(الصفحة 348)
الموارد التي ادّعي اندراجها في الأظهر والظاهر
وأمّا الموارد التي ادّعي اندراجها في الأظهر والظاهر:
تعارض العموم والإطلاق
فمنها: ما إذا تعارض العامّ الاُصولي والمطلق الشمولي على اصطلاحهم، ودار الأمر بين تقيـيد المطلق وتخصيص العامّ كقولـه: «أكرم العلماء» و«لا تكرم الفاسق». فالشيخ (قدس سره)
ذهب في الرسائل إلى ترجيح التقيـيد على التخصيص(1)، وتبعـه علـى ذلـك المحقّـق النائيني (قدس سره)
(2) ولكنّـه خـالف فـي ذلـك المحقّـق الخراساني(3) وتبعـه المحقّق الحائري(4).
ومحصّل ما أفاده المحقّقان الأوّلان يرجع إلى أنّ شمول العامّ لمورد الاجتماع أظهر من شمول المطلق لـه، لأنّ شمول العامّ لمادّة الاجتماع يكون بالوضع، وشمول المطلـق يكون بمقدّمات الحكمـة، ومـن جملتها عدم ورود مـا يصلح أن يكون بياناً للقيد، والعامّ الاُصولي يصلح لأن يكون بياناً لذلك، فلا تـتمّ مقدّمات الحكمـة في المطلق الشمولي، فلابدّ من تقديم العامّ عليـه.
أقول: لابدّ أوّلا من بيان أنّ محلّ النزاع ممحّض في ما إذا كان التعارض بين
- 1 ـ فرائد الاُصول 2: 792.
- 2 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 729 ـ 730.
- 3 ـ كفايـة الاُصول: 513.
- 4 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 680.
(الصفحة 349)
العامّ والمطلق مع اجتماع شرائطهما في أنفسهما، بحيث كانت أصالـة العموم في العامّ جاريـة مع قطع النظر عن المطلق، وكذا أصالـة الإطلاق في المطلق مع قطع النظر عن العامّ بأن كان المتكلّم ممّن لا يكون بناؤه على إيراد الحكم على سبيل العموم ثمّ بيان المخصّصات، بأن لا يكون في مقام التقنين وجعل الأحكام الكلّيـة كأكثر المتكلّمين، أو كان المخاطب قد فحص عن المخصّص أو المقيّد فلميظفر به.
فدعوى أنّ الإطلاق معلّق على عدم البيان بخلاف العموم، مدفوعـة بأنّ العموم أيضاً معلّق على عدم المخصّص، فلا فرق بينهما من هذه الجهـة أصلا، فمورد البحث متمحّض في مجرّد التعارض بين العامّ والمطلق من دون فرق بينهما من جهـة الفحص وعدمـه.
ونقول بعد ذلك: إنّ نسبـة المخصّص مع العامّ وإن كانت تغاير نسبـة المقيّد مع المطلق، إلاّ أنّ ذلك لا يوجب ترجيحاً لأحدهما على الآخر.
توضيح ذلك: أنّ التعاند الواقع بين العامّ والخاصّ تعاند دلالي، فإنّ العامّ يدلّ على جميع الأفراد بالدلالـة الإجماليّـة، فإنّ قولـه: «أكرم كلّ عالم»، يدلّ على وجوب إكرام كلّ واحد من أفراد هذه الطبيعـة بما أنّـه فرد لها، ضرورة أنّ عالماً موضوع لنفس الطبيعـة المطلقـة، والكلّ يدلّ على تكثيرها المتحقّق بالإشارة إلى أفرادها لا بجميع خصوصياتها، بل بما أنّها مـن أفـرادها، كما حقّقناه مراراً، فهذا القول دالّ بالدلالـة اللفظيـة على وجوب إكرام الجميع، والخاصّ يعانده من حيث الدلالة بالنسبة إلى المقدار الذي خصّص العامّ بـه، فهما متنافيان من حيث الدلالة اللفظية. غاية الأمر تقدّم الخاصّ على العامّ، إمّا لما ذكرنا سابقاً(1) أو لغيره.
- 1 ـ تقدّم في الصفحـة 319 ـ 321.
(الصفحة 350)
وأمّا المطلق فدلالتـه على الإطلاق ليست دلالـة لفظيّـة، ضرورة أنّ اللفظ الدالّ عليـه لا يكاد يتخطّى عن المعنى الذي وضع لـه، سواء بقي على إطلاقـه أو قيّد، بل الإطلاق إنّما ينشأ من عدم الإشارة إلى القيد مع كون المطلق بصدد البيان، والتقيـيد إنّما ينافيـه من حيث إنّـه يذكر القيد ويأتي بـه.
فاحتجاج العبد على المولى في باب المطلقات إنّما يرجع إلى أنّـه لم يقيّد موضوع حكمـه مع كونـه فاعلا مختاراً، وفي باب العمومات يرجع إلى أنّـه لم يقل بخلاف العامّ، إلاّ أنّ هذا الاختلاف لا يوجب الفرق بينهما في مقام تعارض العامّ والمطلق بحيث يكون العامّ أقوى من حيث الدلالـة، كما لايخفى.
