(الصفحة 71)
وأمّا الوجـه الثاني: فلأنّ القطع بعدم العقاب وبوجود المؤمّن ممّا لا يحصل لو اُغمض النظر عن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، ومجرّد سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز والتأثير وصيرورة وجوده كعدمـه لا يجدي ما لم ينضمّ إليـه القاعدة، كيف ولو فرض جواز العقوبـة على خصوصيّـة الوجوب مثلا ولو كانت مجهولـة فمن أين يقطع بعدم العقاب ووجود المؤمّن حينئذ، فهذا القطع إنّما هو بملاحظـة هذه القاعدة.
وأمّا الوجـه الثالث: فلأنّ الحكم بتأخّر رتبـة أدلّـة البراءة عن حكم العقل بالتخيـير بين الفعل والترك ممنوع جدّاً، فإنّ الحكم بالتخيـير إنّما هو بعد ثبوت قبح العقاب على خصوصيّـة الوجوب والحرمـة، لأنّـه لو فرض إمكان العقوبـة على التكليف الوجوبي مثلا وإن كان مجهولا لا يحكم العقل بالتخيـير، فحكمـه بـه إنّما هو بعد ملاحظـة عدم ثبوت البيان على الخصوصيـة وعدم جواز العقوبـة عليها كما عرفت، هذا.
في جريان الأصل الشرعي
وأمّا البراءة الشرعيّـة: فالظاهر بملاحظـة ما ذكرنا في وجـه جريان البراءة العقليّـة جريانها أيضاً، لأنّ التكليف بنوعـه مجهول، فيشملـه مثل حديث الرفع.
ولكن المحقّق النائيني نفى جريانها
، نظراً إلى أنّ مدركها قولـه (صلى الله عليه وآله وسلم):
«رفع ما لا يعلمون»(1). والرفع فرع إمكان الوضع، وفي المقام لا يمكن وضع
- 1 ـ التوحيد: 353 / 24، الخصال: 417 / 9، وسائل الشيعـة 5: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب56، الحديث1.
(الصفحة 72)
الوجوب والحرمة كليهما لا على سبيل التعيـين ولا على سبيل التخيـير، ومع عدم إمكان الوضع لا يعقل الرفع، فأدلّـة البراءة الشرعيّـة لا تعمّ المقام أيضاً(1)، هذا.
ويرد عليـه: أنّ في مورد دوران الأمر بين المحذورين يتمسّك بحديث الرفع مرّتين، تارة لرفع الوجوب المجهول، واُخرى لرفع الحرمـة المجهولـة، ومن الواضح أنّ وضع الوجوب بنفسـه ممّا يمكن، كما أنّ وضع الحرمـة لا استحالـة فيـه. نعم ما لا يمكن وضعـه هو مجموع الوجوب والحرمـة، وهو لا يكون مفاد حديث الرفع، فما يمكن وضعـه يشملـه الحديث، وما لا يشملـه لا يمكن وضعـه.
وأمّا أصالـة الإباحـة
فمحصّل ما أفاده في وجـه عدم جريانها اُمور:
الأوّل: عدم شمول دليلها لصورة دوران الأمر بين المحذورين، فإنّـه يختصّ بما إذا كان طرف الحرمـة الحلّ، كما هو الظاهر من قولـه (عليه السلام):
«كلّ شيء فيـه حلال وحرام فهو لك حلال»(2). وليس في هذا الباب احتمال الإباحـة والحلّ، بل الطرف هو الوجوب.
الثاني: أنّ دليل أصالـة الحلّ يختصّ بالشبهات الموضوعيـة ولا يعمّ الشبهات الحكميّـة.
الثالث: أنّ جعل الإباحـة الظاهريّـة مع العلم بجنس الإلزام لا يمكن، فإنّ أصالـة الإباحـة بمدلولها المطابقي تنافي المعلوم بالإجمال، لأنّ مفاد أصالـة
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 448.
- 2 ـ الفقيـه 3: 216 / 1002، وسائل الشيعـة 17: 87، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب بـه، الباب4، الحديث1.
(الصفحة 73)
الإباحـة الرخصـة في الفعل والترك، وهذا يناقض العلم بالإلزام وإن لم يكن لهذا العلم أثر عملي وكان وجوده كعدمـه لا يقتضي التنجيز، إلاّ أنّـه حاصل بالوجدان ولا يجتمع مع جعل الإباحـة ولو ظاهراً(1)، انتهى.
ويرد عليـه اُمور:
الأوّل: منع ما ذكره في الأمر الثاني من اختصاص دليل أصالـة الحلّ بالشبهات الموضوعيـة، فإنّـه قد مرّ عدم الاختصاص.
الثاني: أنّ ظاهر كلامـه هو كون أصالـة الحلّ متّحداً مع أصالـة الإباحـة، مع أنّ معنى الإباحـة هو تساوي الفعل والترك، ومعنى الحلّيـة هو عدم كون فعلـه محرّماً وممنوعاً، فالحلّيـة تغاير الإباحـة، وما دلّ عليـه النصوص والروايات(2)هي أصالـة الحلّيـة لا الإباحـة، فإنّـه لم يرد في شيء منها الحكم بإباحـة مشكوك الحرمـة أصلا كما لايخفى.
