(الصفحة 384)
المكلّف متوجّهاً إليـه تكليفان نفسيّان تعلّق كلّ واحـد منهما بمتعلّق خاص، وحيث لا يكون قادراً على جمعهما في مقام الامتثال ولا مرجّح في البين يحكم العقل بالتخيـير.
وأمّا هنا فالتكليف المتعلّق بتصديق العادل تكليف طريقي، ومرجعـه إلى لزوم متابعـة الخبر لكونـه طريقاً وكاشفاً عن الواقع، ولا معنى للحكم بالتخيـير بين الطريقين اللذين كانت حجّيتهما لأجل الطريقيّـة، والعقل يحكم بتساقطهما لامتناع ثبوت الكاشفيـة لهما، ضرورة أنّـه لا معنى للتخيـير بين الخبرين بكون كلّ واحد منهما كاشفاً مع عدم العمل بالآخر، كما لايخفى، هذا.
وأمّا بناءً على كون المستفاد من النقل هو الحجّيـة من باب السببيـة فالأمر وإن كان يدور بين رفع اليد عن العموم وتقيـيد الإطلاق، إلاّ أنّك عرفت فيما تقدّم أنّ ترجيح التقيـيد على التخصيص إنّما هو فيما إذا كان الأمر دائراً بين التصرّف في دليل بالتخصيص والتصرّف في ذلك الدليل بالتقيـيد.
هذا كلّـه بناءً على الطريقيّـة.
مقتضى الأصل بناءً على السببيّة
وأمّـا بناءً على السببيـة فتارة يقال: بكون الـدليل هـو العقل، واُخـرى: بأنّـه هو النقل.
فعلى الأوّل قد يقال بخلوّ الواقع عن الأحكام وأنّها تابعـة لقيام الأمارة، وبدونها لا حكم ولا تكليف، وقد يقال بثبوت الأحكام الواقعيّـة المشتركـة بين العالم والجاهل، كما انعقد عليـه الإجماع وتواتر بـه الأخبار.
(الصفحة 385)
فعلى الأوّل تارةً يقال: بأنّ قيام الأمارة على تعلّق الحكم بشيء يوجب أن يكون ذلك الشيء محكوماً بذلك الحكم بعنوانـه، واُخرى: بأنّ قيام الأمارة عليـه يوجب أن يكون متعلّق الحكم هو مؤدّى الأمارة بما أنّـه مؤدّاها.
فعلى الأوّل يكون مرجع قيام الأمارة على وجوب صلاة الجمعـة وأمارة اُخرى على حرمتها، إلى اشتمال صلاة الجمعـة على المصلحـة الملزمـة والمفسدة كذلك. ومن المعلوم ارتفاع ذلك، فاللازم حينئذ الالتزام بتساقط الخبرين بعد عدم وجود مرجّح في البين.
وعلى الثاني الذي مرجعـه إلى أنّ قيام الأمارة يوجب أن يكون متعلّق الحكم هو المؤدّى لـه بوصف أنّـه المؤدّى لـه يكون مرجع الأمارتين والخبرين إلى اشتمال مؤدّى خبر زرارة ـ مثلا ـ على المصلحـة بما أنّـه مؤدّى لـه، وكذا مؤدّى خبر محمّد بن مسلم، فإن قلنا بتغاير هذين العنوانين وكفايتـه في تعدّد الحكم فلا معارضـة بين الخبرين حينئذ، بل يصير كعنواني الصلاة والتصرّف في مال الغير، كما لايخفى.
وإلاّ يلزم التعارض والتساقط، هذا بناءً على خلوّ الواقع عن الحكم المشترك بين العالم والجاهل.
وأمّا بناءً على ثبوت ذلك فلابدّ أن تكون الأمارة المخالفـة مشتملـة على مصلحـة غير ناقصة عـن مصلحـة الواقـع، وحينئذ فحيث لا يكون المخالف المشتمل على المصلحـة غير معلوم فاللازم أن يقال بالتخيـير، لأجل عـدم وجـود المرجّح.
(الصفحة 386)
مقتضى الأخبار الواردة في المتكافئين
هذا كلّـه ما تقتضيـه القاعدة في المتعارضين المتكافئين، لكنّـه قد ادّعي الإجماع على عدم التساقط، ووردت روايات دالّـة عليـه، لكنّها مختلفـة:
فطائفـة منها تدلّ على ا لتخيـير .
وطائفـة على ا لتوقّف .
وقد ادّعى الشيخ (قدس سره)
في الرسائل تواتر الروايات الدالّـة على التخيـير(1)، ولكنّها حسبما تـتبّعنا في مظانّها التي هي الباب التاسع مـن كتاب قضاء الوسائل(2) وكذا الباب التاسع من مستدركـه(3) لا تـتجاوز عن سبعـة قاصرة من حيث السند والدلالـة، وقد مرّ بعضها، وهو روايتا الحميري وعلي بن مهزيار المتقدّمتان(4) في فصل تعارض العامّ والخاصّ، وهكذا أخبار التوقّف المذكورة في الباب التاسع من الكتابين.