نعم قد ذكرنا(1) غير مرّة أنّ اللفظ المطلق لا يدلّ إلاّ على مجرّد نفس الطبيعـة، وانطباقها في الخارج على كلّ واحد من أفرادها لا يوجب دلالـة اللفظ الموضوع لنفس الطبيعـة على الأفراد والكثرات أيضاً، فإنّ للدلالـة مقاماً وللانطباق مقاماً آخر ولا ربط بينهما، فماهيّـة الإنسان وطبيعتها وإن كانت تنطبق على زيد وعمرو وغيرهما من مصاديق هذه الحقيقـة، إلاّ أنّ لفظ الإنسان الموضوع لتلك الماهيّـة لا دلالـة لـه على هذه الكثرات أصلا، ولعمري أنّ هذا واضح جدّاً.
ولا فرق في ذلك بين ما إذا تمّت مقدّمات الحكمـة المنتجـة لثبوت الإطلاق، وبين ما إذا لم تـتمّ، لعدم كون المولى في مقام البيان مثلا، بل كان في مقام الإهمال والإجمال، فإنّ الإطلاق وضدّه إنّما يلاحظان بالنسبـة إلى
- 1 ـ تقدّم في الجزء الأوّل: 339.
(الصفحة 351)
الموضوعيّـة للحكم، ولا ربط لهما بمقام الدلالـة، فإنّ الإنسان المأخوذ في الموضوع ـ مثلا ـ لا دلالـة لـه إلاّ على نفس ماهيّـة الإنسان التي هي حيوان ناطق، سواء كان مطلقاً من حيث الموضوعيّـة بأن كان تمام الموضوع هو نفسها أم لم يكن كذلك.
ومنـه يظهر: أنّ إدراج تعارض المطلق والعامّ في تعارض الأظهر والظاهر بالنسبـة إلى مورد الاجتماع ليس في محلّـه، من حيث إنّ الأظهريّـة والظاهريّـة إنّما هما من أوصاف الدلالـة وحالاتها، والمطلق لا دلالـة لـه على مورد الاجتماع حتّى تـتصف بالظهور، لأنّك عرفت أنّـه لا دلالـة لـه إلاّ على مجرّد نفس الطبيعـة والكثرات المتّحدة في الخارج معها خارجـة عن مدلولـه.
كما أنّـه ظهر ممّا ذكرنا: أنّ تسميـة هذا المطلق بالمطلق الشمولي ممّا لا وجـه لـه، لأنّ الشمول فرع الدلالـة على الأفراد، والمطلق أجنبي عـن الدلالـة عليها.
فانقدح: أنّ المطلق غير ناظر إلى الموجودات المتّحدة معها في الخارج أصلا، لكن الاحتجاج بـه يستمرّ إلى أن يأتي من المولى ما يدلّ على خلافـه. فالبيان المتأخّر قاطع للاحتجاج، لا أنّ الإطلاق معلّق من أوّل الأمر عليـه. ومن المعلوم أنّ العامّ لأجل تعرّضـه بالدلالـة اللفظيـة للأفراد والكثرات ـ لأجل تعدّد الدالّ والمدلول، ضرورة أنّـه يدلّ تالي مثل لفظ الكلّ على نفس الطبيعـة. غايـة الأمر أنّ إضافـة الكلّ الموضوع لإفادة الكثرة إليـه توجب الدلالـة على الأفراد والإشارة إليها لا بجميع خصوصياتها، بل بما أنّها مصاديق لتلك الطبيعـة ـ يصلح لأن يكون بياناً قاطعاً للاحتجاج.
(الصفحة 352)
فظهر أنّ العامّ مقدّم على المطلق بهذا الوجـه الذي ذكرنا، ولعلّـه إليـه يرجع ما أفاده الشيخ (قدس سره)
(1) في وجهـه وإن كان ربّما لا يساعده ظاهر العبارة فارجع إليها.
ثمّ إنّـه ظهر ممّا ذكرنا من عدم الفرق بين المطلقات فيما يرجع إلى معنى الإطلاق، وأنّ تسميـة المطلق بالشمولي في بعض الموارد وبالبدلي في البعض الآخر لا وجـه لها أصلا، أنّـه عند تعارض الإطلاق الشمولي والإطلاق البدلي على حسب اصطلاحهم الغير التامّ لا وجـه لتقديم تقيـيد الثاني على تقيـيد الأوّل، نظراً إلى أنّ الإطلاق الشمولي يمنع عن كون الأفراد في الإطلاق البدلي متساويـة الإقدام في حصول الامتثال بأيّ منها، وذلك لما عرفت من اتّحادهما فيما يرجع إلى معنى الإطلاق، ولا دلالـة لشيء منهما على الأفراد شمولا أو بدليّاً، فلاترجيح لواحد منهما على الآخر، كما لايخفى.
كما أ نّـه ظهر ممّا ذكرنا :
أنّـه عند تعارض بعض المفاهيم مع البعض الآخر لا ترجيح لواحد منهما على الآخر لو كان ثبوت كلّ منهما بضميمـة مقدّمات الحكمـة، كما في مفهوم الشرط ومفهوم الوصف.
نعم لو كان أحد المتعارضين ممّا ثبت بالدلالـة اللفظيـة كما لايبعد دعوى ذلك بالنسبـة إلى مفهوم الغايـة وكذا مفهوم الحصر، فالظاهر أنّـه حينئذ لابدّ من ترجيحـه على الآخر، لما مرّ من ترجيح العامّ على المطلق الراجع إلى تقديم التقيـيد على التخصيص.
- 1 ـ فرائد الاُصول 2: 792.