(الصفحة 32)
التنبيه الثالث
أنحاء متعلّق الأمر والنهي
الأوامر والنواهي قد يتعلّقان بنفس الطبيعـة من غير لحاظ شيء معها أصلا من الوحدة والكثرة وغيرهما.
وقد يتعلّقان بصرف الوجود، والمراد بـه هو الطبيعـة المأخـوذة على نحو لا ينطبق إلاّ على أوّل وجود الطبيعـة، واحداً كان أو كثيراً.
وقد يتعلّقان بالطبيعـة على نحو العامّ المجموعي.
وقد يتعلّقان بها على نحو العامّ الاستغراقي.
فإذا تعلّق الأمر والنهي بنفس الطبيعـة من غير لحاظ الوحدة والكثرة فالأمر يكون باعثاً إلى نفسها، كما أنّ النهي يكون زاجراً عنها. ومن المعلوم أنّ الطبيعـة متكثّرة في الخارج بتكثّر أفرادها; لأنّ كلّ فرد منها هي تمام الطبيعـة مع خصوصيـة الفرديّـة، وحينئذ فإذا أتى بوجود واحد من وجودات الطبيعـة يتحصّل الغرض، لأنّـه تمام الطبيعـة المأمور بها، فيسقط الأمر، لحصول الغرض.
وأمّا إذا أتى بوجودات متكثّرة دفعـة واحدة، فهل يتحقّق هنا إطاعات متعدّدة حسب تعدّد الوجودات المأتي بها، نظراً إلى أنّ المطلوب على ما هو المفروض هو نفس الطبيعـة، وهي تـتكثّر بتكثّر وجوداتها، فتكثّر الطبيعـة مستلزم لتكثّر المطلوب، كما أنّ في الواجب الكفائي لو قام بالإتيان بـه أزيد من واحد يكون كلّ من أتى بـه مستحقّاً للمثوبـة، مع أنّ المطلوب فيـه أيضاً هي نفس طبيعـة الواجب، ولذا يحصل الغرض بالإتيان بوجود واحد منها من مكلّف واحد.
(الصفحة 33)
أو أنّـه ليس هنا أيضاً إلاّ إطاعـة واحدة، نظراً إلى أنّ الطبيعـة وإن كانت متكثّرة بتكثّر الأفراد، إلاّ أنّها بوصف كونها مطلوبـة ومأموراً بها لا تكون متكثّرة، كيف وتكثّر المطلوب بما هو مطلوب لا يعقل مع وحدة الطلب بعد كونهما من الاُمور المتضايفـة، وتنظير المقام بباب الواجب الكفائي في غير محلّـه بعد كون الطلب في ذلك متعدّداً، أو كـون كل واحـد من المكلّفين مأمـوراً. غايـة الأمر أنّـه مـع إتيان واحد منهم يحصل الغرض، فيسقط الأمر عـن الباقين، فالأمـر الواحـد لا يكون لـه إلاّ إطاعـة واحدة.
وأمّا النهي والزجر عن نفس الطبيعـة فهو وإن كان أيضاً بحسب نظر العقل يتحقّق إطاعتـه بترك وجود واحد منها، لأنّـه كما أنّ الطبيعـة يوجد بوجود فرد منها كذلك ينعدم بانعدام فرد مّا، لأنّـه إذا فرض أنّ وجوداً واحداً منها يكون تمام الطبيعـة فوجوده وجود لها، وعدمـه عدم لها، ولا يعقل أن يكون وجوده وجوداً لها ولا يكون عدمـه عدماً لها، إلاّ أنّ العقلاء يرون أنّ المطلوب في باب النواهي عدم تحقّق الطبيعـة أصلا، وقد ذكرنا ذلك في باب النواهي من مباحث الألفاظ فراجع(1). هذا كلّـه فيما إذا تعلّق الأمر أو النهي بنفس الطبيعـة.
