(الصفحة 372)
وبين قولـه: لا تكرم النحويـين من العلماء العموم من وجـه أيضاً، كما لايخفى.
هذا كلّـه فيما إذا ورد عامّ وخاصّان، وقد عرفت أنّ صوره ثلاث.
إذا ورد عامّان من وجه وخاصّ
وأمّا الصورة الرابعـة: فهو ما إذا ورد عامّان من وجـه وخاصّ، فإن كان مفاد الخاصّ إخراج مورد افتراق أحد العامّين تنقلب النسبـة إلى العموم المطلق، كما إذا ورد بعد قولـه: أكرم النحويّين، ولا تكرم الصرفيـين، قولـه: ويستحبّ إكرام النحوي غير الصرفي، فإنّـه حينئذ يختصّ قولـه: لا تكرم النحويّين بالنحويّين، من الصرفيـين فتنقلب النسبـة بينـه وبين قولـه: لا تكرم الصرفيّين إلى العموم المطلق، وإن كان مفاد الخاصّ إخراج مورد الاجتماع تنقلب النسبـة بين العامّين إلى التباين، كما هو واضح.
إذا ورد عامّان متباينان وخاصّ
والصورة الخامسة: ماإذا ورد دليلان متعارضان بالتباين، فقد يرد دليل يوجب انقلاب النسبة من التباين إلى العموم المطلق، وقد يوجب انقلابهما إلى العموم من وجه.
فالأوّل كقولـه: أكرم العلماء، وقولـه: لا تكرم العلماء، ثمّ ورد دليل ثالث وخرج عدول العلماء عن قولـه: لا تكرمهم، فإنّـه حينئذ تنقلب النسبـة إلى العموم المطلق.
والثاني: كما إذا ورد في المثال دليل رابع وخصّ قولـه: أكرم العلماء، بالفقهاء، فإنّ النسبـة بينـه بعد تخصيصـه بالفقهاء وبين قولـه: لا تكرم العلماء بعد تخصيصـه بماعدا العدول هو العموم من وجـه، كما هو واضح.
(الصفحة 373)
الفصل السادس
في عدم شمول أخبار العلاج للعامّين من وجه
قد عرفت(1) أنّ موضوع البحث في المقام هو الخبران المتعارضان، وأنّ الروايات الواردة في هذا الباب موردها هو المتعارضان أو المختلفان عنواناً أو مصداقاً، بمعنى أنّـه ورد في بعضها عنوان الاختلاف والمختلفين، وفي بعضها مصداق هذا العنوان، مثل ما ورد في بعضها من قول السائل في بيان الخبرين الواردين:
«أحدهما يأمر والآخر ينهى»(2).
ولا إشكال في تحقّق هذين العنوانين في الدليلين المتعارضين، مثل ما إذا دلّ أحدهما على وجوب إكرام جميع العلماء، والآخر على حرمـة إكرام جميعهم.
كما أنّـه لا إشكال في عدم تحقّقهما في مثل: أكرم العلماء، ولا تكرم الجهّال، ولا في عدمـه في العموم والخصوص المطلق إذا كان بينهما جمع عقلائي بحيث لم يكن تخصيصـه بـه مستهجناً ولم يعدّ عندهم من المتعارضين.
إنّما الإشكال في العامّ والخاصّ المطلق مع عدم كون الجمع بينهما مقبولا عند العقلاء، وكذا في العموم والخصوص من وجـه، وكذا في المتعارضين بالعرض، كما في الدليلين اللذين علم بكذب أحدهما من غير أن يكونا بأنفسهما متناقضين، كما إذا دلّ دليل على وجوب صلاة الجمعـة، يوم الجمعـة ودليل آخر
- 1 ـ تقدّم في الصفحـة 319.
- 2 ـ وسائل الشيعـة 27: 108، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب9، الحديث5.
(الصفحة 374)
على وجوب صلاة الظهر ذلك اليوم، وعلم بعدم كون الواجب منهما إلاّ واحداً، وكما فيما إذا ورد عامّ وخاصّان متباينان مثلا وكان تخصيصـه بكليهما مستلزماً للاستهجان، فإنّك عرفت في الفصل المتقدّم أنّ التعارض إنّما هو بين الخاصّين لا بينهما وبين العامّ.
غايـة الأمر أنّ التعارض بينهما تعارض عرضي، لعدم تناقضهما في حدّ نفسهما أصلا، وكذا الإشكال في المتعارضين بلازمهما بأن لم يكن الدليلان متعارضين أصلا إلاّ من حيث لازم مدلولهما.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ الظاهر شمول تلك الأخبار الواردة في المتعارضين أو المختلفين للعامّ والخاصّ المطلق اللذين لم يكن بينهما جمع عقلائي مقبول عندهم، وذلك لأنّـه بعدما لم يكن الجمع بينهما مقبولا عند العقلاء فلا محالـة يكونان عندهم متعارضين، وقد عرفت سابقاً(1) أنّ المرجع في تشخيص هذا العنوان كسائر العناوين المأخوذة موضوعاً للأحكام الشرعيّـة هو العرف والعقلاء، والمفروض أنّهم يرونهما متعارضين.
