(الصفحة 450)
رأيهما أو لا. فلو فرض تقديمهم قول الأفضل عند الاختلاف فإنّما هو من باب ترجيح إحدى الحجّتين على الاُخرى، لا من باب عدم الملاك في قول المفضول، لعدم تعقّل تحقّق المناط مع عدم الفاضل وعدمـه مع وجوده، فقول المفضول حجّـة وأمارة عقلائيّـة في نفسـه، لأجل موهوميّـة احتمال الخطأ، كما أنّ مناط العمل بقول الأفضل ذلك بعينـه.
هل ترجيح قول الأفضل عند العقلاء لزومي أم لا؟
نعم يبقى في المقام أمر، وهو أنّـه هل بناء العقلاء على ترجيح قول الأفضل لدى العلم بمخالفتـه مع غيره إجمالا أو تفصيلا يكون بنحو الإلزام، أو من باب حسن الاحتياط وليس بنحو اللزوم؟
لا يبعد الاحتمال الثاني، لوجود تمام الملاك في كليهما، واحتمال أقربيّـة قول الأعلم ـ على فرض صحّتـه ـ لم يكن بمثابـة ترى العقلاء ترجيحـه عليـه لزوميّاً، ولهذا تراهم يراجعون إلى المفضول بمجرّد أعذار غير وجيهـة كبعد الطريق وكثرة المراجعين، ومشقّـة الرجوع إليـه ولو كانت قليلـة، وأمثال ذلك ممّا يعلم أنّـه لو حكم العقل إلزاماً بالترجيح لما تكون تلك الأعذار وجيهـة لدى العقل والعقلاء.
هذا مع علمهم إجمالا بمخالفـة أصحاب الفنّ في الرأي في الجملـة، فليس ترجيح الأفضل إلاّ ترجيحاً غير ملزم واحتياطاً حسناً، ولهذا لو أمكن لأحد تحصيل اجتماع أصحاب فنّ في أمر والاستفتاء منهم لَفَعَل، لا لأجل عدم الاعتناء بقول الأفضل أو الفاضل، بل للاحتياط الراجح الحسن.
(الصفحة 451)
وبالجملـة: المناط كلّ المناط في رجوعهم هو اعتقادهم بندرة الخطأ وإلغاء احتمال الخلاف، وهو موجود في كليهما.
فحينئذ مع تعارض قولهما مقتضى القاعدة تساقطهما والرجوع إلى الاحتياط مع الإمكان، وإلاّ فالتخيـير وإن كان ترجيح قول الأفضل حسناً على أيّ حال، تأمّل.
هذا، ولكن مع ذلك فالذهاب إلى معارضـة قول المفضول قول الأفضل مشكل، خصوصاً في مثل ما نحن فيـه ـ أي باب الاحتجاج بين العبيد والموالي ـ مع كون المقام من دوران الأمر بين التعيـين والتخيـير، والأصل يقتضي التعيـين، فالقول بلزوم تقديم قول الأفضل لعلّـه أوجـه، مع أنّ الأصحاب أرسلوه إرسال المسلمات والضروريات(1)، مضافاً إلى عدم إحراز بناء العقلاء على العمل بقول المفضول مع العلم التفصيلي بل الإجمالي المنجّز بمخالفتـه مع الفاضل لو لم يعلم بإحراز عدمـه. نعم لا يبعد ذلك مع العلم بأنّ في أقوالهم اختلافاً، لا مع العلم إجمالا بأنّ في هذا المورد أو مورد آخر مثلا مختلفون.
وبعبارة اُخرى: إنّ بنائهم على العمل في مورد العلم الإجمالي الغير المنجّز نظير أطراف الشبهـة الغير المحصورة، هذا حال بناء العقلاء.
وأمّا حال الأدلّـة الشرعيّـة فلابدّ من ذكر ما تشبّث بـه الطرفان والبحث في أطرافهما.
- 1 ـ راجع مفاتيح الاُصول: 626 / السطر12، مطارح الأنظار: 298 / السطر20.
(الصفحة 452)
أدلّة جواز الرجوع إ لى المفضول
أمّا ما يمكن أن يتمسّك بـه لجواز الرجوع إلى المفضول مع وجود الأفضل، بل ومخالفـة رأيهما اُمور:
الأوّل : بعض الآيات الشريفة
منها: قولـه تعالى في سورة الأنبياء:
(وَمَا أَرسَلنَا قَبلَكَ إِلاّ رِجَالا نُوحي إِلَيهِم فَسئَلُوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لاَ تَعلَمُون )(1) بدعوى أنّ إطلاقـه يقتضي جواز الرجوع إلى المفضول حتّى مع مخالفـة قولـه للأفضل، سيّما مع ندرة التساوي بين العلماء وتوافقهم في الآراء.