وأمّا لو تعلّق بصرف الوجود الذي مرجعـه إلى وجوب نقض العدم في ناحيـة الأمر والزجر عنـه في ناحيـة النهي، فيتحقّق إطاعـة الأمر بإيجادها; أي الطبيعـة مرّة أو أكثر، فإنّـه إذا وجد ألف فرد من الطبيعـة دفعـة لا يكون الصرف إلاّ واحداً، كما إذا أوجد فرداً واحداً، بخلاف ما إذا أوجد أفراداً تدريجاً، فإنّـه يتحقّق الصرف بأوّلها، لأنّ الصرف لا يتكرّر، فيكون للأمر بـه إطاعـة واحدة
- 1 ـ تقدّم في الجزء الأوّل: 165.
(الصفحة 34)
متحقّقـة بأوّل الوجودات واحداً كان أو متعدّداً، وكذا عصيان واحد حاصل بتركها رأساً، كما أنّ للنهي بـه أيضاً إطاعـة واحدة حاصلـة بترك جميع الأفراد، وعصيان واحد متحقّق بالإتيان بفرد منها.
وأمّا لو تعلّق الأمر والنهي بالطبيعـة على نحو العامّ المجموعي فلا يكون لهما إلاّ إطاعـة واحدة حاصلـة بالإتيان بجميع وجودات الطبيعـة في ناحيـة الأمر، وبعدم الإتيان بالجميع في ناحيـة النهي، وكذا لا يكون لهما إلاّ عصيان واحد حاصل في الأمر بما يتحقّق بـه الإطاعـة في النهي، وفي النهي بما يتحقّق بـه الإطاعـة في الأمر.
وأمّا لو تعلّق الأمر والنهي بالطبيعـة على نحو العامّ الاستغراقي الذي مرجعـه إلى كون كلّ فرد من الطبيعـة مطلوباً فعلـه أو تركـه، فينحلّ كل واحد منهما إلى الأوامر المتعدّدة حسب تعدّد أفراد الطبيعـة، أو النواهي المتعدّدة كذلك، وحينئذ فلكلّ منهما إطاعات متكثّرة وعصيانات متعدّدة، كما لايخفى.
اختلاف جريان الاُصول العملية باختلاف متعلّقات الأحكام
إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ جريان الاُصول العمليـة يختلف باختلاف متعلّقات الأحكام حسب ما ذكرنا.
حكم ما لو تعلّق الأمر أو النهي بالطبيعة على نحو العامّ الاستغراقي
فإذا تعلّق الأمر أو النهي بالطبيعـة على نحو العامّ الاستغراقي، كما لو تعلّق وجوب الإكرام بكلّ فرد من العلماء، فهل المرجع في الشبهات الموضوعيّـة هي البراءة أو الاشتغال؟ قد يقال بالثاني; نظراً إلى أنّ البيان مـن قبل المولى تامّ
(الصفحة 35)
لانقص فيـه; لأنّـه ليس عليـه إلاّ بيان الكبريات، والمفروض العلم بها.
ولكنّ الحقّ هو جريان البراءة; لأنّـه وإن لم يكن على المولى إلاّ بيان الكبريات، إلاّ أنّ العلم بها لا يكون بمجرّده حجّـة على العبد بالنسبـة إلى الفرد المشكوك.
