(الصفحة 473)
فصل
في اشتراط الحياة في المفتي
اختلفوا في اشتراط الحياة في المفتي على أقوال، ثالثها التفصيل بين البدوي والاستمراري، لا إشكال في أنّ الأصل الأوّلي حرمـة العمل بما وراء العلم، خرج عنـه العمل بفتوى الحي وبقي غيره، فلابدّ من الخروج عنـه من دليل، ولمّا كان عمدة ما يمكن أن يقول عليـه هو الاستصحاب فلابدّ من تقريره وتحقيقـه.
التمسّك بالاستصحاب على جواز تقليد الميّت
فنقول: قد قرّر الأصل بوجوه:
منها: أنّ المجتهد الفلاني كان جائز التقليد لكلّ مكلّف عامّي في زمان حياتـه، فيستصحب إلى بعد موتـه.
ومنها: أنّ الأخذ بفتوى المجتهد الفلاني كان جائزاً في زمان حياته فيستصحب.
ومنها: أنّ لكلّ مقلّد جواز الرجوع إليـه في زمان حياتـه وبعدها كما كان، إلى غير ذلك من الوجوه المتقاربـة.
(الصفحة 474)
وقد يستشكل بأنّ جواز التقليد لكلّ بالغ عاقل إن كان بنحو القضيّـة الخارجيّـة بمعنى أنّ كلّ مكلّف كان موجوداً جاز لـه الرجوع إليـه، فهو لا يفيد بالنسبـة إلى الموجودين بعد حياتـه في الأعصار المتأخّرة. وبعبارة اُخرى: الدليل أخصّ من المدّعى.
وإن كان بنحو القضيّـة الحقيقيّـة، أي «كلّ من وجد في الخارج وكان مكلّفاً في كلّ زمان كان لـه تقليد المجتهد الفلاني» فإن اُريد إجراء الاستصحاب التنجيزي فلا يمكن، لعدم إدراك المتأخّرين زمان حياتـه، فلا يقين بالنسبـة إليهم، وإن كان بنحو التعليق فإجراء الاستصحاب التعليقي بهذا النحو محلّ منع.
وفيـه: أنّ جعل الأحكام على نحو القضيّـة الحقيقيّـة ليس معناه أنّ لكلّ فرد من مصاديق العنوان حكماً مجعولا برأسـه، ومعنى الانحلال إلى الأحكام ليس ذلك، بل لا يكون في القضايا الحقيقيّـة إلاّ جعل واحد لعنوان واحد، لا جعلات كثيرة بعدد أنفاس المكلّفين، لكن ذاك الجعل الواحد يكون حجّـة بحكم العقل والعقلاء على كلّ من كان مصداقاً للعنوان، مثلا قولـه تعالى:
(وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيتِ مَن استَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلا )(1) ليس إلاّ جعلا واحداً لعنوان واحد هو
(مَن استَطَاعَ )، ولكنّـه حجّـة على كلّ مكلّف يستطيع.
فحينئذ لو علمنا بأنّ الحجّ كان واجباً على من استطاع إليـه سبيلا وشككنا في بقائـه من أجل طروّ النسخ مثلا، فلا إشكال في جريان استصحاب الحكم المتعلّق بالعنوان لنفس ذلك العنوان، فيصير بحكم الاستصحاب حجّـة على كلّ من كان مصداقـه، ولهذا لا يستشكل أحد في استصحاب عدم النسخ مع ورود هذا
(الصفحة 475)
الإشكال بعينـه عليـه، بل على جميع الاستصحابات الحكميـة.
والسرّ فيـه ما ذكرنا من أنّ الحكم على العنوان حجّـة على المعنونات، فاستصحاب وجوب الحجّ على عنوان «المستطيع» جار بلا إشكال كاستصحاب جواز رجوع كلّ مقلّد إلى المجتهد الفلاني، وسيأتي كلام في هذا الاستصحاب فانتظر.
إشكال عدم بقاء موضوع الاستصحاب والجواب عنه
فالعمدة في المقام هو الإشكال المعروف، أي عدم بقاء الموضوع.
وتقريره: أنّـه لابدّ في الاستصحاب من وحدة القضيّـة المتيقّنـة والمشكوك فيها، وموضوع القضيّـة هو «رأي المجتهد وفتواه» وهو أمر قائم بنفس الحي، وبعد موتـه لا يتصف بحسب نظر العرف المعتبر في المقام بعلم ولا ظنّ، ولا رأي لـه بحسبـه ولا فتوى، ولا أقلّ من الشكّ في ذلك، ومعـه أيضاً لا مجال للاستصحاب، لأنّ إحراز الموضوع شرط في جريانـه، ولا إشكال في أنّ مدار الفتوى هو الظنّ الاجتهادي، ولهذا يقع المظنون بما هو كذلك وسطاً في قياس الاستنباط، ولا إشكال في عدم إحراز الموضوع، بل في عدم بقائـه.