وفيـه ـ مضافاً إلى ظهور الآيـة في أنّ أهل الذكر هم علماء اليهود والنصارى وإرجاع المشركين إليهم، وإلى ورود روايات كثيرة في أنّ أهل الذكر هم الأئمّـة(2) بحيث يظهر منها أنّهم أهلـه لا غير ـ أنّ الشبهـة كانت في اُصول العقائد التي يجب فيها تحصيل العلم، فيكون المراد: «اسألوا أهل الذكر حتّى يحصل لكم العلم إن كنتم لا تعلمون» ومعلوم أنّ السؤال عن واحد منهم لا يوجب العلم، ففي الآيـة إهمال من هذه الجهـة، فيكون المراد أنّ طريق تحصيل العلم لكم هو الرجوع إلى أهل الذكر، كما يقال للمريض: إنّ طريق استرجاع الصحّـة
- 1 ـ الأنبياء (21): 7.
- 2 ـ راجع الكافي 1: 210.
(الصفحة 453)
هو الرجوع إلى الطبيب وشرب الدواء، فليس لها إطلاق يقتضي الرجوع إلى الفاضل أو المفضول مع تعارض قولهما.
ولايبعد أن يقال: إنّ الآيـة بصدد إرجاعهم إلى أمر ارتكازي هو الرجوع إلى العالم، ولا تكون بصدد تحميل تعبّدي وإيجاب مولوي.
ومنها: آيـة النفر
(وَمَا كَانَ المُؤمِنُون لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَولا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرقَة مِنهُم طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَومَهُم إِذَا رَجَعُوا إِلَيهِم لَعَلَّهُم يَحذَرُونَ )(1).
والاستدلال بها للمطلوب يتوقّف على اُمور:
منهـا: استفادة وجوب النفر منها.
ومنها: كون التفقّـه غايـة لـه.
ومنها: كون الإنذار من جنس ما يتفقّـه فيـه.
ومنها: انحصار التفقّـه بالفرعيّات.
ومنها: كون المنذر ـ بالكسر ـ كلّ واحد من النافرين.
ومنها: كون المنذَر ـ بالفتح ـ كلّ واحد من الطائفـة الباقيـة.
ومنها: كون التحذر عبارة عن العمل بقول المنذر.
ومنها: وجوب العمل بقولـه، حصل العلم منـه أو لا، خالف قول غيره أو لا.
فيصير مفاد الآيـة بعد تسليم المقدّمات: «يجب على كلّ واحد من كلّ طائفـة من كلّ فرقـة النفر لتحصيل الفروع العمليّـة، ليبيّنها لكلّ واحد من الباقين، ليعمل المنذر بقولـه، حصل العلم منـه أو لا، وخالف قول غيره أو لا».
(الصفحة 454)
وأنت خبير بعدم سلامـة جميع المقدّمات لو سلم بعضها، فلك أن تمنع كون التفقّـه غايـة النفر بأن يقال: إنّ قولـه:
(وَمَا كَانَ المُؤمِنُون لِيَنفِرُوا كَافَّةً )يحتمل أن يكون إخباراً في مقام الإنشاء، أي ليس لهم النفر العمومي، كما ورد أنّ القوم كانوا ينفرون كافّـة للجهاد وبقي رسولاللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وحده، فورد النهي عن النفر العمومي والأمر بنفر طائفـة للجهاد.
فحينئذ لا يكون التفقّـه غايـة للنفر إذا كان التفقـه لغير النافرين; أي الباقين. لكن الإنصاف أنّ ذلك خلاف ظاهرها، بل ظاهرها أنّ المؤمنين بحسب اشتغالهم باُمور المعاش ونظم الدنيا ما كانوا لينفروا جميعاً، أي النفر العمومي ليس ميسوراً لهم، ولولا نفر من كلّ فرقـة طائفـة منهم للتفقّـه؟ ولا إشكال في أنّ الظاهر منـه مع قطع النظر عن قول المفسّرين هو كون التفقّـه غايـة لـه.
وأمّا كون الإنذار من سنخ ما يتفقّـه فيـه; أي بيان الأحكام بنحو الإنذار فليست الآيـة ظاهرة فيـه، بل الظاهر منها أنّ غايـة النفر أمران:
أحدهما: التفقّـه في الدين وفهم الأحكام الدينيّـة.
والآخر: إنذار القوم وموعظتهم. فيكون المراد: يجب على الفقيـه إنذار القوم وإيجاد الخوف من بأس اللّه في قلوبهم، فإذا خافوا يحكم عقلهم بوجوب تحصيل المؤمِّن، فلا محيص لهم إلاّ العلم بالأحكام مقدّمـة للعمل بها، وأمّا وجوب العمل بقول المنذر فلا تدّل الآيـة عليـه.
ودعوى أنّ الإنذار لابدّ وأن يكون من جنس ما يتفقّـه فيـه، وإلاّ فأيّـة مناسبـة للفقيـه معـه، ممنوعـة، لأنّ الإنذار مناسب للفقيـه، لأنّـه يعلم حدوده وكيفيّتـه وشرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع أنّ لكلامـه تأثيراً في القوم ما لا يكون لكلام غيره، لعلوّ مقامـه وعظم شأنـه لديهم، وأمّا التفقّـه في