(الصفحة 427)
الباب، وذلك لأنّ غايـة الأمر حكم العقل بأنّـه لابدّ من تحفّظ النظام ولزوم الاجتناب عمّا يوجب اختلالـه.
ومن الواضح أنّ هذا المعنى يغاير ثبوت فضيلـة لبعض الناس على الآخر وكون حكمـه نافذاً عليـه ولو كان مخالفاً للواقع، كما لايخفى.
وكيف كان: فلابدّ في هذا الباب من ملاحظـة الشرع، وقد عرفت أنّ مقتضى الدليل الإجمالي في هذا الباب كون المنصوب من جانب الشارع لهذا المنصب هو الفقيـه الجامع لجميع الصفات المذكورة.
الأخبار الدالّة على ثبوت منصب الحكومة والقضاء للفقيه
وأمّا الدليل التفصيلي فهي الروايات الواردة في هذا الباب:
منها:
ـ وهي العمدة ـ مقبولـة عمر بن حنظلـة المتقدّمـة(1)، وهي تدلّ على أنّ التحاكم إلى مثل السلطان أو القاضي الموجودين في زمانهم في حقّ أو باطل تحاكم إلى الطاغوت، وأنّ ما يأخذه بحكمـه إنّما يكون سحتاً وإن كان حقّـه ثابتاً، لأنّـه أخذ بحكم الطاغوت، وإنّما أمر اللّه أن يكفر بـه، وتدلّ على أنّـه لابدّ من النظر في ذلك إلى من كان منكم، أي من الإماميّـة الاثنى عشريّـة ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا.
والظاهر أنّ المراد بروايـة الحديث ليس مجرّد روايـة حديث ولو كان حديثاً واحداً، بل المراد هو كونـه راويـة الحديث ومن كان شأنـه النقل لـه ولو بصورة الفتوى، كما هو المعمول في هذه الأعصار، وأنّ المراد من النظر في
- 1 ـ تقدّم تخريجها في الصفحة 416.
(الصفحة 428)
حلالهم وحرامهم ومعرفـة أحكامهم هو النظر والاجتهاد ومعرفـة الأحكام عن دليل تفصيلي، كما هو شأن الفقيـه، فالمستفاد من الروايـة وجوب الرجوع في المنازعات والمحاكمات إلى الفقيـه والمجتهد، لأنّـه منصوب للحكومـة ومجعول لها من قبل الصادق (عليه السلام) بقولـه:
«فإنّي قد جعلتـه عليكم حاكماً».
نعم، يقع الكلام في أنّ المراد من الحكومـة هل هو مجرّد منصب القضاوة، أو الأعمّ منـه ومن الحكومـة والسلطنـة، بحيث كان للفقيـه السلطنـة التامّـة بالنسبـة إلى جميع الاُمور وكان واجداً لمقامين: مقام القضاوة، ومقام الولايـة والحكومـة؟
والظاهر هو الوجـه الثاني بقرينيـة صدر الروايـة وسؤال السائل، فإنّ قولـه: في رجلين من الأصحاب كان بينهما منازعـة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة، يدلّ على أنّ مراد السائل أعمّ من المنازعات التي يرجع فيها إلى القاضي لأجل فصل الخصومـة وهي المنازعات المشتملـة على المدّعي والمنكر وأمثالها، ومن المنازعات التي يرجع فيها إلى الوالي والحاكم كالمنازعات الواقعـة بين الناس غير ما يشتمل منها على المدّعي والمنكر وشبهـه، فإنّ رفع يد الغاصب مثلا أمر لا يرجع فيـه إلاّ إلى الوالي، ولا شأن للقاضي في مثل هذه الاُمور أصلا. فتعميم السائل التحاكم وتصريحـه بالسلطان والقاضي معاً مع أنّ لكلّ منهما شأناً يغاير شأن الآخر دليل على أنّ المراد من المنازعـة مطلق المنازعات.
وحينئذ فقولـه بعد ذلك: «قلت: فكيف يصنعان؟» مرجعـه إلى أنّـه بعد حرمـة التحاكم إلى السلطان والقاضي الجائرين ما وظيفـة أصحابنا في مطلق المنازعات؟ فحكم الإمام (عليه السلام) بالرجوع إلى الفقيـه. فقولـه (عليه السلام):
«فإنّي قد
(الصفحة 429)
جعلتـه عليكم حاكماً» بملاحظـة صدر الروايـة ظاهر في أنّ المراد من الحكومـة أعمّ من القضاوة والسلطنـة.
فثبت أنّ ا لفقيـه
ثابت لـه ما كان ثابتاً للإمام (عليه السلام) من التصدّي لأمر القضاء ونفوذ حكمـه على الناس في جميع الاُمور.
ويدلّ عليـه أيضاً أنّـه (عليه السلام) جعل التحاكم إليهم في حقّ أو باطل تحاكماً إلى الطاغوت الذي أمر اللّه أن يُكفر بـه، مع أنّ انطباق عنوان الطاغوت على سلطان الجور الذي يرجع إليـه في بعض المنازعات أولى من انطباقـه على القاضي من قبلهم، فهو وإن كان جائراً وطاغوتاً، إلاّ أنّـه من شؤون الوالي والسلطان، وهو الأصل في الطغيان ورأس الضلال كما فسّر بـه الطاغوت في اللغـة.
