(الصفحة 365)
القول
فيما إذا كان التعارض بين أكثر من دليلين
إذا ورد عامّ وخاصّان بينهما التباين
وأمّا إذا كان التعارض بين أزيد من دليلين، بأن كان هنا عامّ مثلا وخاصّان كقولـه: أكرم العلماء، ولا تكرم النحويـين منهم، ولا تكرم الصرفيـين منهم، فإنّ النسبـة بين كلّ من الأخيرين مع الأوّل هو العموم والخصوص مطلقاً، والكلام فيـه يقع في مقامين:
أحدهما:
أنّـه هل العامّ يلاحظ مع كلّ من المخصّصين قبل تخصيصـه بالآخر بحيث يكون الخاصّان في عرض واحد، أو أنّـه يخصّص بواحد منهما ثمّ تلاحظ النسبـة بعد التخصيص بينـه وبين الخاصّ الآخر؟ وربّما تنقلب النسبـة من العموم المطلق إلى العموم من وجـه كما في المثال، فإنّ قولـه: «أكرم العلماء» بعد تخصيصـه بقولـه: «لا تكرم الصرفيّين منهم»، يرجع إلى وجوب إكرام العالم الغير الصرفي. ومن المعلوم أنّ النسبـة بين العالم الغير الصرفي وبين العالم النحوي عموم من وجـه، لأنّـه قد يكون النحوي صرفيّاً، وقد لا يكون العالم الصرفي نحوياً، وقد يكون النحوي غير صرفي، ومورد الاجتماع العالم الصرفي النحوي.
ثانيهما:
أنّـه لو فرض كون الخاصّان في عرض واحد، ولكن كان تخصيص العامّ بهما مستهجناً أو مستلزماً للاستيعاب وبقاء العامّ بلا مورد، فهل المعارضـة
(الصفحة 366)
حينئذ بين العامّ ومجموع الخاصّين كما اختاره الشيخ(1) وتبعـه غير واحد من المحققين المتأخّرين عنـه(2)، أو أنّ المعارضـة بين نفس الخاصّين، كما هو الأقوى لما يأتي؟
أمّا الكلام في المقام الأوّل:
فمحصّلـه أنّـه لا مجال لتوهّم تقديم أحد الخاصّين على الآخر بعد اتّحادهما في النسبـة مع العامّ، خصوصاً إذا لم يعلم المتقدّم منهما صدوراً عن المتأخّر، كما هو الغالب، ولا ينبغي توهّم الخلاف فيما إذا كان الخاصّان دليلين لفظيّين، لأنّـه لا وجـه لتقديم ملاحظـة العامّ مع أحدهما على ملاحظتـه مع الآخر.
نعم لو كان أحدهما دليلا لبّياً كالدليل العقلي الذي يكون كالقرينـة المتصلـة بالكلام، بحيث لم يكن يستفاد من العامّ عند صدوره من المتكلّم إلاّ العموم المحدود بما دلّ عليـه العقل، كما أنّـه لو فرض أنّـه لا يستفاد عند العقلاء من قولـه: «أكرم العلماء» إلاّ وجوب إكرام العدول منهم، فلا شبهـة حينئذ في أنّـه لابدّ من ملاحظتـه بعد التخصيص بدليل العقل مع الخاصّ الآخر، بل لا يصدق عليـه التخصيص وانقلاب النسبـة، كما لايخفى، هذا.
ولو لم يكن الدليل اللبّي كالقرينة المتّصلة كالإجماع ونحوه، فلا ترجيح له على الخاصّ اللفظي أصلا، لعين ما ذكر في الدليلين اللفظيـين.
نعم حكى سيّدنا الاُستاذ دام بقاءه عن شيخـه المحقّق الحائري (قدس سره)
أنّـه بعد اختياره في كتاب الدرر ما ذكرنا(3) عدل عنـه في مجلس الدرس وفصّل بين
- 1 ـ فرائد الاُصول 2: 794 ـ 795.
- 2 ـ كفايـة الاُصول: 516، فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 743.
- 3 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 682.
(الصفحة 367)
المخصّص اللفظي واللبّي مطلقاً، وقدّم التخصيص باللبّي كذلك على التخصيص باللفظي، نظراً إلى أنّ المخصّص اللفظي مانع عن حجّيـة ظهور العامّ، والمخصّص اللبّي من تـتمّـة المقتضي، لا أنّـه مانع، هذا.
ولكنّـه يرد عليـه: عدم الفرق بينهما أصلا; لا في أنّـه بعد ملاحظـة الخاصّ يستكشف تضيـيق دائرة المراد الجدّي من أوّل الأمر وأنّ صدور العامّ كان بنحو التقنين وإفادة الحكم على النحو الكلّي، ولا في أنّـه قبل العثور على المخصّص لفظياً كان أو لبّياً تكون أصالـة العموم متّبعـة، وبعد الظفر عليـه يرفع اليد عنـه، فلا فرق بينهما أصلا، كما لايخفى.
