(الصفحة 492)
وغير ذلك ممّا وقع من بعض الأعاظم على ما في تقريرات بحثـه(1)، بل محطّ البحث هو أنّ أدلّـة الاُصول الثلاثـة هل تدلّ بحكومتها على أدلّـة الأحكام على تقحّق مصداق المأمور بـه تعبّداً حتّى يقال بالإجزاء أم لا؟
هذا مع بقاء النجاسات والمحرّمات على ما هي عليها من غير تصرّف في أدلّتها، فالشكّ في الطهاره والحلّيـة بحسب الشبهـة الحكميّـة إنّما هو في طول جعل النجاسات والمحرّمات، لا في طول جعل الصلاة مشروطةً بطهارة ثوب المصلّي وبكونـه من المأكول، والخلط بين المقامين أوقعـه فيما أوقعـه، وفي كلامـه محالّ أنظار تركناها مخافـة التطويل.
ثمّ إنّ هذا كلّـه حال المجتهد بالنسبـة إلى تكاليف نفسـه.
تكليف المقلّد مع تبدّل رأي مجتهده
وأمّا تكاليف مقلّديـه فهل هو كالمجتهد في التفصيل بين كون رأي المقلّد مستنداً إلى الأمارات، وبين كونـه مستنداً إلى الاُصول، بأن يقال: إنّ المجتهد يعيّن وظائف العباد مطلقاً واقعاً وظاهراً، فكما أنّ في وظائفـه الظاهريّـة تحكم بالإجزاء بواسطـة أدلّـة الاُصول وحكومتها على الأدلّـة، فكذا في تكاليف مقلّديـه طابق النعل بالنعل أو لا؟ بأن يقال: إنّ المقلّد مستنده في الأحكام مطلقاً هو رأي المجتهد، وهو أمارة إلى تكاليفـه بحسب ارتكازه العقلائي، والشرع أيضاً أمضى هذا الارتكاز والبناء العملي العقلائي، وليس مستند المقلّدين في العمل هو
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 249 ـ 251.
(الصفحة 493)
أصالـة الطهارة أو الحلّيـة أو الاستصحاب أو حديث الرفع في الشبهات الحكميّـة التي هي مورد بحثنا هاهنا; لأنّ العامّي لا يكون مورداً لجريان الاُصول الحكميّـة، فإنّ موضوعها الشكّ بعد الفحص واليأس من الأدلّـة الاجتهاديّـة، والعامّي لا يكون كذلك، فلا يجري في حقّـه الاُصول حتّى تحرز مصداق المأمور بـه، ومجرّد كون مستند المجتهد هو الاُصول ومقتضاها الإجزاء، لا يوجب الإجزاء بالنسبـة إلى من لم يكن مستنده إيّاها; فإنّ المقلّد ليس مستنده في العمل هي الاُصول الحكميّـة، بل مستنده الأمارة ـ وهي رأي المجتهد ـ على حكم اللّه تعالى، فإذا تبدّل رأيـه فلا دليل على الإجزاء.
أمّا دليل وجوب اتّباع المجتهد، فلأنّـه ليس إلاّ بناء العقلاء الممضى، كما يظهر للناظر في الأدلّـة، وإنّما يعمل العقلاء على رأيـه لإلغاء احتمال الخلاف، وإمضاء الشارع لذلك لا يوجب الإجزاء كما تقدّم(1).
وأمّا أدلّـة الاُصول فهي ليست مستنده ولا هو مورد جريانها، لعدم كونـه شاكّاً بعد الفحص واليأس عن الأدلّـة، فلا وجـه للإجزاء، وهذا هو الأقوى.
فإن قلت:
إذا لم يكن المقلّد موضوعاً للأصل ولا يجري في حقّـه، فلم يجوز للمجتهد أن يفتي مستنداً إلى الأصـل بالنسبـة إلى مقلّديـه، مـع أنّ أدلّـة الاُصول لا تجري إلاّ للشاكّ بعد الفحص واليأس وهو المجتهد فقط لا المقلّد؟! ولو قيل: إنّ المجتهد نائب عـن مقلّديـه، فمـع أنّـه لا محصّل لـه، لازمـه الإجزاء.
- 1 ـ تقدّم في الصفحـة 486 ـ 487.