وأمّا العامّان من وجـه فالظاهر عدم شمول تلك الأخبار لهما، لعدم كونهما متعارضين عند العقلاء بعد كونهما عنوانين متغايرين متعلّقين للحكم. غايـة الأمر أنّـه اتّفق اجتماع ذلكما العنوانين في بعض الموارد.
هذا مضافاً إلى أنّ الجواب الوارد فيها بطرح ما خالف الكتاب، أو مـا وافق العامّـة يشهد بخـروج العامّين مـن وجـه، لأنّـه لا وجـه لطرح شيء منهما. غايـة الأمر إخراج مورد الاجتماع عن تحت واحـد منهما لا طرحـه بالكلّيـة،
- 1 ـ تقدّم في الصفحـة 333.
(الصفحة 375)
وإذا لم يكـن العامّان مـن غير وجـه مشمولا لتلك الأخبار فعـدم شمولهما للمتعارضين بالعرض بكلا قسميـه وكـذا للمتعارضين باللازم بطريق أولـى، كما لايخفى.
ثمّ إنّـه يظهر من تقريرات المحقّق النائيني (قدس سره)
في آخر هذا الباب أنّـه التزم بشمول الأخبار العلاجيّـة للعامّين من وجـه أيضاً، ولكنّ الفاضل المقرّر ذكر قبل ذلك في الحاشيـة أنّ عنوان المخالفـة ظاهر في المخالفـة بالتباين، ولا يشمل العامّين من وجـه(1)، فإن كان هذا أيضاً تقريراً لشيخـه (قدس سره)
ولم يكن من عند نفسـه يلزم التهافت والمناقضـة في كلامـه (قدس سره)
، كما لايخفى.
هل المرجّحات جارية في العامّين من وجه أم لا؟
وكيف كان: فعلى تقدير الشمول فهل يجري فيـه جميع المرجّحات الصدوريّـة والجهتيّـة والمضمونيّـة، أو يختصّ بخصوص الأخيرتين ولا يجوز الرجوع فيهما إلى المرجّحات الصدوريّـة؟ صرّح المحقّق النائيني بالثاني، واستدلّ عليـه: بأنّ التعارض في العامّين من وجـه إنّما يكون في بعض مدلولهما وهو مادّة الاجتماع فقط. ومع هذا الفرض لا وجـه للرجوع إلى المرجّحات الصدوريّـة، لأنّـه إن اُريد من الرجوع إليها طرح ما يكون راويـه غير أعـدل أو غير أصدق مثلا، فهو ممّا لا وجـه لـه، لأنّـه لا معارض لـه في مـادّة الافتراق، وإن اُريد طرحـه في خصوص مادّة الاجتماع فهو غير ممكن، لأنّ الخبر الواحـد لا يقبل التبعيض من حيث الصدور.
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 793، الهامش1.
(الصفحة 376)
ودعوى أنّ الخبر الواحد ينحلّ إلى أخبار متعدّدة حسب تعدّد أفراد الموضوع ـ كما هو الشأن في جميع القضايا الحقيقيّـةـ واضحـة الفساد; لأنّ الانحلال في تلك القضايا لا يقتضي تعدّد الروايـة بل ليس في البين إلاّ روايـة واحدة، كما لايخفى(1)، انتهى ملخّص ما أفاده على ما في التقريرات.
ويرد عليـه: أنّ دعوى عدم إمكان التبعيض إن كان المراد منها عدم إمكانـه عقلا فهي ممنوعـة في محيط التشريع والتعبّد، ضرورة أنّـه لا مانع في ذلك المحيط من التعبّد بمثل ذلك.
ألا ترى أنّـه من المسلّم عندهم عدم حجّيـة الاُصول المثبتـة، ومرجعها إلى عدم ثبوت اللوازم والملزومات العقليّـة والعاديّـة، مع أنّ التفكيك بينهما في عالم التكوين مخالف مع فرض اللزوم، وكذا التعبّد بأحد المتلازمين لا يستلزم التعبّد بالآخر وإن كانا متلازمين في الواقع، فالتعبّد بصدور الخبر الواحد من جهـة دون اُخرى لا مانع منـه في محيط التشريع وإن كان بحسب الواقع إمّا صادراً بتمامـه وإمّا غير صادر كذلك.
وإن كـان المـراد منها عـدم إمكانـه عرفـاً ومـرجعـه إلى كونـه خـلاف ظاهـر الأخبـار العلاجيـة الـدالّـة علـى طـرح الخبـر المـرجـوح، لأنّ المنسبق إلـى الـذهن منها هو طرح الخبر المرجـوح في تمام مدلولـه، فنقول: لا نسلّم كـون الترجيح فـي المتعارضين بالعموم والخصوص مـن وجـه مرجعـه إلى ذلك، لأنّ الأخـذ بالراجح منهما لا يلازم الحكم بعدم صدور الآخر، بل يمكن أنيكون صادراً.
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 792 ـ 794.