(الصفحة 195)
الأجزاء واجبـة بعين وجوب المركّب، والأمر المتعلّق بـه يدعو إلى الأجزاء بعين دعوتـه إليـه، وحينئذ فالأقلّ واجب بالوجوب النفسي على التقديرين.
وبالجملـة: لا فرق في الداعي بين القائل بالبراءة والقائل بالاشتغال، فإنّ الداعي بالنسبـة إليهما هو الأمر المتعلّق بإقامـة الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل. غايـة الأمر أنّـه لا يصلح للداعويّـة في نظر القائل بالبراءة إلاّ بالنسبـة إلى ما علم انحلال الصلاة إليـه من الأجزاء، كما أنّـه في نظر القائل بالاشتغال يدعو إلى جميع ما تنحلّ إليـه واقعاً ولو كان هو الأكثر، ولذا لا يتحقّق العلم بامتثالـه إلاّ بالإتيان بـه. فلا اختلاف للداعي بالنسبـة إليهما، فيجوز الإتيان بالأقلّ بداعي الأمر المتعلّق بالصلاة بلاريب ولا يوجب ذلك قدحاً في عباديّتها أصلا، كما هو واضح لا يخفى.
هذا كلّـه في البراءة العقليّـة، وقد عرفت جريانها وعدم ورود شيء من الإشكالات الثمانيـة المتقدّمـة عليها.
في جريان البراءة الشرعيّة في المقام
وأمّا البراءة الشرعيّـة: فالظاهر أنّـه لا مانع من جريانها بناءً على ما هو مقتضى التحقيق من انحلال العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ والشكّ في وجوب الأكثر، كما عرفت. وذلك لأنّ الأقلّ معلوم وجوبـه النفسي تفصيلا والأكثر مشكوك، فيكون مرفوعاً بمثل حديث الرفع(1)، ولا فرق في ذلك
- 1 ـ الخصال: 417 / 9، وسائل الشيعـة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب56، الحديث1.
(الصفحة 196)
بين أن يقال بدلالـة الحديث على رفع الجزئيّـة المجهولـة بناءً على إمكان رفعها لكونها قابلـة للوضع، أو يقال بدلالتـه على رفع الوجوب النفسي المتعلّق بالأكثر بناءً على عدم إمكان رفع الجزئيـة. وكيف كان فلا مانع من جريانها بالنسبـة إلى الأكثر بناءً على الانحلال.
وأمّا بناءً على عدم الانحلال الموجب لعدم جريان البراءة العقليّـة فهل تجري البراءة الشرعيّـة مطلقاً، أو لا تجري كذلك، أو يفصّل بين ما إذا كان العلم الإجمالي مقتضياً لوجوب الموافقـة القطعيّـة فتجري، وبين ما إذا قيل بكونـه علّـة تامّـة لـه فلا تجري؟ وجوه بل أقوال ذهب إلى الأوّل المحقّق الخراساني(1)وإلى الأخير المحقّق العراقي على ما في تقريرات بحثـه(2).
والحقّ هو الوجـه الثاني، لأنّـه لو كان مجرى البراءة هو الوجوب النفسي المتعلّق بالأكثر المجهول فالأصل وإن كان يجري بالنسبـة إليـه لكونـه مشكوكاً، إلاّ أنّـه معارض بالأصل الجاري في الأقلّ، لأنّ وجوبـه النفسي أيضاً مشكوك بناءً على ما هو المفروض من عدم انحلال العلم الإجمالي، لأنّـه يلزم من جريانهما مخالفـة عمليّـة للتكليف المعلوم المتحقّق في البين المردّد بين الأقلّ والأكثر.
ودعوى:
أنّ طبيعـة الوجوب بالنسبـة إلى الأقلّ معلومـة بالتفصيل، فلا تجري أصالـة البراءة بالنسبـة إليـه، وأمّا الأكثر فأصل تعلّق الوجوب بـه مشكوك، فلا مانع من جريان الأصل فيـه.
- 1 ـ كفايـة الاُصول: 416.
- 2 ـ نهايـة الأفكار 3: 389.
(الصفحة 197)
مدفوعـة:
بأنّ الأمر المشترك بين الوجوب النفسي والغيري أمر انتزاعي لايكون قابلا للجعل، ضرورة أنّ المجعول إمّا هو الوجوب النفسي، وإمّا هو الوجوب الغيري، غايـة الأمر أنّ العقل بعد ملاحظتهما ينتزع منهما أمراً واحداً وهو أصل الوجوب والإلزام.
كما أنّ دعوى عدم جريان الأصل في الأقلّ بالنسبـة إلى وجوبـه النفسي، لعدم ترتّب أثر عليـه بعد لزوم الإتيان بـه على أيّ تقدير كان واجباً نفسيّاً أو غيريّاً فلا معارض للأصل الجاري في الأكثر.
تندفع بأنّـه يكفي في جريان الأصل ترتّب الأثر عليـه ولو في بعض الموارد، وهنا يكون كذلك، فإنّ جريان أصل البراءة عن الوجوب النفسي المجهول المتعلّق بالأقلّ يترتّب عليـه الأثر فيما لو سقط الجزء المشكوك عن الجزئيـة لتعذّر وغيره، فإنّ مقتضى أصالـة البراءة عن وجوب الأقلّ عدم لزوم الإتيان بـه أصلا.
