(الصفحة 322)
الكلام في وجه تقدّم الخاصّ على العامّ
فانقدح: أنّ الوجه في تقدّم الخاصّ على العامّ هو اختلاف المحيطين وتغايرهما وأنّ عدم تعارضهما إنّما هو في خصوص محيط التقنين دون غيره.
ثمّ إنّ ما ذكرنا إنّما هو في غير ما إذا كان الخاصّ قطعيّاً من حيث السند والدلالـة معاً، وأمّا لو كان كذلك لا يبقى معـه مجال لجريان أصالـة العموم في العامّ، ضرورة أنّ مورده الشكّ وعدم العلم بالتخصيص ومع العلم بـه لا يبقى لها مورد، كما لايخفى.
ثمّ إنّـه قد ذكر
في وجـه تقديم الخاصّ على العامّ وجوه اُخر لابأس بذكرها وما يرد عليها:
كلام الشيخ الأنصاري وما يرد عليه
أحدها:
ما أفاده الشيخ (قدس سره)
في رسائلـه حيث قال بعد تفسير الورود والحكومـة والفرق بين الحكومـة والتخصيص ما ملخّصـه: إنّ ما ذكرنا من الورود والحكومـة جار في الاُصول اللفظيـة أيضاً، فإنّ أصالـة الحقيقـة أو العموم معتبرة إذا لم يعلم هناك قرينـة على المجاز فإن كان المخصّص دليلا علمياً كان وارداً على الأصل المذكور، وإن كان ظنّياً معتبراً كان حاكماً على الأصل، لأنّ معنى حجّيـة الظنّ جعل احتمال مخالفـة مؤدّاه للواقع بمنزلـة العدم في عدم ترتّب ما كان يترتّب عليـه من الأثر لولا حجّيـة هذه الأمارة، وهو وجوب العمل بالعموم عند وجود المخصّص وعدمـه، فعدم العبرة باحتمال عدم التخصيص إلغاء للعمل بالعموم، فثبت أنّ النصّ وارد على أصالـة الحقيقـة إذا كان قطعيّاً من جميع
(الصفحة 323)
الجهات وحاكم عليـه إذا كان ظنّياً في الجملـة كالخاصّ الظنّي السند مثلا، ويحتمل أن يكون الظنّ أيضاً وارداً بناءً على كون العمل بالظاهر عرفاً وشرعاً معلّقاً على عدم التعبّد بالتخصيص، فحالها حال الاُصول العقليّـة، فتأمّل. هذا على تقدير كون أصالـة الظهور من حيث أصالـة عدم القرينـة.
وأمّا إذا كان من جهـة الظنّ النوعي الحاصل بإرادة الحقيقـة الحاصل من الغلبـة أو غيرها فالظاهر أنّ النصّ وارد عليـه مطلقاً وإن كان النصّ ظنّياً، لأنّ الظاهر أنّ دليل حجّيـة هذا الظنّ مقيّد بصورة عدم وجود ظنّ معتبر على خلافـه، فإذا وجد ارتفع موضوع ذلك الدليل، ويشهد لـه أنّا لم نجد ولا نجد من أنفسنا مورداً يقدّم فيـه العامّ من حيث هو على الخاصّ وإن فرض كونـه أضعف الظنون المعتبرة. نعم لو فرض الخاصّ ظاهراً خرج عن النصّ وصار من باب تعارض الظاهرين، فربّما يقدّم العامّ(1)، انتهى.
وفيـه مواقع للنظر:
منها: أنّ الحكم بورود النصّ على أصالـة الحقيقـة إذا كان قطعيّاً من جميع الجهات خلاف ما جرى عليـه الاصطلاح، بل الظاهر أنّ مفاده خارج عن أصالـة الظهور بالتخصّص، لأنّ ورود أحد الدليلين على الآخر إنّما يكون بمعونـة التعبّد بأحدهما، والنصّ القطعي السند لا يحتاج إلى التعبّد، بل الورود إنّما هو في مثل تقدّم الأمارات على أصل البراءة ـ مثلا ـ بناءً على أن يكون المراد بـ
«ما لا يعلمون» في حديث الرفع هو مطلق ما لا حجّـة فيـه، لا خصوص ما لا علم بـه، كما اخترناه سابقاً في مبحث البراءة، فإنّـه حينئذ يكون قيام الأمارة المعتبرة شرعاً رافعاً لموضوع الأصل لأجل كونها حجّـة شرعيّـة، كما لايخفى.
- 1 ـ فرائد الاُصول 2: 751 ـ 752.
(الصفحة 324)
ومنها: أنّ ما أفاده على سبيل الاحتمال وأمر في ذيلـه بالتأمّل وهو مشعر ببطلانـه من أن يكون الظنّ وارداً على أصالـة الظهور ـ بناءً على كون العمل بالظاهر معلّقاً على عدم التعبّد بالتخصيص ـ حقّ لا محيص عنـه، فإنّـه لو كان مستند أصالـة الظهور هي أصالـة عدم القرينـة ـ كما هـو المفروض ـ يكون التعبّد بالظنّ واعتباره تعبّداً بوجود القرينـة، ومع وجودها بحكم التعبّد يكون الظنّ وارداً عليها قطعاً، لخروج مؤدّاه عنها بمعونـة التعبّد بوجود القرينـة، كما هو غير خفي.