وأمّا الكلام في المقام الثاني:
فقد عرفت(1) أنّـه ذهب الشيخ إلى وقوع التعارض مع مجموع الخاصّين، نظراً إلى أنّ تخصيص العامّ بهما يوجب الاستهجان أو الاستيعاب، ولكنّـه لا وجـه لـه، لأنّ مجموع الخاصّين لا يكون أمراً ورائهما، والمفروض أنّـه لا معارضـة لشيء منهما مع العامّ، فلا وجـه لترتيب أحكام المتعارضين عليـه وعليهما.
غايـة الأمر أنّـه حيث لا يمكن تخصيص العامّ بمجموعهما يرجع ذلك إلى عدم إمكان الجمع بين الخاصّين، لا من حيث أنفسهما، بل من جهـة تخصيص العامّ بهما، فيقع التعارض بينهما تعارضاً عرضياً، ولابدّ من المعاملـة مع الخاصّين حينئذ معاملـة المتعارضين.
وحينئذ: فإن قلنا بعدم اختصاص الأخبار العلاجيّـة بالتعارض الذاتي وشمولهما للتعارض العرضي أيضاً، فلابدّ من الرجوع إلى المرجّحات المذكورة
- 1 ـ تقدّم في الصفحـة 365 ـ 366.
(الصفحة 368)
فيها، وإن قلنا بعدم شمولها لـه، فلابدّ من الرجوع إلى ما تقتضيـه القاعدة في المتعارضين مع قطع النظر عن تلك الأخبار من السقوط على ما هو التحقيق، أو التخيـير كما سيأتي.
ثمّ إنّ هذا الذي ذكرنا من وقوع التعارض بين الخاصّين إنّما هو فيما لو لم يعلم بثبوت الملازمـة بينهما.
وأمّا مع العلم بها فتارةً يعلم بعدم اختلاف موردهما من حيث الحكم وثبوت الملازمـة بين موردهما فقط، كما إذا علم في المثال المتقدّم بأنّـه لو كان إكرام النحويّين من العلماء حراماً لكان إكرام الصرفيّين منهم أيضاً كذلك.
واُخرى يعلم بعدم الاختلاف بين جميع أفراد العامّ من حيث الحكم أصلا، كما إذا علم بأنّ حكم إكرام جميع أفراد العلماء واحد وأنّـه إن كان الإكرام واجباً فهو واجب في الجميع، وإن كان حراماً كذلك، وهكذا.
ففي الأوّل يقع التعارض بين العامّ وبين كلّ واحد منهما.
وفي الثاني يقع التعارض بين الجميع، العامّ مع كلّ واحد منهما، وهو مع الآخر، كما لايخفى.
هذا كلّـه إذا كانت النسبـة بين الخاصّين التباين كما فيما عرفت من المثال وإن كان لايخلو عن المنع.
إذا ورد عامّ وخاصّان بينهما عموم وخصوص مطلق
وأمّا لو كانت النسبـة بين الخاصّين أيضاً العموم والخصوص مطلقاً، كالنسبـة بين كلّ واحد منهما مع العامّ كقولـه: أكرم العلماء، ولا تكرم النحويـين منهم، ولا تكرم الكوفيّين من النحويـين، فقد ذكر المحقّق النائيني (قدس سره)
على ما في
(الصفحة 369)
التقريرات أنّ حكم هذا القسم حكم القسم السابق من وجوب تخصيص العامّ بكلّ من الخاصّين إن لم يلزم التخصيص المستهجن أو بقاء العامّ بلا مورد، وإلاّ فيعامل مع العامّ ومجموع الخاصّين معاملـة المتعارضين(1).
والتحقيق أن يقال: إنّ لهذا الفرض صوراً متعدّدة، فإنّـه قد يكون الخاصّان متوافقين من حيث الحكم إثباتاً أو نفياً، وقد يكونان متخالفين، وعلى التقديرين قد يلزم من تخصيص العامّ بكلّ منهما التخصيص المستهجن بمعنى استلزام التخصيص بكلّ ذلك، وقد لا يلزم التخصيص المستهجن إلاّ من التخصيص بالخاصّ دون الأخصّ، وقد لا يلزم من شيء منهما، ومرجعـه إلى عدم لزوم التخصيص المستهجن من التخصيص بالخاصّ، ضرورة أنّـه مع عدم استلزامـه ذلك يكون عدم استلزامـه من التخصيص بالأخصّ بطريق أولى، ثمّ إنّـه في صورة اختلاف الخاصّين من حيث الحكم قد يلزم من تخصيص الخاصّ بالأخصّ الاستهجان، وقد لا يلزم.
وتفصيل حكم هذه الصور أن يقال: إذا كان الخاصّان متوافقين من حيث الحكم ولم يلزم من تخصيص العامّ بكلّ منهما الاستهجان، فلا محيص عن تخصيص العامّ بهما، فيقال في المثال المذكور بوجوب إكرام العلماء غير النحويّين مطلقاً; كوفيّين كانوا أو بصريّين مثلا.
وإن لزم منـه الاستهجان فتارةً يلزم الاستهجان من التخصيص بالخاصّ فقط دون الأخصّ، فاللازم حينئذ تخصيص الخاصّ بالأخصّ ثمّ تخصيص العامّ بالخاصّ المخصّص، لأنّـه الطريق المنحصر لرفع الاستهجان، ومع إمكان ذلك لا
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 743.