(الصفحة 67)دوران الأمر
بين المحذورين
فصل في دوران التكليف بين الوجوب والحرمـة بأن علم إجمالا بوجوب شيء معيّن أو حرمتـه.
وليعلم أنّ دوران التكليف بينهما في فعل واحد تارة يكون مع وحدة الواقعـة، كما لو فرض العلم الإجمالي بوجوب صوم يوم معيّن أو حرمتـه، واُخرى مع تعدّد الواقعـة، كما لو فرض دوران الأمر في صلاة الجمعـة في حال الغيبـة بين الوجوب والحرمـة، فلو كانت الواقعـة واحدة لا يمكن المخالفـة القطعيـة كما لا يمكن الموافقـة القطعيـة.
نعم لو كان شيء من الوجوب والحرمـة تعبّدياً يتمكّن المكلّف من المخالفـة القطعيـة، كما أنّـه لو كانت الواقعـة متعدّدة يتمكّن أيضاً من المخالفـة القطعيـة، كما لايخفى.
وعلى أيّ تقدير فقد يكون الفعل أو الترك معلوم الأهمّيـة في نظر العقل، كما لو تردّد أمر الشخص بين أن يكون نبيّاً يجب حفظـه أو سابّ نبي مهدور الدم، وإمّا أن يكون محتمل الأهمّيـة، وإمّا أن يعلم تساويهما.
(الصفحة 68)
تساوي المحذورين من حيث الأهمّية مع وحدة الواقعة
إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّـه لو كانت الواقعـة واحدة، ولم يتمكّن المكلّف من المخالفة القطعية، ولم يكن شيء من الفعل أو الترك معلوم الأهمّية أو محتملها في نظر العقل، فهل يحكم العقل بالتخيـير وأنّ المكلّف مخيّر في تعيـين أيّهما شاء؟
في جريان الأصل العقلي
الظاهر نعم; لأنّ معنى حكم العقل بذلك عبارة عن مجرّد إدراكه هذا المعنى لا جعلـه التخيـير. ومن الواضح ثبوت حكمه في المقام، فإنّـه بعد ملاحظة استواء العلم الإجمالي بالنسبـة إلى الطرفين، وعدم كون المكلّف قادراً على الامتثال بالنسبـة إلى كلا التكليفين، وعدم ثبوت مزيّـة محقّقـة أو محتملة لأحد الطرفين، يدرك أنّ المكلّف مخيّر في الفعل والترك، وهذا هو معنى التخيـير العقلي، ولا ينافي ذلك عدم خلوّ المكلّف بحسب الخلقـة من الفعل أو الترك، كما لا يخفى.
وأمّا ما أفاده المحقّق النائيني
(قدس سره)
ـ على ما في التقريرات ـ من عدم ثبوت الوظيفـة العقليّـة هنا، لأنّ التخيـير العقلي إنّما هو فيما إذا كان في طرفي التخيـير ملاك يلزم استيفائـه، ولم يتمكّن المكلّف من الجمع بين الطرفين كالتخيـير الذي يحكم بـه في باب التزاحم، وفي دوران الأمر بين المحذورين ليس كذلك، لعدم ثبوت الملاك في كلّ من طرفي الفعل والترك(1).
ففيـه ـ مضافاً إلى أنّ ذلك مجرّد دعوى لا يساعده بيّنـة ولا برهان، لعدم
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 444.
(الصفحة 69)
نهوض دليل على اختصاص مورد التخيـير العقلي بذلك ـ أنّ هذا منقوض بما إذا اضطرّ المكلّف إلى طرف غير معيّن من أطراف العلم الإجمالي بخمريّـة هذا المائع أو مائع آخر مورد للابتلاء مثلا، فإنّـه لا خفاء في أنّ العقل يحكم بالتخيـير لرفع الاضطرار مع عدم ثبوت الملاك في جميع الأطراف، فتدبّر.
وممّا ذكرنا يظهر الخلل فيما أفاده المحقّق العراقي ـ على ما في التقريرات ـ من أنّ الحكم التخيـيري شرعيّاً كان كما في باب الخصال، أو عقليّاً كما في المتزاحمين إنّما يكون في مورد يكون المكلّف قادراً على المخالفـة بترك كلا طرفي التخيـير فكان الأمر التخيـيري باعثاً على الإتيان بأحدهما وعدم تركهما معاً، لا في مثل المقام الذي هو من التخيـير بين النقيضين(1).
وجـه ذلك: أنّ مرجع هذا الكلام إلى دعوى كون مورد التخيـير هو غير مورد دوران الأمر بين المحذورين، وهو مصادرة واضحـة، كما لايخفى.
هذا كلّـه بالنسبـة إلى
أصالـة التخيـير
،
وقد عرفت جريانها في المقام.