ما قيل في وجه الجمع بين هاتين الطائفتين من الأخبار
وقد وقع الاختلاف في الجمع بين هاتين الطائفتين وما قيل في ذلك وجوه:
منها:
ما أفاده المحقّق النائيني في التقريرات ـ بعد ذكر أنّ في هذا الباب
- 1 ـ فرائد الاُصول 2: 762.
- 2 ـ وسائل الشيعـة 27: 106، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب9.
- 3 ـ مستدرك الوسائل 17: 302، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب9.
- 4 ـ تقدّمتا في الصفحـة 334 ـ 335.
(الصفحة 387)
طوائف أربع من الروايات، لدلالـة طائفـة ثالثـة على التخيـير في خصوص زمان الحضور، ورابعـة على التوقّف في خصوص ذلك الزمان ـ من أنّ مقتضى التحقيق في الجمع بينها هو أنّ النسبـة بين ما دلّ على التخيـير في زمان الحضور وبين ما دلّ على التخيـير المطلق وإن كانت هي العموم والخصوص، وكذا بين روايات التوقّف، إلاّ أنّـه لا تعارض بينهما، لعدم المنافاة بين التوقّف المطلق والتوقّف في زمان الحضور، وكذا بين التخيـيرين، فالتعارض بين ما دلّ على التخيـير وبين ما دلّ على التوقّف، غايتـه أنّ التعارض بين ما دلّ على التوقّف والتخيـير مطلقاً يكون بالعموم من وجـه، وبين ما دلّ على التوقّف والتخيـير في زمان الحضور يكون بالتباين، ولا يهمّنا البحث في الثاني، فإنّـه لا أثر لـه، فالحري رفع التعارض في الأوّل، وقد عرفت أنّ النسبـة بينهما العموم من وجـه، لكن نسبـة ما دلّ على التخيـير مطلقاً مع ما دلّ على التوقّف في زمان الحضور هي العموم والخصوص، فلابدّ من تقيـيد إطلاق التخيـير بـه، وبـه يتحقّق انقلاب النسبـة من العموم من وجـه إلى العموم المطلق، ومقتضى الصناعـة حمل أخبار التوقّف على زمان الحضور والتمكّن من ملاقاة الإمام (عليه السلام)، فتصير النتيجـة هي التخيـير في زمان الغيبـة كما عليـه المشهور(1)، انتهى ملخّصاً.
ويرد عليـه:
ـ مضافاً إلى أنّـه لم يظهر لنا أنّ النسبـة بين ما دلّ على التخيـير مطلقاً وبين ما دلّ على التوقّف كذلك كيف تكون بالعموم من وجـه بعد شمول كلّ منهما لحالتي الظهور والغيبـة، بل النسبـة بين الدليلين هي التباين كالنسبـة بين أدلّـة التوقّف والتخيـير في زمان الحضور، كما لايخفى. ومضافاً إلى
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 764 ـ 765.
(الصفحة 388)
ما أورده الفاضل المقرّر في الهامش من أنّـه لا وجـه لملاحظـة دليل التخيـير مطلقاً مع دليل التوقّف في زمان الحضور حتّى يختصّ دليل التخيـير بحال الغيبـة وصار مخصّصاً لدليل التوقّف المطلق بعدما كانت النسبـة بينهما هي العموم من وجـه، على حسب ما أفاده، فإنّـه ليس بأولى من العكس وملاحظـة دليل التوقّف مطلقاً مع دليل التخيـير في زمان الحضور وتخصيصـه بحال الغيبـة ثمّ جعلـه مخصّصاً لدليل التخيـير مطلقاً، كما لايخفى ـ أنّـه لا وجـه لملاحظـة دليل التخيـير مطلقاً مع دليل التوقّف في زمان الحضور بعد كونـه مبتلى بالمعارض على ما هو المفروض، وهو دليل التخيـير في زمان الحضور الذي ذكر أنّ النسبـة بينهما التباين.
وبالجملـة: فهذا النحو من الجمع ممّا لا وجـه لـه.
وبـه ينقدح الخلل في الجمع الذي أفاده الشيخ
(قدس سره)
في الرسائل
(1) وهو حمل أخبار التوقّف على صورة التمكّن من الوصول إلى الإمام (عليه السلام)، فإنّـه لا وجـه لـه بعد اختلاف الأخبار بالنحو الذي عرفت، مضافاً إلى أنّ المراد بالتمكّن إن كان هو التمكّن الذي كان الشخص معـه قادراً على الرجوع إلى الإمام فوراً كما إذا كان معـه في مدينـة واحدة، فمن الواضح إباء أخبار التوقف عن الحمل على خصوص هذه الصورة، وإن كان المراد بـه هو التمكّن بمعنى مجرّد القدرة على الوصول إلى محضره ولو مع تحمّل مشقّـة السفر، فمن الواضح أنّ حمل أخبار التخيـير على صورة عدم التمكّن بهذا المعنى بعيد جدّاً، كما لايخفى، خصوصاً مع كون الغايـة في بعض الروايات ملاقاة من يخبره، ومن المعلوم أنّ المخبر أعمّ من الإمام (عليه السلام).
- 1 ـ فرائد الاُصول 2: 763.