وبالجملـة: فلو كان مجرى البراءة هو الوجوب النفسي المتعلّق بالأكثر لكان الأصل الجاري فيـه معارضاً بالأصل الجاري في الأقلّ. وأمّا لو كان مجراها هي جزئيّـة الجزء المشكوك فعلى مختار الأعاظم من عدم كون الجزئيّـة قابلـة للوضع ولا للرفع، بل كلّ واحد منهما يتعلّق بمنشأ انتزاعـه وهو الوجوب النفسي المتعلّق بالمركّب من الجزء المشكوك وسائر الأجزاء فيقع التعارض حينئذ بين الأصل الجاري في منشأ انتزاعـه وبين الأصل الجاري في الأقلّ كما في الصورة السابقـة.
ومن هنا ينقدح الخلل فيما أفاده المحقّق العراقي بعد تسليم ثبوت التعارض بين الأصل الجاري في الأكثر في وجوبـه النفسي والأصل الجاري في الأقلّ، من
(الصفحة 198)
أنّـه يكفي في جريان الأصل في جزئيّـة المشكوك مجرّد كونها ممّا أمر رفعـه ووضعـه بيد الشارع ولو بتوسّط منشائـه وهو التكليف، فإنّ للشارع رفع الجزئيّـة عن المشكوك برفع اليد عن فعليّـة التكليف المتعلّق بالأكثر(1).
وجـه الخلل ما عرفت من أنّ منشأ انتزاع الجزئيّـة هو الوجوب النفسي المتعلّق بالمركّب، والأصل الجاري في المركّب من الجزء المشكوك معارض بالأصل الجاري في المركّب من غيره، كما اعترف بـه.
وأمّا لو كان مجرى البراءة هو الوجوب المتعلّق بالجزء المشكوك فالظاهر أيضاً عدم جريان الأصل فيـه للمعارضـة، لأنّ الوجوب المتعلّق بالجزء المشكوك وإن كان وجوباً شرعياً بناءً على القول بوجوب المقدّمـة على خلاف ما هو الحقّ والمحقّق في محلّـه(2)، إلاّ أنّ الملازمـة بينـه وبين وجوب ذي المقدّمـة ملازمـة عقليّـة، فالشكّ فيـه وإن كان مسبّباً عن الشكّ في وجوب الأكثر، إلاّ أنّـه لا يرتفع بالأصل الجاري في السبب بعد عدم كون المسبّب من الآثار الشرعيّـة المترتّبـة عليـه، فكما أنّـه يجري الأصل في السبب يجري في المسبّب أيضاً. وحينئذ فيقع التعارض بين الأصل الجاري فيهما والجاري في الأقلّ.
نعم لو قلنا بكون وجوب المقدّمـة من الآثار الشرعيّـة المترتّبـة على وجوب ذيها لكان الأصل الجاري في السبب معارضاً بالأصل الجاري في الأقلّ، ويبقى الأصل الجاري في المسبّب سليماً عن المعارض، ولكن هذا بمكان من البطلان، لأنّ مسألـة وجوب المقدّمـة مسألـة عقليّـة، كما هو المسلّم بينهم.
- 1 ـ نهايـة الأفكار 3: 390.
- 2 ـ تقدّم في الجزء الأوّل: 15.
(الصفحة 199)
فانقدح من جميع ما ذكرنا: أنّـه بناءً على عدم انحلال العلم الإجمالي لا يجـري أصالـة البراءة بالنسبـة إلى الأكثر لا فـي وجوبـه النفسي المتعلّق بـه، ولا في جزئيـة الجزء المشكوك، ولا في الوجوب المتعلّق بـه.
وهذا لا فرق فيـه بين أن نقول باقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقـة القطعيـة، وبين أن نقول بكونـه علّـة تامّـة لـه، فالتفكيك بين البراءة الشرعيّـة والعقليّـة ممّا لا وجـه لـه أصلا.
ثمّ إنّ المحقّق العراقي
المفصّل بين القـول بالاقتضاء والعلّيـة أفـاد في وجـه عدم جريان الأصل النافي ـ بناءً على العلّيـة ولو في بعض أطرافـه بلامعارض ـ أنّـه بعد انتهاء الأمر إلى حكم العقل بوجوب الاحتياط ولزوم تحصيل الجـزم بالفراغ ولو جعليّاً لا مجال لجـريان الاُصول النافيـة ولو في فرض كونها بلا معارض، إلاّ على فرض اقتضاء جريانها لإثبات أنّ الواجب الفعلي هو الأقلّ ولو ظاهراً، كي ببركـة إثباتـه ذلك يكون الإتيان بـه فراغـاً جعلياً عمّا ثبت في العهدة. وهو أيضاً في محلّ المنع; لمنع اقتضاء مجرّد نفي وجوب الأكثر والخصوصيّـة الزائدة لإثبات هذه الجهـة إلاّ على القول بالمثبت الذي لا نقول بـه.
نعم قد يتوهّم تكفّل مثل حديث الرفع لإثبات ذلك بتقريبات ثلاثـة:
أحدها: أنّ الحديث ناظر إلى إطلاقات أدلّـة الجزئيـة واقعاً بتقيـيد مفاد فعليّتها بحال العلم بها، وأنّـه برفع فعليّـة التكليف عن المشكوك واقعاً مع ضميمـة ظهور بقيـة الأجزاء في الفعليـة يرتفع الإجمال من البين ويتعيّن كون متعلّق التكليف الفعلي هو الأقلّ، وبالإتيان بـه يتحقّق الفراغ والخروج عن عهدة التكليف.