلا يكون أحدهما بقاءً للآخر، لكن يجري استصحاب الكلّي بناءً على جريانـه في القسم الثالث.
وإن اُريد استصحاب حجّيـة فتاوى الفرعيّـة فاستصحاب الحجّيـة في الاُصوليّـة حاكم عليـه، لأنّ شكّـه مسبّب عنـه، لأنّ عدم حجّيـة تلك الفتاوى أثر لحجّيـة هذه، وليس الأصل مثبتاً، لأنّ هذا من الآثار الثابتـة لذات الحجّـة الأعمّ من الظاهريّـة والواقعيّـة.
ثمّ رجع عمّا تقدّم واختار عدم جريان الاستصحاب في الاُصوليّـة، فإنّ مقتضى جريانـه الأخذ بخلاف مدلولـه، ومثلـه غير مشمول لأدلّـة الاستصحاب، فإنّ مقتضى الأخذ باستصحاب هذا الفتوى، سقوط فتاويـه عن الحجّيـة، ومقتضى سقوطها الرجوع إلى الحي، وهو يفتي بوجوب البقاء، فالأخذ بالاستصحاب في الاُصوليّـة ـ التي مفادها عدم الأخذ بفتاويـه في الفرعيّات ـ لازمـه الأخذ في الفرعيّات بها.
(الصفحة 502)
وهذا باطل، وإن كان اللزوم لأجل الرجوع إلى الحي لا لكون مفاد الاستصحاب ذلك; إذ لا فرق في الفساد بين الاحتمالين.
هذا مضافاً إلى أنّ المسؤول عنـه في الفرعيّات المسألـة الاُصوليـة; أعني من المرجع فيها، فلاينافي مخالفـة الحي للميّت في نفس الفروع مع إفتائـه بالبقاء في المسألـة الاُصوليّـة، وأمّا الفتوى الاُصوليّـة فنفسها مسؤول عنها ويكون الحي هو المرجع فيها، وفي هذه المسألـة لا معنى للاستصحاب بعد أن يرى الحي خطأ الميّت، فلا حالـة سابقـة حتّى تستصحب(1)، انتهى.
وفيـه محالّ للنظر:
منها:
أنّ الاستصحاب في الأحكام الواقعيـة في المقام لا يجري ولو فرض وجود اليقين السابق، لعدم الشكّ في البقاء، فإنّ الشكّ فيـه إمّا ناش من احتمال النسخ أو احتمال فقدان شرط أو وجدان مانع، والكلّ مفقود. بل الشكّ فيـه ممحّض في حجّيـة الفتوى وجواز العمل بها، وإنّما يتصوّر الشكّ في البقاء إذا قلنا بالسببيّـة والتصويب.
ومنها:
أنّ حكومـة الأصل في المسألـة الاُصوليّـة عليـه في الفرعيّـة ممنوعـة; لأنّ المجتهد إذا قام مقام المقلّد ـ كما هو مفروض الكلام ـ يكون شكّـه في جواز العمل على فتاوى الميّت في الاُصول والفروع، ناشئاً من الشكّ في اعتبار الحياة في المفتي، وجواز العمل في كلّ من الطائفتين مضادّ للآخر ومقتضى جواز كلٍّ، عدم جواز الآخر.
ولو قيل: إنّ مقتضى إرجاع الحي إيّاه إلى الميّت سببيّة شكّه في الاُصوليّـة.
- 1 ـ كتاب البيع، المحقّق الأراكي 2: 488 ـ 493.
(الصفحة 503)
قلنا: هذا خلاف المفروض، وإلاّ فلا يبقى مجال للشكّ لـه في هذه المسألـة، ففرض الشكّ فيما لم يقلد عن الحي فيها.
هذا مضافاً إلى أنّ مطلق كون الشكّ مسبّباً عن الآخر، لا يوجب التحكيم، كما قرّرنا في محلّـه(1) مستقصى، وملخّصـه: أنّ وجـه تقدّم الأصل السببي أنّ الأصل في السبب منقّح لموضوع دليل اجتهادي ينطبق عليـه بعد التنقيح، والدليل الاجتهادي بلسانـه حاكم على الأصل المسبّبي، فإذا شكّ في طهارة ثوب غسل بماء شكّ في كرّيتـه فاستصحاب الكرّيـة ينقّح موضوع الدليل الاجتهادي الدالّ على أنّ ما غسل بالكرّ يطهر، وهو حاكم على الأصل المسبّبي بلسانـه.
وإن شئت قلت: إنّـه لا مناقضـة بين الأصل السببي والمسبّبي، لأنّ موضوعهما مختلفان، والمناقض للأصل المسبّبي إنّما هو الدليل الاجتهادي بعد تنقيح موضوعـه حيث دلّ بضمّ الوجدان وتطبيقـه على الخارج «أنّ هذا الثوب المغسول بهذا الماء طاهر» والاستصحاب في المسبّبي مفاده «أنّ هذا الثوب المشكوك في نجاستـه وطهارتـه نجس» ومعلوم أنّ لسان الأوّل حاكم على الثاني.
وتوهّم: أنّ مقتضى الأصل السببي هو ترتيب جميع آثار الكرّيـة على الماء، ومنها ترتيب آثار طهارة الثوب.
مدفوع أوّلا: بأنّ مفاد الاستصحاب ليس إلاّ عدم نقض اليقين بالشكّ، فإذا شكّ في كرّيـة ماء كان كرّاً لا يكون مقتضى دليل الاستصحاب إلاّ التعبّد بكون الماء كرّاً، وأمّا لزوم ترتيب الآثار فبدليل آخر وهو الدليل الاجتهادي.
- 1 ـ الاستصحاب، الإمام الخميني (قدس سره): 243 ـ 246.