(الصفحة 132)فيما يدلّ على عدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة
ثمّ إنّـه تدلّ على عدم وجوب الاحتياط فيها وجوه:
منها:
دعوى الإجماع بل الضرورة من غير واحد من الأعلام (قدس سرهم)(1).
ومنها:
الأخبار الكثيرة الدالّـة على عدم وجوب الاحتياط في مطلق الشبهات المقرونـة بالعلم الإجمالي أو خصوص الغير المحصورة منها، كصحيحـة عبداللّه بن سنان المتقدّمـة(2) عن أبيعبداللّه (عليه السلام) قال:
«كلّ شيء فيـه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منـه بعينـه».
وقد عرفت ظهورها في الشبهـة المقرونـة بالعلم الإجمالي، وهي وإن كانت شاملـة للمحصورة أيضاً، إلاّ أنّـه لابدّ من تقيـيدها وحملها على غير المحصور.
ودعوى أنّ ذلك حمل على الفرد النادر مدفوعـة جدّاً; لمنع كون الشبهـة الغير المحصورة قليلـة نادرة بالنسبـة إلى المحصورة لو لم نقل بكونها أكثر، كما يظهر لمن تدبّر في أحوال العرف.
ومنـه يظهر الخلل فيما أفاده الشيخ الأنصاري في الرسالـة في مقام الجواب عن الاستدلال بالأخبار الدالّـة على حلّيـة كلّ ما لم يعلم حرمتـه من أنّ هذه الأخبار نصّ في الشبهـة البدويّـة، وأخبار الاجتناب نصّ في الشبهـة المحصورة، وكلا الطرفين ظاهران في الشبهـة الغير المحصورة، فإخراجها عن
- 1 ـ جامع المقاصد 2: 166، روض الجنان: 224 / السطر21، الفوائد الحائريـة: 247.
- 2 ـ تقدّمت في الصفحة 88.
(الصفحة 133)
أحدهما وإدخالها في الآخر ليس جمعاً بل ترجيحاً بلا مرجّح(1).
وجـه الخلل: ما عرفت من ظهور مثل الصحيحـة في خصوص الشبهـة المقرونـة بالعلم الإجمالي، لأنّ الشيء الذي فيـه الحلال والحرام هو عبارة عن المختلط بهما والشبهـة البدويّـة لا تكون كذلك.
وحينئذ: فبعد إخراج الشبهـة المحصورة ـ لحكم العقلاء باستلزام الإذن في الارتكاب فيها للإذن في المعصيـة، وهو مضافاً إلى قبحـه غير معقول كما عرفت ـ تبقى الشبهـة الغير المحصورة باقيـة تحتها. هذا مضافاً إلى أنّـه لو سلّمنا الشمول للشبهـة البدويّـة فكونها نصّاً فيها وظاهراً في الشبهـة الغير المحصورة محلّ نظر، بل منع، كما لايخفى.
ويدلّ على ما ذكرنا أيضاً ما رواه البرقي في محكي المحاسن عن أبيالجارود قال: سألت أباجعفر (عليه السلام) عن الجبن فقلت: أخبرني من رأى أنّـه يجعل فيـه الميتـة، فقال:
«أمن أجل مكان واحد يجعل فيـه الميتـة حـرم جميع ما في الأرض؟! إذا علمت أنّـه ميتـة فلا تأكلـه، وما لم تعلم فاشتر وبِع وكُل، واللّه إنّي لأعترض السوق فأشتري اللحم والسمن والجبن، واللّه ما أظنّ كلّهم يسمّون، هذه البربر وهذه السودان»(2). فإنّـه لو اُغمض النظر عن المناقشـة في السند وكذا في المضمون من جهـة صدورها تقيّـة ـ لما عرفت سابقاً من عدم حرمـة الجبن الذي علم تفصيلا بوضع الأنفحـة من الميتـة فيـه عند علمائنا
- 1 ـ فرائد الاُصول 2: 432.
- 2 ـ المحاسن: 495 / 597، وسائل الشيعـة 25: 119، كتاب الأطعمـة والأشربـة، أبواب الأطعمـة المباحـة، الباب61، الحديث5.
(الصفحة 134)
الإماميّـة رضوان اللّه عليهم، خلافـاً للعامّـة العمياء، والروايـة مقـرّرة لهذا الحكم ـ تكون دلالتها على عدم وجوب الاجتناب فـي الشبهـة الغير المحصورة واضحـة.
وما ادّعاه الشيخ (قدس سره)
في الرسالـة من أنّ المراد أنّ جعل الميتـة في الجبن في مكان واحد لايوجب الاجتناب عن جبن غيره من الأماكن، ولا كلام في ذلك، لا أنّـه لا يوجب الاجتناب عن كلّ جبن يحتمل أن يكون من ذلك المكان، فلا دخل لـه بالمدّعي(1) فيـه نظر واضح; لأنّ الحكم بعدم وجوب الاجتناب عن الجبن في مكان مع العلم بعدم كونـه من الأمكنـة التي توضع فيها الميتـة في الجبن ممّا لا ينبغي أن يصدر من الإمام (عليه السلام)، ولا أن يقع مورداً للشكّ، كما هو واضح.
