(الصفحة 488)حال الفتوى المستندة إلى الاُصول
وأمّا إذا استند إلى الاُصول كأصالتي الطهارة والحلّيـة في الشبهات الحكميّـة، وكالاستصحاب فيها، وكحديث الرفع، فالظاهر هو الإجزاء مع اضمحلال الاجتهاد.
أمّا في أصالتي الطهارة والحلّيـة
،
فلأنّ الظاهر من دليلهما هو جعل الوظيفـة الظاهريّـة لدى الشكّ في الواقع، فإنّ معنى قولـه:
«كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّـه قذر»(1) و
«كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّـه حرام بعينـه»(2) ليس أنّـه طاهر وحلال واقعاً حتّى تكون النجاسـة والحرمـة متقيّدتين بحال العلم بهما، ضرورة أنّـه التصويب الباطل، ولا معنى لجعل المحرزيّـة والكاشفيـة للشكّ مع كونـه خلاف أدلّتهما، ولا لجعلهما لأجل التحفّظ على الواقع، بل الظاهر من أدلّتهما هو جعل الطهارة والحلّيـة الظاهريتين، ولا معنى لهما إلاّ تجويز ترتيب آثار الطهارة والحلّيـة على المشكوك فيـه، ومعنى تجويز ترتيب الآثار تجويز إتيان ما اشترط فيـه الطهارة والحلّيـة مع المشكوك فيـه، فيصير المأتي بـه معهما مصداق المأمور بـه تعبّداً، فيسقط أمره.
فإذا دلّ الدليل على لزوم إتيان الصلاة مع طهارة الثوب، ثمّ شكّ في طهارة
- 1 ـ تهذيب الأحكام 1: 284 / 832، وسائل الشيعـة 3: 467، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب37، الحديث4.
- 2 ـ الكافي 5: 313 / 40، وسائل الشيعـة 17: 89، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب بـه، الباب4، الحديث4، مع اختلاف يسير.
(الصفحة 489)
ثوبـه، دلّ قولـه: «كلّ شيء طاهر» ـ الذي يرجع إلى جواز ترتيب الطهارة على الثوب المشكوك فيـه ـ على جواز إتيان الصلاة معـه وتحقّق مصداق الصلاة بـه، فإذا تبدّل شكّـه بالعلم لا يكون من قبيل كشف الخلاف كما ذكرنا في الأمارات(1)، لأنّها كواشف عن الواقع، فلها واقع تطابقـه أو لا تطابقـه، بخلاف مؤدّى الأصلين، فإنّ مفاد أدلّتهما ترتيب آثار الطهارة أو الحلّيـة بلسان جعلهما، فتبديل الشكّ بالعلم من قبيل تبديل الموضوع لا التخلّف عن الواقع، فأدلّتهما حاكمـة على أدلّـة جعل الشروط والموانع في المركّبات المأمور بها.
وبالجملـة: إذا أمر المولى بإتيان الصلاة مع الطهارة وأجاز الإتيان بها في ظرف الشكّ مع الثوب المشكوك فيـه بلسان جعل الطهارة، وأجاز ترتيب آثار الطهارة الواقعيّـة عليـه، ينتج جواز إتيان الصلاة المأمور بها مع الطهارة الظاهريّـة ومعاملـة المكلّف معها معاملـة الطهارة الواقعيّـة، فيفهم العرف من ذلك حصول مصداق المأمور بـه معها، فيسقط الأمر، وبعد العلم بالنجاسـة لا يكون من قبيل كشف الخلاف كما في الأمارات الكاشفـة عن الواقع.
ولا يبعد أن يكون الأمر كذلك في الاستصحاب
،
فإنّ الكبرى المجعولـة فيـه وهي قولـه:
«لا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً»(2) ليس مفادها جعل اليقين أمارة بالنسبـة إلى زمان الشكّ، ضرورة عدم كاشفيّتـه بالنسبـة إليـه عقلا، لامتناع كونـه طريقاً إلى غير متعلّقـه، ولا معنى لجعلـه طريقاً إلى غيره، فلا يكون
- 1 ـ تقدّم في الجزء الأوّل: 422 ـ 423.
- 2 ـ تهذيب الأحكام 1: 421 / 1335، وسائل الشيعـة 3: 466، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب37، الحديث1.
(الصفحة 490)
الاستصحاب من الأمارات، بل ولا يكون جعلـه للتحفّظ على الواقع كإيجاب الاحتياط في الشبهـة البدويّـة في الأعراض والدماء، فإنّـه أيضاً خلاف مفادها وإن احتملناه بل رجّحناه سابقاً، بل الظاهر منها أنّـه لا ينبغي للشاكّ الذي كان على يقين رفع اليد عن آثاره، فيجب عليـه ترتيب آثاره، فيرجع إلى وجوب معاملـة بقاء اليقين الطريقي معـه في زمان الشكّ، وهو مساوق عرفاً لتجويز إتيان المأمور بـه المشروط بالطهارة الواقعيّـة مثلا مع الطهارة المستصحبـة، ولازم ذلك صيرورة المأتي بـه معها مصداقاً للمأمور بـه، فيسقط الأمر المتعلّق بـه.
