(الصفحة 331)
وكيف كان: فإن كان التقديم بعد إحراز القرينـة، فمن المعلوم أنّـه بعد تشخيصها عن غيرها لا تصل النوبـة إلى تقديم أحد الأصلين على الآخـر، بل يعلم بعدم كون الظهور في طرف ذي القرينـة مراداً أصلا، وإن كان التقديم قبل إحراز القرينـة فمن الواضح أنّـه لا مجال لهذا التقديم إلاّ بالنسبـة إلى ما كان ظهوره أقوى.
ومن ذلك يظهر بطلان الدعوى الاُولى أيضاً وأنّ الخاصّ لا يكون قرينـة على العامّ أصلا، بل تقديمـه عليـه لأجل ما ذكرنا، لا لأجل كونـه قرينـة وكون الأصل فيها حاكماً على الأصل في ذيها.
تحقيق في الاُصول اللفظية
ومرجع ما ذكرنا إلى أنّ أصالـة تطابق الإرادة الجدّيـة والإرادة الاستعماليـة التي لابدّ من الرجـوع إليها لتشخيص مـراد المتكلّم بعد الاطّلاع على ظهور كلامـه إنّما تجـري بالنسبـة إلى العامّ فيما إذا لم يكن صادراً على سبيل القانون، أو فيما إذا كان كذلك لكـن بعد الفحص عـن المخصّص واليأس عـن الظفر بـه، وإلاّ فلا تجري في العموم القانوني، لبناء العرف والعقلاء عليـه، ومرجع هذا الأصل إلى أصالـة عدم الخطأ والاشتباه الجاريـة عند العقلاء في أفعالهم وأقوالهم، وهو الأصل الوحيد والأمر الفريد لتشخيص مراد المتكلّم.
وأمّا أصالـة العموم وأصالـة الظهور وأصالـة الحقيقـة وأصالـة عدم القرينـة وغيرها من الاُصول المتداولـة في ألسنـة الاُصوليـين فمرجع جميعها إلى أصالـة عدم الخطأ والاشتباه، وليست اُصولا متعدّدة جاريـة في مجاري مختلفـة،
(الصفحة 332)
ضرورة أنّـه إن كان المراد بأصالـة الظهور هو كون المعنى الفلاني ظاهراً من اللفظ الفلاني، فمن المعلوم ـ مضافاً إلى أنّـه ليس مرادهم منـه ذلك ـ أنّـه لا معنى لجعل أصل لتشخيص الظاهر عن غيره، وإن كان المراد بهما هو كون المعنى الظاهر مراداً للمتكلّم فهو راجع إلى أصالـة الجدّ الراجعـة إلى أصالـة عدم الخطأ والاشتباه، وكذا الحال في غيرها من الاُصول.
ثمّ إنّ جريان هذا الأصل لا يختصّ بالاستعمالات الحقيقيّـة، بل الظاهر جريانها في الاستعمالات المجازيّـة، فإنّـه لو قال: «رأيت أسداً يرمي» يكون استكشاف مراده متوقّفاً على إجراء أصالـة عدم الخطأ وأنّ ذكر يرمي لا يكون من باب الاشتباه، بل لـه دخل في إفادة المراد.
ومن هنا يظهر: أنّ ما وقع في عباراتهم من احتمال استناد أصالـة الظهور إلى أصالـة عدم القرينـة فاسد جدّاً، ضرورة أنّـه في المثال تجري أصالـة الظهور الراجعـة إلى كون الظهور مراداً للمتكلّم.
غايـة الأمر أنّ الظهور المنعقد إنّما هو الظهور الحاصل من مجموع الكلام المشتمل على القرينـة وذيها، مع أنّـه من الواضح أنّـه لا مجال لجريان أصالـة عدم القرينـة، لأنّ المفروض اشتمال الكلام عليها، فافهم واغتنم.
(الصفحة 333)
الفصل الثاني
عدم شمول أخبار العلاج للعامّ والخاصّ
قد عرفت(1) أنّ الروايات الواردة في علاج الأخبار المتعارضـة مشتملـة على التعرّض لحكم عنوانين:
أحدهما: عنوان المتعارضين، كما وقع في بعضها.
ثانيهما: عنوان الخبرين المختلفين. كما ورد في أكثرها.
وعرفت أيضاً أنّ اللازم في تشخيص موضوع التعارض والاختلاف الرجوع إلى العرف الذي هو المحكّم في مثل ذلك، وأنّ العرف لا يرى العامّ والخاصّ متعارضين فيما إذا وقعا في محيط التقنين وبيان الأحكام على سبيل العموم أوّلا، ثمّ بيان دائرة المراد الجدّي وأنّها أضيق من المراد الاستعمالي.
