(الصفحة 237)
من عدم انحلال الخطابات حسب تعدّد المخاطبين فلامانع من كونه مكلّفاًكالجاهل وغير القادر وغيرهما من المكلّفين المعذورين، وحينئذ فلا يبقى فرق بين كون الأدلّـة المتضمّنـة لبيان الأجزاء بلسان الوضع أو بلسان الأمر، كما لايخفى.
المقام الثاني: فيما يقتضيه الأصل الشرعي في النقيصة السهويّة
واعلم أنّ مورد البحث في هذا المقام ما إذا كان للدليل المثبت للجزئيـة إطلاق يشمل حال النسيان أيضاً، بحيث لو لم يكن مثل حديث الرفع(1) في البين لكان نحكم بعدم الاكتفاء بالمركّب الناقص المأتي بـه في حال النسيان، لكونـه فاقداً للجزء المعتبر فيـه مطلقاً. غايـة الأمر أنّ محل البحث هنا أنّـه هل يمكن تقيـيد إطلاقات أدلّـة الأجزاء بمثل حديث الرفع المشتمل على رفع النسيان حتّى يكون مقتضاه اختصاص الجزئيّـة بحال الذكر وكون المركّب الناقص مصداقاً للمأمور بـه أم لا؟ ولا يخفى أنّـه لابدّ في إثبات أجزاء المركّب الناقص أوّلا: من الالتزام بكون حديث الرفع قابلا لتقيـيد إطلاقات أدلّـة الأجزاء، وثانياً: من إثبات كون الباقي مصداقاً للمأمور بـه، لأنّـه تمامـه. وتنقيحـه ليظهر ما هو الحقّ يتمّ برسم اُمور:
الأوّل:
أنّك قد عرفت في إحدى مقدّمات الأقلّ والأكثر في الأجزاء أنّ المركّبات الاعتباريّـة عبارة عن الأشياء المتخالفـة الحقائق. غايـة الأمر أنّـه لوحظ كونها شيئاً واحداً وأمراً فارداً لترتّب غرض واحد على مجموعها، وعرفت
- 1 ـ الخصال: 417 / 9، وسائل الشيعـة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب56، الحديث1.
(الصفحة 238)
أيضاً أنّ الأمر المتعلّق بالمركّب الاعتباري أمر واحد. غايـة الأمر أنّـه يدعو إلى كلّ واحد من الأجزاء بعين دعوتـه إلى المركّب، لأنّها هو بعينـه، ولا تغاير بينهما إلاّ بالاعتبار، ولا يتوقّف دعوتـه إلى جزء على كون الجزء الآخر أيضاً مدعوّاً، بل دعوتـه إلى كلّ واحد من الأجزاء في عرض دعوتـه إلى الآخر، ولا تكون مرتبطـة بها، كما لايخفى.
الثاني:
أنّ تقيـيد إطلاقات أدلّـة الأجزاء بمثل حديث الرفع يكون مرجعـه إلى أنّ الإرادة الاستعماليـة في تلك الأدلّـة وإن كانت مطلقـة شاملـة لحال النسيان أيضاً إلاّ أنّ حديث الرفع يكشف عن قصر الإرادة الجدّيـة على غير حال النسيان. وليس معنى رفع الجزئيـة فيـه أنّ الجزئيـة المطلقـة المطابقـة للإرادة الجدّيـة صارت مرفوعـة في حال النسيان، فإنّ ذلك من قبيل النسخ المستحيل، بل معنى الرفع هو رفع ما ثبت بالقانون العامّ الكلّي المطابق للإرادة الاستعماليـة، وضمّ ذلك القانون إلى حديث الرفع ينتج أنّ الإرادة الجدّيـة من أوّل الأمر كانت مقصورة بغير صورة النسيان، وهذا هو الشأن في جميع الأدلّـة الثانويّـة بالقياس إلى الأدلّـة الأوّليـة.
فنفي الحكم الحرجي بقولـه تعالى:
(وَمَا جَعَلَ عَلَيكُم فِي الدِّينِ مِن حَرَج )(1) مرجعـه إلى كون ذلك كاشفاً عن انحصار مقتضى الأدلّـة الأوّليـة بغير صورة الحرج.
غايـة الأمر أنّها القيت بصورة الإطلاق قانوناً، كما هو كذلك في القوانين الموضوعـة عند العقلاء، وقد تقدّم في مباحث العموم والخصوص شطر من
(الصفحة 239)
الكلام على ذلك(1) وأنّ معنى التخصيص يرجع إلى التخصيص بالنسبـة إلى الإرادة الاستعماليـة لا الجدّيـة، فإنّها من أوّل الأمر لم تكن متعلّقـة بما يشمل مورد المخصّص أيضاً، كما لايخفى.
الثالث:
أنّ معنى رفـع النسيان ليس راجعـاً إلى رفـع نفس النسيان التي هي صفـة منقدحـة في النفس، ولا إلى رفـع الآثـار المترتّبـة عليها، بل معناه هـو رفـع المنسـي بما لـه مـن الآثـار المترتّبـة عليـه. فقـد وقـع فـي ذلك ادّعـاءان:
أحدهما: أنّ المنسي هو النسيان.
ثانيهما: ادّعاء أنّ المنسي إذا لم يترتّب عليـه أثر في الشريعـة يكون كأنّـه لم يوجد في عالم التشريع. وقد عرفت سابقاً أنّ المصحّح لهذا الادّعاء هو رفع جميع الآثار المترتّبـة عليـه، وأمّا رفع بعض الآثار فلا يلائم رفع الموضوع الذي يترتّب عليـه الأثر، كما هو واضح.