وبالجملـة: يكون حالـه في هذا الأثر كحال أصالتي الطهارة والحلّ; من حيث كونـه أصلا عمليّاً ووظيفةً في زمان الشكّ، لا أمارة على الواقع، ولا أصلا للتحفّظ عليـه حتّى يأتي فيـه كشف الخلاف، ويدلّ على ذلك صحيحـة زرارة الثانيـة(1) حيث حكم فيها بغسل الثوب وعدم إعادة الصلاة، معلّلا بأنّـه كان على يقين في طهارتـه فشكّ، وليس ينبغي لـه أن ينقض اليقين بالشكّ.
وكذا الحال فيما إذا كان المستند حديث الرفع
،
فإنّ قولـه:
«رفع ما لايعلمون»(2) ـ بناءً على شمولـه للشبهات الحكميّـة والموضوعيّـة ـ لسانـه رفع الحكم والموضوع باعتبار الحكم، لكن لابدّ من رفع اليد عن هذا الظاهر حتّى بالنسبـة إلى الشبهات الموضوعيـة، لأنّ لازمـه طهارة ما شكّ في نجاستـه
- 1 ـ تهذيب الأحكام 1: 421 / 1335، وسائل الشيعـة 3: 466، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب37، الحديث1.
- 2 ـ الخصال: 417 / 9، التوحيد: 353 / 24، وسائل الشيعـة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب56، الحديث1.
(الصفحة 491)
موضوعاً واقعاً، ولا يمكن الالتزام بطهارة ملاقيـه في زمان الشكّ بعد كشف الخلاف، فلابدّ من الحمل على البناء العملي على الرفع وترتيب آثار الرفع الواقعي، فإذا شكّ في جزئيـة شيء في الصلاة أو شرطيّتـه لها أو مانعيّتـه فحديث الرفع يدلّ على رفع الجزئيّـة والشرطيّـة والمانعيّـة، فحيث لا يمكن الالتزام بالرفع الحقيقي لا مانع من الالتزام بالرفع الظاهري، نظير الوضع الظاهري في أصالتي الطهارة والحلّيـة، فيرجع إلى معاملـة الرفع في الظاهر وجواز إتيان المأمور بـه كذلك، وصيرورة المأتي بـه مصداقاً للمأمور بـه بواسطـة حكومـة دليل الرفع على أدلّـة الأحكام.
فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ التحقيق هو التفصيل بين الأمارات والاُصول كما عليـه المحقّق الخراساني (رحمه الله)(1).
هذا كلّـه بحسب مقام الإثبات وظهور الأدلّـة، وأمّا بحسب مقام الثبوت فلابدّ من توجيهـه بوجـه لا يرجع إلى التصويب الباطل.
ثمّ إنّـه ظهر ممّا ذكرنا أنّ القائل بالإجزاء لا يلتزم بالتصرّف في أحكام المحرّمات والنجاسات، ولا يقول بحكومـة أدلّـة الاُصول على أدلّـة الأحكام الواقعيّـة التي هي في طولها، وليس محطّ البحث في باب الإجزاء بأدلّـة اُصول الطهارة والحلّيـة والاستصحاب هو التضيـيق أو التوسعـة في أدلّـة النجاسات والمحرّمات حتّى يقال: إنّ الأمارات والاُصول وقعت في رتبـة إحراز الأحكام الواقعيّـة، والحكومـة فيها غير الحكومـة بين الأدلّـة الواقعيّـة بعضها مع بعض، وإنّ لازم ذلك هو الحكم بطهارة ملاقي النجس الواقعي إذا لاقى في زمان الشكّ...
(الصفحة 492)
وغير ذلك ممّا وقع من بعض الأعاظم على ما في تقريرات بحثـه(1)، بل محطّ البحث هو أنّ أدلّـة الاُصول الثلاثـة هل تدلّ بحكومتها على أدلّـة الأحكام على تقحّق مصداق المأمور بـه تعبّداً حتّى يقال بالإجزاء أم لا؟
هذا مع بقاء النجاسات والمحرّمات على ما هي عليها من غير تصرّف في أدلّتها، فالشكّ في الطهاره والحلّيـة بحسب الشبهـة الحكميّـة إنّما هو في طول جعل النجاسات والمحرّمات، لا في طول جعل الصلاة مشروطةً بطهارة ثوب المصلّي وبكونـه من المأكول، والخلط بين المقامين أوقعـه فيما أوقعـه، وفي كلامـه محالّ أنظار تركناها مخافـة التطويل.
ثمّ إنّ هذا كلّـه حال المجتهد بالنسبـة إلى تكاليف نفسـه.
تكليف المقلّد مع تبدّل رأي مجتهده
وأمّا تكاليف مقلّديـه فهل هو كالمجتهد في التفصيل بين كون رأي المقلّد مستنداً إلى الأمارات، وبين كونـه مستنداً إلى الاُصول، بأن يقال: إنّ المجتهد يعيّن وظائف العباد مطلقاً واقعاً وظاهراً، فكما أنّ في وظائفـه الظاهريّـة تحكم بالإجزاء بواسطـة أدلّـة الاُصول وحكومتها على الأدلّـة، فكذا في تكاليف مقلّديـه طابق النعل بالنعل أو لا؟ بأن يقال: إنّ المقلّد مستنده في الأحكام مطلقاً هو رأي المجتهد، وهو أمارة إلى تكاليفـه بحسب ارتكازه العقلائي، والشرع أيضاً أمضى هذا الارتكاز والبناء العملي العقلائي، وليس مستند المقلّدين في العمل هو
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 249 ـ 251.