ومن ذلك يظهر أنّ عمدة النظر في إرجاع الناس إلى الفقيـه من الإماميّـة إلى المنازعات التي كان يرجع فيها إلى السلطان.
نعم لا محيص عن الاعتراف بالدلالـة على ثبوت منصب القضاوة لـه أيضاً، إلاّ أنّـه لا تنحصر دلالـة المقبولـة بذلك، وسؤال السائل بعد ذلك لا يدلّ عليـه بعد عدم كون فهمـه حجّـة، مضافاً إلى احتمال كون السؤال عن بعض الفروع، ألا ترى أنّـه لا إشكال في دلالـة المقبولـة على جواز الرجوع إلى الفقيـه الواحد مع عدم كونـه مورداً لسؤال السائل أيضاً.
وكيف كان فلا إشكال في أنّـه يستفاد من المقبولـة جواز دخالـة الفقيـه في كلّ ما للقاضي والوالي من الشؤون.
ويدلّ عليـه أيضاً روايـة أبيخديجـة قال: بعثني أبوعبداللّه (عليه السلام) إلى أصحابنا فقال:
«قل لهم: إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومـة أو تدارى في شيء من الأخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق، اجعلوا بينكم رجلا قد
(الصفحة 430)
عرف حلالنا وحرامنا، فإنّي قد جعلتـه عليكم قاضياً، وإيّاكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر»(1). لأنّ المراد بالقاضي إنّما هو معناه اللغوي الذي ينطبق على الحكومـة أيضاً، مضافاً إلى أنّ ذكر السلطان الجائر في الذيل مع أنّـه لم يكن الرجوع إليـه إلاّ في بعض المنازعات قرينـة على عدم كون المراد بالقاضي خصوص المتصدّي لمنصب القضاوة، كما لايخفى.
ويدلّ عليـه أيضاً غيرها من بعض الروايات الاُخر:
ومنها:
روايـة أبيالبختري عن أبيعبداللّه (عليه السلام) قال:
«إنّ العلماء ورثـة الأنبياء وذاك أنّ الأنبياء لم يورّثوا درهماً ولا ديناراً، وإنّما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظّاً وافراً...»(2)، الحديث.
وتقريب الاستدلال بهـا أنّ قولـه (عليه السلام):
«العلماء ورثـة الأنبياء» إن كـان في مقام الإنشاء وبصدد جعل الـوراثـة للعلماء فلا خفاء في أنّ مقتضى إطلاق الوراثـة كونهم وارثين للأنبياء في جميع شؤونهم ومناصبهم ماعدا منصب النبوّة. ومـن الواضـح ثبوت كلا المنصبين القضـاوة والحكومـة للأنبياء. وإن كان فـي مقـام الإخبار، كما يؤيّده بعض الأخبار، حيث ذكـر هـذه الجملـة فـي سيـاق الجمل الخبريّـة، فتدلّ أيضـاً على الإطلاق لكـن لا بوضـوح الإنشـاء والجعـل، كمـا لايخفى.
- 1 ـ تهذيب الأحكام 6: 303 / 846، وسائل الشيعـة 27: 139، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب11، الحديث6.
- 2 ـ الكافي 1: 32 / 2، وسائل الشيعـة 27: 78، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب8، الحديث2.
(الصفحة 431)
ومنهـا:
مرسلـة الصـدوق قـال: قـال أميـرالمؤمنين (عليه السلام):
«قـال رسولاللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): اللهمّ ارحم خلفائي، قيل: يا رسولاللّه ومَن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي ويروون حديثي وسنّتي»(1). ورواه في المجالس بزيادة:
«ثمّ يعلّمونها»(2) فإنّ إطلاق الخليفـة على الفقهاء من دون تقيـيدها بجهـة خاصّـة يدلّ على ثبوت منصبي القضاوة والحكومـة معاً لهم.
ومنها:
روايـة الفقـه الرضوي (عليه السلام) أنّـه قال:
«منزلـة الفقيـه في هذا الوقت كمنزلـة الأنبياء في بني إسرائيل»(3).
ومنهـا:
روايـة إسماعيـل بـن جابر عـن أبـي عبداللّه (عليه السلام) أنّـه قـال:
«العلماء اُمناء»(4).
ومنها:
غيـر ذلك ممّـا يستفاد منـه توسعـة دائـرة ولايـة الفقيـه وثبوت جميع المناصب لهم.
ومنها:
غير ذلك ممّا يمكن أن يستفاد منـه ذلك.
هل يكون منصب القضاوة ومقام الحكومة للمتجزّي أم لا؟
ثمّ إنّـه يقع الكلام بعد ذلك في المتجزّي وأنّـه هل يكون منصب القضاوة ومقام الحكومـة ثابتين لـه أم لا؟
- 1 ـ الفقيـه 4: 302 / 915، وسائل الشيعـة 27: 139، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب11، الحديث7.
- 2 ـ الأمالي، الصدوق: 152 / 4.
- 3 ـ الفقـه المنسوب إلى الإمام الرضا (عليه السلام): 338.
- 4 ـ الكافي 1: 33 / 5.