الرابع:
أنّ النسيان المتعلّق بشيء الموجب لعدم تحقّقـه في الخارج هل هـو متعلّق بنفس طبيعـة ذلك الشيء مـن غير مدخليّـة الوجـود أو العدم، أو يتعلّق بوجود تلك الطبيعـة، أو يتعلّق بعدمها؟ وجوه، والظاهر هو الأوّل، فإنّ الموجب لعدم تحقّق الطبيعـة في الخارج هو الغفلـة والذهول عن نفس الطبيعـة، لا الغفلـة عن وجـودها، كيف والمفروض أنّـه لم يوجـد حتّى يتعلّق بوجـوده النسيان، ولا الغفلـة عن عدمها، كيف ولا يعقل أن يصير الغفلـة عـن العدم موجباً لـه، كما هو واضح.
- 1 ـ تقدّم في الجزء الأوّل: 282.
(الصفحة 240)
إذا تمهّد لك هذه الاُمور تعرف:
أنّ مقايسـة حديث الرفع المشتمل على رفع النسيان مع الأدلّـة الأوّليـة المطلقـة الدالّـة على جزئيـة الجزء المنسي مطلقاً، يقتضي كون المركّب الناقص المأتي بـه في حال النسيان تمام المأمور بـه; لأنّ المفروض كونـه معنوناً بعنوان الصلاة التي هي متعلّق الأمر. وقد عرفت أنّ الأمر الذي يدعو إليها داع إلى جميع أجزائها، ولا يتوقّف دعوتـه إلى جزء على كون الجزء الآخر أيضاً مدعوّاً.
وقد عرفت أيضاً أنّ مقتضى حديث الرفع تقيـيد تلك الأدلّـة بحال الذكر وكون السورة المنسيّـة ـ مثلا ـ معتبرة في الصلاة في خصوص هذا الحال، فالصلاة الفاقدة للسورة المنسيّـة تمام المأمور بـه بالأمر المتعلّق بطبيعـة الصلاة المشتركـة بين التامّ والناقص.
ومن جميع ما ذكرنا ينقدح الخلل فيما أفاده العَلَمان النائيني(1)والعراقي (قدس سرهما)في هذا المقام في بيان عدم دلالـة الحديث على رفع الجزئيّـة في حال النسيان.
ومحصّل ما أفاده المحقّق العراقي يرجع إلى وجوه ثلاثـة:
أحدها: أنّ الحديث على تقدير كون المرفوع فيـه هو المنسي لا يمكن التمسّك بـه لإثبات الاجتزاء بالمأتي بـه في حال النسيان، لأنّ أثر وجود الجزء لا يكون إلاّ الصحّـة لا الجزئيّـة، لأنّها من آثار طبيعـة الجزء لا من آثار وجود الجزء المنسي، ورفع الصحّـة يقتضي البطلان ووجوب الإعادة.
ثانيها: أنّـه إن اُريد برفع الجزئيّـة والشرطيّـة رفعهما عن الجزء والشرط
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 223 ـ 228.
(الصفحة 241)
المنسيّين فـي مقام الدخـل في الملاك والمصلحـة فلا شبهـة في أنّ هـذا الدخـل أمـر تكويني غير قابل لأن يتعلّق بـه الرفـع التشريعي.
وإن اُريد رفعهما بلحاظ انتزاعهما عن التكليف الضمني المتعلّق بالجزء والتقيّد بالشرط، فيرد عليـه ما تقدّم من اختصاص الرفع في الحديث برفع ما لولاه يكون قابلا للثبوت تكليفاً أو وضعاً وعدم شمولـه للتكاليف المتعلّقـة بالمنسي في حال النسيان، لارتفاعها بمحض تعلّق النسيان، بملاك استحالـة التكليف بما لايطاق.
ثالثها: أنّـه على تقدير تسليم دلالـة الحديث فغايـة ما يقتضيـه إنّما هو رفع إبقاء الأمر الفعلي والجزئيّـة الفعليـة عن الجزء المنسي في حال النسيان الملازم بمقتضى ارتباطيـة التكليف لسقوط الأمر الفعلي عن البقيّـة أيضاً مادام النسيان، وأمّا اقتضاؤه لسقوط المنسي عن الجزئيـة والشرطيـة في حال النسيان لطبيعـة الصلاة المأمور بها رأساً على نحو يستـتبع تحديد دائرة الطبيعـة في حال النسيان بالبقيّـة ويقتضي الأمر بإتيانها، فلا; بداهـة خروج ذلك عن عهدة حديث الرفع، لعدم تكفّل الحديث لإثبات الوضع والتكليف، لأنّ شأنـه إنّما هو التكفّل للرفع محضاً(1)، انتهى ملخّصاً.
ويرد على الوجـه الأوّل: ما عرفت من أنّ المرفوع في باب الأجزاء هو المنسي وهو طبيعـة الأجزاء مع قطع النظر عن الوجود والعدم. ومعنى رفع الطبيعـة هو رفع الأثر الشرعي المترتّب عليها وهي الجزئيـة، وليس المنسي هو وجود الطبيعـة حتّى يقال: إنّ أثر وجود الجزء هي الصحّـة لا الجزئيـة. هذا
- 1 ـ نهايـة الأفكار 3: 428 ـ 429.