الثالث: أنّ مقتضى ما ذكره أوّلا من عدم شمول دليل أصالـة الإباحـة لصورة دوران الأمر بين المحذورين ينافي ما ذكره أخيراً من أنّ مفاد أصالـة الإباحـة هو الترخيص في الفعل والترك. بيان ذلك: أنّ الترخيص في الفعل لا يعقل بعد كون الترخيص فيـه معلوماً، فإذا شكّ في وجوب الدعاء عند رؤيـة الهلال ـ مثلا ـ فما يمكن أن يدلّ عليـه أدلّـة البراءة بالنسبـة إلى الدعاء عندها هو الترخيص في تركـه، وأمّا الترخيص في الفعل فلا يدلّ عليـه أدلّـة البراءة; لكونـه
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 445.
- 2 ـ وسائل الشيعـة 17: 87، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب بـه، الباب4، الحديث1 و3، و25: 117، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المباحة، الباب61، الحديث1 و7.
(الصفحة 74)
معلوماً، فالترخيص في الفعل إنّما يعقل إذا كان الفعل مشكوك الحرمـة، كما أنّ الترخيص في الترك إنّما يمكن إذا كان الفعل مشكوك الوجوب، ولا يعقل الترخيص في الترك في الأوّل وفي الفعل في الثاني. وحينئذ: فمقتضى ما ذكره أخيراً من أنّ مفاد أصالـة الإباحـة هو الترخيص في الفعل والترك هو أن يكون الفعل مشكوك الحرمـة والوجوب، إذ لا يعقل الترخيص في الفعل مع العلم بعدم الحرمـة ولا في الترك مع العلم بعدم الوجوب، فالترخيص فيهما معاً إنّما هو إذا لم يعلم عدم الحرمـة ولا عدم الوجوب، بل دار الأمر بينهما، كما في المقام، فمفاد كلامـه الأخير هو اختصاص مورد أصالـة الإباحـة التي مرجعها إلى الترخيص في الفعل والترك بصورة دوران الأمر بين المحذورين، إذ لا يعقل الترخيص فيهما معاً في غيرها، ومقتضى كلامـه الأوّل هو اختصاص موردها بغير صورة الدوران بين المحذورين، وهذا تهافت فاحش، فتدبّر.
الرابع: أنّ ما ذكره من منافاة أصالـة الإباحـة بمدلولها المطابقي مع المعلوم بالإجمال محلّ نظر، بل منع; لأنّ ذلك مبني على أن يكون مفاده هو الرخصـة في الفعل والترك معاً، مع أنّ مثل قولـه: «كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّـه حرام» إنّما يدلّ على مجرّد الترخيص في الفعل في مقابل الحرمـة، ولا يدلّ على الترخيص في الفعل والترك معاً حتّى ينافي المعلوم بالإجمال. فمفاد أصالـة الإباحـة بمقتضى دليلها هو مجرّد نفي الحرمـة وجعل الترخيص الظاهري بالنسبـة إلى الفعل، وهذا لا ينافي الوجوب، كما هو واضح.
هذا مضافاً إلى أنّـه على فرض التنافي والمناقضـة لابأس بذلك، لأنّـه كالمناقضـة بين الأحكام الظاهريّـة والأحكام الواقعيـة، فما قيل في الجمع بينهما يقال هنا أيضاً. هذا كلّـه في أصالـة الإباحـة.
(الصفحة 75)
وأمّا الاستصحاب:
فمحصّل ما أفاده (قدس سره)
في وجـه عدم جريانـه أيضاً أنّـه لمّا كان الاستصحاب من الاُصول التنزيليـة فلا يمكن الجمع بين مؤدّاه والعلم الإجمالي، فإنّ البناء على عدم وجوب الفعل وعدم حرمتـه واقعاً ـ كما هو مفاد الاستصحابين ـ لا يجتمع مع العلم بوجوب الفعل أو حرمتـه.
وإن شئت قلت: إنّ البناء على مؤدّى الاستصحابين ينافي الموافقـة الإلتزاميـة فإنّ التصديق بأنّ للّه تعالى في هذه الواقعـة حكماً إلزامياً لا يجتمع مع البناء على عدم الوجوب والحرمـة واقعاً(1)، انتهى.
وفيـه: منع كون الاستصحاب من الاُصول التنزيليـة بهذا المعنى، فإنّـه ليس في شيء من أدلّتـه ما يدلّ أو يشعر بذلك إلاّ ما في صحيحـة زرارة الثالثـة من قولـه (عليه السلام):
«فيبني عليـه»(2) ولكن لا يخفى أنّ المراد بالبناء على المتيقّن هو البناء العملي لا البناء القلبي على أنّ الواقع أيضاً كذلك حتّى ينافي الموافقـة الالتزاميـة على تقدير تسليم لزومها فلابأس بجريان الاستصحابين والبناء العملي على طبقهما، ولا منافاة بينهما وبين العلم الإجمالي بالوجوب أو الحرمـة أصلا، لما مرّ في أصالـة الإباحـة فراجع. إلاّ أن يكون الوجـه في عدم جريان الاُصول في أطراف العلم الإجمالي هو التناقض في أدلّـة الاُصول، فإنّـه حينئذ لا مجال لجريان الاستصحابين، كما لايخفى.
هذا كلّـه مع كون الطرفين مساويـين من حيث المزيّـة والترجيح.
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 449.
- 2 ـ الكافي 3: 351 / 3، وسائل الشيعـة 8: 216، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب10، الحديث3.