(الصفحة 405)انحصار المرجّح المنصوص في موافقـة الكتاب ومخالفـة العامّـة
فنقول: إنّ العمدة في هذا الباب هي المقبولـة(1) والمرفوعـة(2)، أمّا المرفوعـة فهي قاصرة من حيث السند، لعدم كونها منقولـة إلاّ في كتاب عوالي اللآلي الذي طعن فيـه وفي مؤلّفـه صاحب الحدائق في مقدّماتـه(3).
وأمّا المقبولـة فالتأمّل فيها يقضي بأن أكثر المرجّحات المذكورة فيها ليس مرجّحاً للروايـة، بل إنّما هي مرجّحات لأحد الحكمين، فإنّ الأصدقيّـة والأورعيّـة والأعدليّـة المذكورة فيها إنّما جعلت مرجّحـة لأحد الحكمين، ولا ارتباط لها بباب الروايـة أصلا، وأمّا الشهرة الفتوائيـة التي جعلت وصفاً لإحـدى الروايتين فالظاهـر أنّها أيضاً مـن مرجّحات باب الحكم وأنّ الحكم الـذي كان مستنده مشهوراً من حيث الفتوى راجـح على الآخـر مـن غير نظر إلى نفس المستندين.
وإن أبيت إلاّ عن دلالـة المقبولـة على مرجّحيّـة الشهرة لإحدى الروايتين مع قطع النظر عن كونهما مستندين للحكمين فنقول: إنّ جعل الشهرة من المرجّحات حينئذ ممنوعـة، لأنّ الظاهر من المقبولـة أنّ الروايـة المطابقـة
- 1 ـ الكافي 1: 54 / 10، وسائل الشيعة 27: 106، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب9، الحديث1.
- 2 ـ عوالي اللآلي 4: 133 / 229، مستدرك الوسائل 17: 303، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب9، الحديث2.
- 3 ـ الحدائق الناضرة 1: 99.
(الصفحة 406)
للمشهور من مصاديق بيّن الرشد الذي يجب أن يتّبع، وغير المشهور الذي هو الشاذّ النادر هو من أفراد بيّن الغي الذي يجب أن يُترك ويدع، لامن مصاديق الأمر المشكل الذي يجب أن يردّ إلى اللّه والرسول، وحينئذ فالشهرة تميّز الحجّـة عن اللاحجّـة، لا أنّها مرجّحـة لإحدى الحجّتين على الاُخرى.
فانقدح: أنّ المرجّح في مقام الفتوى الذي يدلّ عليـه المقبولـة ليس إلاّ موافقـة الكتاب ومخالفـة العامّـة.
ومن المعلوم أنّ تقيـيد ما يدلّ على التخيـير ـ الذي عرفت انحصاره في خبر الحسن بن الجهم المتقدّم(1) ـ بالمقبولـة مع عدم دلالتها إلاّ على أنّ المرجّح للروايـة أمران ليس تقيـيداً مستهجناً، كما هو واضح. فالإشكال الأوّل حينئذ لا يبقى لـه مجال.
وأمّا الإشكال الثاني الذي مرجعـه إلى أنّ اختلاف الأخبار الواردة في باب المرجّحات دليل على عدم لزوم الترجيح وعدم وجوبـه، فالجواب عنـه يتوقّف على التكلّم في مقامين:
حال الأخبار الواردة في موافقة الكتاب
المقام الأوّل:
في الأخبار الواردة فيما يتعلّق بمخالف الكتاب من الروايات المرويّـة عنهم (عليهم السلام) وهي على طائفتين:
الطائفـة الاُولى: ما تدلّ على أنّ الخبر المخالف للكتاب ممّا لم يصدر عنهم (عليهم السلام) أصلا، سواء كان له معارض أم لا، كما يقتضيه إطلاقها، وقد أورد جملة
- 1 ـ تقدّم في الصفحـة 396.
(الصفحة 407)
منها في الوسائل في الباب التاسع من أبواب كتاب القضاء كخبر السكوني(1).
وخبر أيّوب بن راشد(2) وهو ضعيف من حيث السند، لكنّـه لابأس بـه من حيث الدلالـة، لأنّ الظاهر عرفاً من عدم الموافقـة هو المخالفـة وإن كان مفهوماً أعمّ، كما لايخفى. وخبر أيّوب بن الحرّ، وصحيحـة هشام بن الحكم، ومرسلـة ابن بكير(3) لكنّـه ليس لها كثير ربط بالمقام، وغير ذلك ممّا أورده في المستدرك(4)في ذلك الكتاب.
والطائفـة الثانيـة: ما وردت في خصوص المتعارضين وترجيح الموافق للكتاب على المخالف كخبر ابن أبييعفور(5)، ولكن الظاهر أنّـه من جملـة الطائفـة الاُولى، كما لايخفى، وروايـة الطبرسي(6)، وهي أيضاً كالسابقـة، وروايـة العيّاشي(7)، وهي أيضاً كسابقتيها، وروايـة الميثمي الطويلة، وقد مرّت(8)هذه الروايـة والتكلّم فيها، ومصحّحـة عبدالرحمان بن أبيعبداللّه، قال: قال الصادق (عليه السلام):
«إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب اللّه، فما
- 1 ـ وسائل الشيعـة 27: 109، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب9، الحديث10.