(الصفحة 494)
قلت:
قد ذكرنا سابقاً(1) أنّ المجتهد إذا كان عالماً بثبوت الحكم الكلّي المشترك بين العباد ثمّ شكّ في نسخـه مثلا يصير شاكّاً في ثبوت هذا الحكم بينهم، فيجوز لـه الإفتاء بـه كما لـه العمل بـه، فكما أنّ الأمارة إذا قامت على حكم مشترك كلّي يجوز لـه الإفتاء بمقتضاها، كذلك إذا كان مقتضى الاستصحاب فلـه العمل بـه والفتوى بمقتضاه، فإذا أفتى يعمل المقلّدين على طبق فتواه، لبناء العقلاء على رجوع الجاهل بالعالم.
فتحصّل من ذلك: أنّ المجتهد لـه الإفتاء بمقتضى الاُصول الحكميّـة، ومقتضى القاعدة هو الإجزاء بالنسبـة إليـه دون مقلّديـه، لاستناده إلى الاُصول المقتضيـة للإجزاء واستنادهم إلى رأيـه الغير المقتضي لذلك.
- 1 ـ تقدّم في الصفحـة 479.
(الصفحة 495)
فصل
في أنّ تخيير العامّي في الرجوع
إلى مجتهدين متساويين بدوي أو استمراري
بعد البناء على تخيـير العامّي في الرجوع إلى مجتهدين متساويـين هل يجوز لـه العدول بعد تقليد أحدهما؟
اختار شيخنا العلاّمـة التفصيل بين العدول في شخص واقعـة بعد الأخذ والعمل فيـه، كما لو صلّى بلا سورة بفتوى أحدهما، فأراد تكرار الصلاة مع السورة بفتوى الآخر، وبين العدول في الوقائع المستقبلـة التي لم تعمل، أو العدول قبل العمل بعد الالتزام والأخذ، فذهب إلى عدم الجواز مطلقاً في الأوّل، وعدم الجواز في الأخيرين إن قلنا بأنّ التقليد هو الالتزام والأخذ، والجواز إن قلنا بأنّـه نفس العمل مستنداً إلى الفتوى.
ووجّهـه في الأوّل بأنّـه لا مجال لـه للعدول بعد العمل بالواجب المخيّر، لعدم إمكان تكرار صرف الوجود وامتناع تحصيل الحاصل، وليس كلّ زمان قيداً للأخذ بالفتوى، حتّى يقال: إنّـه ليس باعتبار الزمان المتأخّر تحصيلا للحاصل، بل الأخذ بالمضمون أمر واحد ممتدّ يكون الزمان ظرفاً لـه بحسب الأدلّـة.
(الصفحة 496)
نعم يمكن إفادة التخيـير في الأزمنـة المتأخّرة بدليل آخر يفيد التخيـير في الاستدامـة على العمل الموجود ورفع اليد عنـه والأخذ بالآخر، وإذ هو ليس فليس. وإفادتـه بأدلّـة التخيـير في إحداث الأخذ بهذا أو ذاك ممتنع، للزوم الجمع بين لحاظين متنافيـين، نظير الجمع بين الاستصحاب والقاعدة بدليل واحد. ولا يجري الاستصحاب; لأنّ التخيـير بين الإحداثين غير ممكن الجرّ إلى الزمان الثاني، وبالنحو الثاني لا حالـة سابقـة لـه، والاستصحاب التعليقي لفتوى الآخر غير جار; لأنّ الحجّيـة المبهمـة السابقـة صارت معيّنـة في المأخوذ، وزالت قطعاً، كالملكيّـة المشاعـة إذا صارت مفروزة. ووجـه الأخيرين بهذا البيان بعينـه إن قلنا: إنّ المأمور بـه في مثل قولـه:
«فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا»(1) وغيره هو العمل الجوانحي، أي الالتزام والبناء العقلي، وإن قلنا: بأنّـه العمل، فلا إشكال في بقاء الأمر التخيـيري في كلا القسمين بلا محذور، ومع فقد الإطلاق لا مانع من الاستصحاب(2)، انتهى ملخّصاً من تقرير بحثـه.
أقول: ما يمكن البحث عنـه في الصورة الاُولى هو جواز تكرار العمل بعد الإتيان بـه مطابقاً لفتوى الأوّل، وأمّا البحث عن بقاء التخيـير وكذا جواز العدول بعنوانهما، فأمر غير صحيح; ضرورة أنّ التخيـير بين الإتيان بما أتى بـه والعمل بقول الآخـر ممّا لا معنى لـه، وطرح العمل الأوّل وإعدامـه غير معقول بعد
- 1 ـ كمال الدين: 484 / 4، وسائل الشيعـة 27: 140، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب11، الحديث9.
- 2 ـ درر الفوائـد، المحقّـق الحائـري: 716 ـ 717، كتـاب البيع، المحقّق الأراكـي2: 471 ـ 475.