وتوضيح جريان البراءة في مثل المقام ممّا كـان الحكم متعلّقاً بالطبيعـة على نحـو العامّ الاستغراقي أن يقال: إنّ مثل كلمـة «كـلّ» المأخـوذ في الموضوع إنّما يكون عنواناً إجماليّاً مشيراً إلى جميع أفراد مدخولـه، فهو بمنزلـة ما لو تعرّض لذكر جميعها واحداً بعد واحد، ولا يكون الغرض تحصيل هـذا العنوان بحيث يكون المطلوب هو إكرام كلّ عالم بهذا العنوان الإجمالي، بل الغرض إنّما هـو إكرام كلّ فـرد على سبيل الاستقلال، وحينئذ فلو شكّ في فرد أنّـه عالم أم لا فمرجعـه إلى الشكّ في تعلّق الوجوب بإكرامـه، وهو مجرى البراءة. وهذا بخلاف ما لو كان الحكم متعلّقاً بالطبيعـة على نحو العامّ المجموعي; فإنّ المطلوب فيها هو إكرام المجموع بما هو مجموع، ولذا لا يكون لـه إلاّ إطاعـة واحدة وعصيان واحد، فإذا شكّ في أنّ هذا الفرد عامّ أم لا، فلايجوز إجراء البراءة; لأنّ مع إجرائها يشكّ في حصول غرض المولى وسقوط الأمر، وسيأتي توضيحـه.
وبالجملـة: بعدما عرفت من أنّ الأمر في العامّ الاستغراقي ينحلّ إلى أوامر متعدّدة، لعدم كون عنوان الكلّ المأخوذ في الموضوع مقصوداً بذاتـه لا يبقى إشكال في جريان البراءة في الشبهات الموضوعيـة.
إن قلت:
بناء على ما ذكر ـ من عدم كون العلم بالكبرى بمجرّده حجّـة ما لمينضمّ إليـه العلم بالصغرى ـ لا يبقى مجال للقول بعدم جواز التمسّك بالعامّ في
(الصفحة 36)
الشبهـة المصداقيّـة للمخصّص; لوضوح أنّـه بعد ما لم يكن المخصّص حجّـة بالنسبـة إليـه فلم لا يجـوز التمسّك بالعـامّ بعـد كونـه حجّـة بالنسبـة إلـى الأفراد المعلومـة التي تكون الشبهـة المصـداقيّـة للمخصص مـن جملتها قطعـاً، كما لا يخفى؟
قلت:
الوجـه في ذلك هو أنّ التمسّك بالعامّ وحجّيتـه يتوقّف على اُصول عقلائيـة التي من جملتها أصالـة تطابق الإرادة الاستعماليـة مع الإرادة الجدّيـة.
ومن الواضح أنّ هذا الأصل العقلائي ما لم يكن العامّ مخصّصاً قطعاً أو احتمالا يكون متّبعاً بالنسبـة إلى جميع أفراد العامّ، وأمّا بعد عروض التخصيص قطعاً فلا محالـة يكون مقصوراً بغير مورد الخاصّ.
وبعبارة اُخرى: التخصيص وإن لم يكن موجباً لتعنون العامّ بعنوان غير الخاصّ حتّى تكون الشبهـة المصداقيّـة للمخصّص شبهـة مصداقيّـة للعامّ أيضاً، إلاّ أنّـه يوجب قصر مورد قاعدة التطابق على غير مورد الخاصّ. وحينئذ فبعد عدم جواز التمسّك بالخاصّ لا يجوز التمسّك بالعامّ أيضاً، لأنّـه وإن كان بعمومـه يشمل الفرد المشكوك، إلاّ أنّـه بالمقدار الذي يجوز التمسّك بـه ويكون حجّـة، لا يعلم شمولـه فلايكون حجّـة.
ولبعض المحقّقين من المعاصرين وجـه آخر في تقريب جريان البراءة فيها، قال على ما في تقريرات بحثـه ما حاصلـه: إنّ الخطاب كما لا يمكن أن يكون فعليّاً إلاّ بعد وجود المكلّف، كذلك لا يمكن أن يكون فعليّاً إلاّ بعد وجود الموضوع، والسرّ في ذلك أنّ التكاليف الشرعيّـة إنّما تكون على نهج القضايا الحقيقيـة التي تنحلّ إلى قضيـة شرطيّـة مقدّمها وجود الموضوع وتاليها عنوان المحمول، فلابدّ من فرض وجود الموضوع في ترتّب المحمول، فمع الشكّ في