ومنها: أنّ الحكم بورود النصّ الظنّي على أصالـة الظهور التي مستندها الظنّ النوعي بإرادتـه الحاصل من الغلبـة أو من غيرها، لكون دليل حجّيـة هذا الظنّ مقيّد بصورة عدم وجود ظنّ معتبر على خلافـه، غير تامّ; لأنّ الطرفين حينئذ ثابتان ببناء العقلاء، ضرورة أنّ حجّيـة الظواهـر لا مستند لها إلاّ بناء العقلاء، كما أنّـه المستند الفرد لاعتبار خبر الواحـد ـ بناءً على ما هو التحقيق على ما مرّ في بحث خبر الواحد ـ ولا معنى لورود أحدهما على الآخـر، كما أنّـه لا معنى لحكومـة الثاني على الأوّل بناءً على كون أصالـة الظهور من حيث أصالـة عدم القرينـة على ما صرّح بـه في أوّل كلامـه، لأنّ الحكومـة والورود مـن أحـوال الدليل اللفظي كما اعترف بـه في تفسير الحكومـة حيث قال: ضابطها أن يكون أحد الدليلين بمدلولـه اللفظي متعرّضاً لحال الدليل الآخر... إلى آخره(1).
وأمّا ما استشهد بـه لما أفاده من أنّا لم نجد ولا نجد من أنفسنا مورداً يقدّم فيـه العامّ على الخاصّ... إلى آخره، فغايـة ذلك هو تقدّم الخاص على العامّ.
- 1 ـ فرائد الاُصول 2: 750.
(الصفحة 325)
وأمّا كون الوجـه في ذلك ما أفاده فلا دلالـة على ذلك، بل نحن ندّعي أنّ الوجـه في ذلك ما ذكرناه من اختلاف محيط جعل القانون لغيره.
ومنها: أنّ الحكم بتعارضهما لو كان الخاصّ ظاهراً وبأنّـه ربّما يقدّم العامّ حينئذ خلاف ما عليـه بناء العقلاء، فإنّـه لم يوجد مورد يقدّم فيـه العامّ على الخاصّ وإن كان ظاهراً، فلا محيص حينئذ عمّا ذكرنا، فتأمّل جيّداً.
كلام المحققّ الخراساني ونقده
ثانيها:
ما أفاده المحقّق الخراساني (قدس سره)
من أنّ الوجـه في تقدّم الخاصّ على العامّ والمقيّد على المطلق هو كون أحدهما قرينـة على التصرّف في الآخر، لكونـه النصّ أو الأظهر والآخر ظاهر دائماً، وبناء العرف على كون النصّ أو الأظهر قرينـة على التصرّف في الظاهر، وبهذا ترتفع المعارضـة من بينهما وإن كانت متنافيـة بحسب مدلولاتها، لعدم تنافيهما في الدلالـة وفي مقام الإثبات بحيث تبقى أبناء المحاورة متحيّرة، ولا فرق في ذلك بين أن يكون السند فيهما قطعيّاً أو ظنّياً أو مختلفاً، فيقدّم النصّ أو الأظهر وإن كان بحسب السند ظنّياً على الظاهر وإن كان بحسبـه قطعيّاً(1)، انتهى.
ويرد عليه: أنّـه لو فرض كون العامّ والخاصّ من قبيل: أكرم كلّ عالم وأهن كلّ عالم فاسق، فلا ترجيح لظهور أحدهما على الآخر، ضرورة أنّ دلالـة كلّ منهما على الوجوب إنّما هو لأجل صيغـة الأمـر الظاهرة في الوجـوب، كما أنّ دلالـة كلّ منهما على العموم إنّما هـو لأجـل الإتيان بكلمـة «كلّ» الظاهـرة في
(الصفحة 326)
العموم حسب ما مرّ في مبحثـه(1) ومدخولها في كلّ منهما هو المشتقّ الموضوع بالوضع العامّ والموضوع له كذلك. ومن المعلوم أنّه لايكون لمجموع الجملة وضع آخر ماعدا وضع مفرداتها، وعلى تقديره لافرق بين الجملتين، كما هو واضح.
ودعوى:
أنّ الأظهريّـة إنّما هي باعتبار أنّ دلالـة كلّ عالم على أفراده الفاسقين أضعف من دلالـة كلّ فاسق منهم على تلك الأفراد، لأنّ الدلالـة الاُولى إنّما هي الدلالـة بالعرض، والثانيـة إنّما هي بالذّات، ومن المعلوم أظهريّتها بالنسبـة إلى الاُولى، كما لايخفى.
مدفوعـة:
بمنع دلالـة العامّ على الأفراد بخصوصيّاتها، بل امتناعها، ضرورة أنّ شمولـه لمثل زيد وعمرو وبكر وغيرهم من أفراد العلماء إنّما هو لأجل كونهم عالمين، لا لأجل تشخّصهم بتلك الخصوصيات، كما أنّ دلالـة كلّ فاسق منهم على الأفراد أيضاً كذلك.
نعم تبقى دعوى الاختلاف في الانطباق، لأنّ انطباق العامّ على أفراد الخاصّ ليس بمثابـة انطباق الخاصّ على أفراده.
ولكنّـه يرد عليها: أنّ الانطباق أمر لا ربط لـه بمقام الدلالـة والإثبات والظهور وأخواه من حالات الدلالـة، كما هو واضح. فانقدح أنّ التحليل يقضي بعدم استلزام الخاصّ لكونـه نصّاً أو أظهر، بل ربّما يتساوى الظهوران، بل قد يكون ظهوره أضعف من ظهور العامّ، ومن المعلوم الذي لا يشوبـه ريب أنّ تقديم الخاصّ على العامّ عند العرف والعقلاء لا يكون دائراً مدار قوّة ظهوره، بل لابدّ من الالتزام بما ذكرنا، فتدبّر جيّداً.
- 1 ـ تقدّم في الجزء الأوّل: 263 ـ 264.