وفيـه: أنّ مناط عمل العقلاء على رأي كلّ ذي صنعـة في صنعتـه هو أماريّتـه وطريقيّتـه إلى الواقع، وهو المناط في فتوى الفقهاء، سواء كان دليل اعتباره بناء العقلاء المحض أو الأدلّـة اللفظيّـة، فإنّ مفادها أيضاً كذلك، ففتوى الفقيـه بأنّ صلاة الجمعـة واجبـة طريق إلى الحكم الشرعي وحجّـة عليـه، وإنّما تـتقوّم طريقيّتـه وطريقيّـة كلّ رأي خبير إلى الواقع إذا أفتى وأخبر بنحو الجزم،
(الصفحة 476)
لكن الوجود الحدوثي للفتوى بنحو الجزم يوجب كونـه طريقاً إلى الواقع أبداً، ولا ينسلخ عنـه ذلك إلاّ بتجدّد رأيـه أو الترديد فيـه، وإلاّ فهو طريق إلى الواقع، كان صاحب الرأي حيّاً أو ميّتاً، فإذا شككنا في جواز العمل بـه من حيث احتمال دخالـة الحياة شرعاً في جوازه فلا إشكال في جريان الاستصحاب ووحدة القضيّـة المتيقّنـة والمشكوك فيها، فرأي العلاّمـة وقولـه وكتاب «قواعده» كلٌّ كاشف عن الأحكام الواقعيّـة، ووجودها الحدوثي كاف في كونـه طريقاً، وهو المناط في جواز العمل شرعاً ولدى العقلاء.
وإن شئت قلت: جزم العلاّمـة أو إظهار فتواه جزماً جعل كتابـه حجّةً وطريقاً إلى الواقع وجائز العمل في زمان حياتـه، ويشكّ في جواز العمل على طبقـه بعد موتـه، فيستصحب.
والعجب من الشيخ الأعظم(1) حيث اعترف بأنّ الفتوى إذا كان عبارة عن نقل الأخبار بالمعنى يتمّ القول بأنّ القول موضوع الحكم ويجري الاستصحاب معـه، مع أنّ حجّيـة الأخبار وطريقيّتها إلى الواقع أيضاً متقوّمتان بجزم الراوي، فلو أخبر أحد الرواة بيننا وبين المعصوم بنحو الترديد، لا يصير خبره أمارة وحجّـة على الواقع ولا جائز العمل، لكن مع إخباره جزماً يصير كاشفاً عنـه وجائز العمل مادام كونـه كذلك، سواء كان مخبره حيّاً أو ميّتاً، مع عدم بقاء جزمـه بعد الموت، لكن جزمـه حين الإخبار كاف في جواز العمل وحجّيـة قولـه دائماً إلاّ إذا رجع عن إخباره الجزمي.
وهذا جار في الفتوى طابق النعل بالنعل، فقول الفقيـه حجّـة على الواقع
- 1 ـ مطارح الأنظار: 260 / السطر6.
(الصفحة 477)
وطريق إليـه كإخبار المخبر، وهو باق على طريقيّتـه بعد الموت، ولو شكّ في جواز العمل بـه لأجل احتمال اشتراط الحياة شرعاً جاز استصحابـه وتمّ أركانـه.
وإن شئت قلت: إنّ جزم الفقيـه أو إظهاره الفتوى على سبيل الجزم واسطـة في حدوث جواز العمل بقولـه وكتابـه، وبعد موتـه نشكّ في بقاء الجواز لأجل الشكّ في كونـه واسطـة في العروض أو الثبوت فيستصحب.
وأمّا ما أفاد من كون الوسط في قياس الاستنباط هو المظنون بما هو كذلك وأنّ المظنون الحرمـة حرام أو مظنون الحكم واجب العمل(1). ففيـه: أنّ إطلاق الحجّـة على الأمارات ليس باعتبار وقوعها وسطاً في الإثبات كالحجّـة المنطقيّـة، بل المراد منها هي كونها منجّزةً للواقع، بمعنى أنّـه إذا قامت الأمارة المعتبرة على وجوب شيء وكان واجباً بحسب الواقع فتركـه المكلّف، تصحّ عقوبتـه ولا عذر لـه في تركـه، وبهذا المعنى تطلق «الحجّـة» على القطع كإطلاقها على الأمارات، بل تطلق على بعض الشكوك أيضاً.
وبالجملـة: الحجّـة في الفقـه ليست هي القياس المنطقي، ولا يكون الحكم الشرعي مترتّباً على ما قام عليـه الأمارة بما هو كذلك ولا المظنون بما هـو مظنون.
فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ استصحاب جواز العمل على طبق رأي المجتهد وفتواه بمعنى حاصل المصدر وعلى طبق كتابـه، الكاشفين عن الحكم الواقعي أو الوظيفـة الظاهريّـة ممّا لا مانع منـه.
لا يقال: بناءً على ما ذكرت يصحّ استصحاب حجّيـة ظنّ المجتهد الموجود
- 1 ـ مطارح الأنظار: 260 / السطر2.