وأمّا البراءة العقليّـة:
فالظاهر أيضاً جريانها، لأنّ جنس التكليف وهو الإلزام وإن كان معلوماً تفصيلا، إلاّ أنّ خصوصيّـة الوجوب والتحريم مجهولـة، فيقبح العقاب عليها بعد عدم ثبوت حجّـة على الخصوصيـة من قبل المولى، فالعقاب على نوع التكليف قبيح; لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، وعلى جنسـه أيضاً قبيح; لعدم القدرة على الامتثال، هذا.
ويظهر من جماعـة من المحقّقين عدم جريان البراءة العقليّـة لوجوه:
منها:
ما أفادة المحقّق الخراساني في الكفايـة من أنّـه لا مجال هاهنا
- 1 ـ نهايـة الأفكار 3: 293.
(الصفحة 70)
لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فإنّـه لا قصور فيـه هاهنا، وإنّما يكون عدم تنجّز التكليف لعدم التمكّن من الموافقـة القطعيـة كمخالفتها، والموافقـة الاحتماليـة حاصلـة لا محالـة، كما لايخفى(1).
ومنها:
ما في التقريرات المنسوبـة إلى المحقّق النائيني (قدس سره)
من أنّ مدرك البراءة العقليّـة قبح العقاب بلا بيان، وفي باب دوران الأمر بين المحذورين يقطع بعدم العقاب لأنّ وجود العلم الإجمالي كعدمـه لا يقتضي التنجيز والتأثير، فالقطع بالمؤمّن حاصل بنفسـه بلا حاجـة إلى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان(2).
ومنها:
ما أفاده المحقّق العراقي على ما في تقريراتـه ممّا ملخّصـه: أنّ مع حصول الترخيص في الرتبـة السابقـة عن جريان البراءة بحكم العقل بالتخيـير بين الفعل والترك لا يبقى مجال لجريان أدلّـة البراءة العقليّـة والشرعيّـة، هذا(3).
ولا يخفى ما في جميع هذه الوجوه من الخلل والضعف.
أمّا الوجـه الأوّل: فلأنّ المراد بعدم قصور في البيان إن كان هو عدم القصور بالنسبـة إلى جنس التكليف فواضح، ونحن أيضاً نقول بـه، ولكن ذلك لا ينافي قصوره بالنسبـة إلى نوع التكليف. وإن كان المراد بـه هو عدم القصور بملاحظـة النوع أيضاً فنحن نمنع ذلك، كيف وخصوصيّـة الوجوب والحرمـة مجهولـة، فالحكم بنفي العقاب عليها متوقّف على إجراء قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وبدونها لا مجال لهذا الحكم أصلا، كما لايخفى.
- 1 ـ كفايـة الاُصول: 405.
- 2 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 448.
- 3 ـ نهايـة الأفكار 3: 293.
(الصفحة 71)
وأمّا الوجـه الثاني: فلأنّ القطع بعدم العقاب وبوجود المؤمّن ممّا لا يحصل لو اُغمض النظر عن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، ومجرّد سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز والتأثير وصيرورة وجوده كعدمـه لا يجدي ما لم ينضمّ إليـه القاعدة، كيف ولو فرض جواز العقوبـة على خصوصيّـة الوجوب مثلا ولو كانت مجهولـة فمن أين يقطع بعدم العقاب ووجود المؤمّن حينئذ، فهذا القطع إنّما هو بملاحظـة هذه القاعدة.
وأمّا الوجـه الثالث: فلأنّ الحكم بتأخّر رتبـة أدلّـة البراءة عن حكم العقل بالتخيـير بين الفعل والترك ممنوع جدّاً، فإنّ الحكم بالتخيـير إنّما هو بعد ثبوت قبح العقاب على خصوصيّـة الوجوب والحرمـة، لأنّـه لو فرض إمكان العقوبـة على التكليف الوجوبي مثلا وإن كان مجهولا لا يحكم العقل بالتخيـير، فحكمـه بـه إنّما هو بعد ملاحظـة عدم ثبوت البيان على الخصوصيـة وعدم جواز العقوبـة عليها كما عرفت، هذا.
في جريان الأصل الشرعي
وأمّا البراءة الشرعيّـة: فالظاهر بملاحظـة ما ذكرنا في وجـه جريان البراءة العقليّـة جريانها أيضاً، لأنّ التكليف بنوعـه مجهول، فيشملـه مثل حديث الرفع.
ولكن المحقّق النائيني نفى جريانها
، نظراً إلى أنّ مدركها قولـه (صلى الله عليه وآله وسلم):
«رفع ما لا يعلمون»(1). والرفع فرع إمكان الوضع، وفي المقام لا يمكن وضع
- 1 ـ التوحيد: 353 / 24، الخصال: 417 / 9، وسائل الشيعـة 5: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب56، الحديث1.