- 2 ـ وسائل الشيعـة 27: 110، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب9، الحديث12.
- 3 ـ وسائـل الشيعـة 27: 111، كتاب القضاء، أبـواب صفات القاضـي، الباب9، الحـديث14، 15، 18.
- 4 ـ مستدرك الوسائل 17: 302، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب9.
- 5 ـ وسائل الشيعـة 27: 110، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب9، الحديث11.
- 6 ـ وسائل الشيعـة 27: 121، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب9، الحديث40.
- 7 ـ وسائل الشيعـة 27: 123، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب9، الحديث47.
- 8 ـ تقدّمت في الصفحة 390.
(الصفحة 408)
وافق كتاب اللّه فخذوه، وما خالف كتاب اللّه فردّوه، فإن لم تجدوهما في كتاب اللّه فاعرضوهما على أخبار العامّـة، فما وافق أخبارهم فذروه، وما خالف أخبارهم فخذوه»(1)، هذا.
وقد جمع بين الطائفتين بحمل المخالفـة في الطائفـة الاُولى على المخالفـة بالتباين الكلّي، وفي الطائفـة الثانيـة على المخالفـة بغيره، سواء كان بالعموم والخصوص المطلق أو من وجـه، وهذا الجمع وإن كان يبعّده اتّحاد التعبيرات الواقعـة في الطائفتين مـن أنّ المخالف زخـرف أو باطـل، أو لم نقلـه، أو إضربـه على الجـدار، أو غير ذلك مـن التعبيرات، إلاّ أنّ التحقيق يقتضي المسير إليـه.
وتوضيحـه: أنّ إطلاق المخالفـة في الطائفـة الاُولى يشمل جميع أنحاء المخالفات بالتباين أو بالعموم والخصوص بقسميـه، ضرورة أنّك عرفت(2) في أوّل هذا الكتاب أنّ السالبـة الكلّيـة تناقض الموجبـة الجزئيـة وكذا العكس، لكنّك عرفت(3) أنّـه في محيط التقنين وجعل الأحكام على سبيل العموم لا يعدّ مثل العامّ والخـاصّ مخـالفين أصلا ولا يحكمون بتساقطهما في مـورد التعـارض أو الرجـوع إلـى الـمرجّـح، فبهذه الـقرينـة العـقلائيّـة ترفـع اليـد عـن إطلاق الطائفـة الاُولى.
- 1 ـ وسائـل الشيعـة 27: 118، كتاب القضـاء، أبـواب صفـات القاضـي، الباب9، الحـديث29.
- 2 ـ تقدّم في الصفحـة 320.
- 3 ـ تقدّم في الصفحـة 321.
(الصفحة 409)
وأمّا الطائفـة الثانيـة
الواردة في خصوص المتعارضين، فلا قرينـة على رفع اليد عن إطلاق المخالفـة الواردة فيها، فمقتضاها أنّ في الخبرين المتعارضين يردّ الخبر المخالف للكتاب، سواء كان مخالفتـه بنحو التباين أو بنحو العموم والخصوص بقسميـه، وهذا لا ينافي وجوب ردّ الخبر المخالف للكتاب بالمخالفـة بنحو التباين ولو لم يكن لـه معارض، كما هو مقتضى الطائفـة الاُولى، كما لايخفى.
ثمّ إنّـه قد يقال: بأنّـه لا ثمرة للنزاع في كون موافقـة الكتاب من المرجّحات، لأنّـه على أيّ تقدير يجب الحكم على وفق ما يدلّ عليـه الكتاب، سواء كانت موافقتـه من المرجّحات أو لم تكن، ولكن كان الكتاب مرجعاً على تقدير تساقط الخبرين بعد تعارضهما.
ولكن يرد عليـه بأنّـه يمكن فرض مورد تـترتّب الثمرة على ذلك، وذلك كما لو فرض دلالـة الكتاب على وجوب عتق الرقبـة مطلقاً، من غير تقيـيد بخصوص المؤمنـة بعد إيقاع الظهار من الزوج، ووردت روايـة دالّـة على أنّـه: إن ظاهرت فاعتق رقبـة مؤمنـة. وروايـة اُخرى دالّـة على أنّـه: إن ظاهرت فلا تعتق رقبـة مؤمنـة، فإنّـه على تقدير القول بالتساقط والرجوع إلى الكتاب لابدّ من الحكم بكفايـة عتق مطلق الرقبـة في كفّارة الظهار ولو لم تكن مؤمنـة، كما هو مدلول ظاهر الكتاب على ما هو المفروض.
وأمّا على تقدير القول بترجيح الروايـة الموافقـة يردّ الروايـة المخالفـة، ويجب حينئذ ملاحظـة الكتاب مع الروايـة الموافقـة لـه، وهما وإن كانا مثبتين، إلاّ أنّـه حيث تكون وحدة السبب دليلا على وحدة الحكم لابدّ من تقيـيد الكتاب بالرواية الموافقـة له والحكم بتعيّن عتق خصوص الرقبة المؤمنة في كفّارة الظهار.