بل الظاهر أنّ المراد أنّ مجرّد احتمال كون الجبن موضوعاً فيـه الميتـة وأنّـه من الجبن المنقولـة من الأمكنـة التي يوضع فيها الميتـة في الجبن لا يوجب الاجتناب عن كلّ جبن، وهذا هو المطلوب في باب الشبهـة الغير المحصـورة، كما أنّ قولـه (عليه السلام):
«ما أظنّ كلّهم يسمّون»، ظاهـر فـي أنّ العلم بعدم تسميـة جماعـة حين الذبح كالبربر والسودان لا يوجب الاجتناب عـن جميع اللحوم. ودعوى أنّ المراد منـه عدم وجوب الظنّ أو القطع بالحلّيـة، بل يكفي أخذها من سوق المسلمين ـ كما في الرسالـة(2) غريبـة جدّاً ومخالفـة للظاهر قطعاً.
- 1 ـ فرائد الاُصول 2: 433.
- 2 ـ نفس المصدر.
(الصفحة 135)
ثمّ إنّـه يدلّ على عدم وجوب الاجتناب في الشبهـة الغير المحصورة الروايات الكثيرة الاُخر التي جمعها المحقّق الطباطبائي في حاشيتـه على المتاجر في باب جوائز السلطان، مثل صحيحـة الحلبي عن أبيعبداللّه (عليه السلام) قال:
«أتى رجل أبي (عليه السلام) فقال: إنّي ورثت مالا وقد علمت أنّ صاحبـه الذي ورثتـه منـه قد كان يربى، وقد أعرف أنّ فيـه رباً وأستيقن ذلك وليس يطيب لي حلالـه، لحال علمي فيـه... إلى أن قال: فقال أبوجعفر (عليه السلام): إن كنت تعلم بأنّ فيـه مالا معروفاً رباً وتعرف أهلـه فخذ رأس مالك وردّ ما سوى ذلك، وإن كان مختلطاً فكلـه هنيئاً، فإنّ المال مالك»(1). وغيرها من الروايات الاُخر من أراد الاطّلاع عليها فليراجع الحاشيـة(2).
ومنها:
ما أفاده المحقّق المعاصر في كتاب الدرر(3)، وتوضيحـه: أنّ تنجّز التكليف عند العقلاء عبارة عن كونـه بحيث يصحّ للمولى الاحتجاج بـه على العبد والمؤاخذة على مخالفتـه، وهذا المعنى غير متحقّق في الشبهـة الغير المحصورة، لأنّ احتمال الحرام قد بلغ من الضعف إلى حدّ لا يكون مورداً لاعتناء العقلاء واعتمادهم عليـه، بل ربّما يعدّون من ترتّب الأثر على هذا النحو من الاحتمال سفيهاً خارجاً عن الطريقـة العقلائيّـة، ألا ترى أنّ من كان لـه ولد في بلد عظيم كثير الأهل، فسمع وقوع حادثـة في ذلك البلد منتهيـة إلى قتل واحد من أهلـه، لو
- 1 ـ الكافي 5: 145 / 5، وسائل الشيعـة 18: 129، كتاب التجارة، أبواب الربا، الباب5، الحديث3.
- 2 ـ حاشية المكاسب، المحقّق اليزدي 1: 33.
- 3 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 471.
(الصفحة 136)
ترتّب الأثر على مجرّد احتمال كون المقتول هو ولده فأقام بالتعزيـة والتضرّع يعدّ مذموماً عند العقلاء مورداً لطعنهم، بل لو كان مثل هذا الاحتمال سبباً لترتيب الأثر عليـه لانسدّ باب المعيشـة وسائر الأعمال، كما هو واضح.
وبالجملـة: فالتكليف وإن كان معلوماً لدلالـة الإطلاق عليـه أو نهوض أمارة شرعيّـة على ثبوتـه، إلاّ أنّ في كل واحد من الأطراف أمارة عقلائيـة على عدم كونـه هو المحرّم الواقعي، لأنّ احتمالـه مستهلك في ضمن الاحتمالات الكثيرة على حسب كثرة الأطراف، ومع بلوغـه إلى هذا الحدّ يكون عند العقلاء بحيث لا يكون قابلا للاعتناء أصلا. وحينئذ فيجوز ارتكاب جميع الأطراف مع وجود هذه الأمارة العقلائيّـة بالنسبـة إلى الجميع، هذا.
ولكنّ المحقّق المزبور بعد توجيهـه جواز الارتكاب بما يرجع إلى ذلك قال: ولكن فيما ذكرنا أيضاً تأمّل، فإنّ الاطمئنان بعدم الحرام في كلّ واحد واحد بالخصوص كيف يجتمع مع العلم بوجود الحرام بينها وعدم خروجـه عنها، وهل يمكن اجتماع العلم بالموجبـة الجزئيـة مع الظنّ بالسلب الكلّي؟(1) انتهى.
ولكن لا يخفى أنّ هذه الشبهـة إنّما تـتمّ لو كان متعلّق الاطمئنان متّحداً مع متعلّق العلم، ولكنّـه ليس كذلك، لأنّ المعلوم هو وجود الحرام بين هذه الأطراف، ومتعلّق الاطمئنان هو خروج كلّ واحد منها بالقياس إلى غيرها، فحصل الاختلاف بين المتعلّقين. كيف ولو لم يمكن اجتماعهما لأجل التنافي يلزم ذلك في الشبهـة المحصورة أيضاً، فإنّـه كيف يجتمع العلم بوجود الحرام بين الإنائين مع الشكّ في كلّ واحد منهما أنّـه هو المحرّم، ومن المعلوم ثبوت التنافي بين العلم
- 1 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 471.