فالروايات الواردة في علاج المتعارضين من الخبرين لايشمل العامّوالخاصّ من رأس; لعدم التعارض الراجع إلى التحيّر في مقام استكشاف المراد، هذا.
حول كلام المحقّق الخراساني وا لعلاّمـة الحائري
ويظهـر المخـالفـة فيمـا ذكـرنـا مـن المحقّقين العلميـن الخـراسانـي والحائري (قدس سرهما)في كتابي الكفايـة والدرر.
قال في الأوّل
ـ بعد توجيـه قول المشهور بما يرجع إلى ما ذكرنا ـ: ويشكل
- 1 ـ تقدّم في الصفحـة 319 ـ 320.
(الصفحة 334)
بأنّ مساعدة العرف على الجمع والتوفيق وارتكازه في أذهانهم على وجـه وثيق لا يوجب اختصاص السؤالات بغير موارد الجمع، لصحّـة السؤال بملاحظـة التحيّر في الحال، لأجل ما يتراءى من المعارضـة وإن كان يزول عرفاً بحسب المآل، أو للتحيّر في الحكم واقعاً وإن لم يتحيّر فيـه ظاهراً، وهو كاف في صحّتـه قطعاً، مع إمكان أن يكون لاحتمال الردع شرعاً عن هذه الطريقـة المتعارفـة بين أبناء المحـاورة، وجـلّ العناويـن المأخـوذة فـي الأسئلـة لـولا كلّها يعمّها، كما لايخفى(1).
وقال في الثاني
ما يقرب من ذلك، حيث ذكر: أنّ المرتكزات العرفيّـة لا يلزم أن تكون مشروحـة ومفصّلـة عند كلّ أحد حتّى يرى السائل في هذه الأخبار عدم احتياجـه إلى السؤال عن حكم العامّ والخاصّ المنفصل وأمثالـه، إذ ربّ نزاع بين العلماء يقع في الأحكام العرفيّـة، مع أنّهم من أهل العرف، سلّمنا التفات كلّ الناس إلى هذا الحكم حتّى لا يحتمل عدم التفات السائلين في تلك الأخبار، فمن الممكن السؤال أيضاً، لاحتمال عدم إمضاء الشارع هذه الطريقـة، وعلى هذا يجب أن يؤخذ بإطلاق الأخبار.
وقد أيّد ما أفاده بروايتين:
إحداهما: ما ورد في روايـة الحميري عن الحجّـة ـ صلوات اللّه وسلامـه عليـه ـ من قولـه (عليه السلام) في جواب مكاتبتـه:
«في ذلك حديثان، أمّا أحدهما: فإذا انتقل من حالـة إلى اُخرى فعليـه التكبير، وأمّا الآخر: فإنّـه روي أنّـه إذا رفع رأسـه من السجدة الثانيـة وكبّر ثمّ جلس ثمّ قام فليس عليـه في القيام بعد
(الصفحة 335)
القعود تكبير، وكذلك التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى، وبأيّهما أخذت من باب التسليم كان صواباً»(1)، فإنّـه (عليه السلام) أمر بجواز الأخذ بكلّ من الخبرين، مع أنّ الثاني أخصّ مطلقاً من الأوّل.
ثانيتهما: روايـة علي بن مهزيار قال: قرأت في كتاب لعبد اللّه بن محمّد إلى أبيالحسن (عليه السلام): اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبيعبداللّه (عليه السلام) في ركعتي الفجر في السفر، فروى بعضهم: صلّها في المحمل. وروى بعضهم: لا تصلّها إلاّ على الأرض؟
فوقّع (عليه السلام):
«موسّع عليك بأيّـة عملت»(2). فإنّـه (عليه السلام) أمر بجواز الأخذ لكلّ من الخبرين، مع أنّهما من قبيل النصّ والظاهر، لأنّ الاُولى نصّ في الجواز، والثانيـة ظاهرة في عدمـه، لإمكان حملها على أنّ إيقاعها على الأرض أفضل، مع أنّـه (عليه السلام)أمر بالتخيـير(3)، انتهى.
ويرد عليهما:
أنّ التحيّر الابتدائي الزائـل بمجرّد التأمّل والتوجّـه الثانوي لا يوجب السؤال عن حكم العامّ والخاصّ، خصوصاً بعد عدم كون السؤال عن خصوص مورد تكون النسبـة فيـه بين الدليلين الواردين فيـه العموم والخصوص، بل كان السؤال عن مطلق الخبرين المتعارضين المنصرف هذا العنوان إلى ما يكون متعارضاً عند عامّـة الناس وعرف أهل السوق.
- 1 ـ الاحتجاج 2: 596، وسائل الشيعـة 27: 121، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب9، الحديث39.
- 2 ـ تهذيب الأحكام: 3: 228 / 583، وسائل الشيعـة 27: 122، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب9، الحديث44.
- 3 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 679 ـ 680.