(الصفحة 208)
المطلب الثالث
في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأسباب والمحصّلات
وفي جريان البراءة فيها مطلقاً، وعدم جريانها كذلك، والتفصيل بين ما لو كانت الأسباب عاديّـة أو عقليّـة، وبين ما لو كانت شرعيّـة، أو بين ما لو قيل بكون العلم الإجمالي مقتضياً فتجري، أو علّـة تامّـة فلا تجري، أو بين أن يكون العنوان البسيط الذي هو المأمور بـه ذا مراتب متفاوتـة متدرّج الحصول والتحقّق، وبين ما إذا كان دفعي الحصول والتحقّق عند تحقّق الجزء الأخير من علّتـه، بالجريان في الصورة الاُولى وعدمـه في الصورة الثانيـة، وجوه بل أقوال خمسـة.
وليعلم أوّلا: أنّ مركز البحث ومورد النزاع بينهم هو ما إذا كان المسبّب الذي هو مورد تعلّق الأمر معلوماً بجميع خصوصيّاتـه بحيث لم يكن فيـه ترديد أصلا، بل كان الترديد في السبب المحقّق لـه من حيث مدخليّـة جزء أو شرط في سببيّتـه وترتّب المسبّب عليـه. وأمّا لو كان المسبّب أيضاً مشكوكاً بحيث دار أمره بين السعـة والضيق فهو خارج عن البحث في هذا المقام وداخل في المباحث المتقدّمـة.
وحينئذ فيظهر أنّ الوجـه الأخير الذي اختاره المحقّق العراقي ـ على ما في تقريرات بعض تلامذتـه(1) الراجع إلى التفصيل بين ما لو كان المسبّب عنواناً بسيطاً ذا مراتب متفاوتـة ومتدرّج الحصول وبين ما إذا كان دفعي الحصول، خارج
- 1 ـ نهايـة الأفكار 3: 401.
(الصفحة 209)
عن مورد البحث. فإنّـه لو كان العنوان البسيط ذا مراتب متفاوتـة، فتارة يكون الشكّ في مدخليّـة خصوصيّـة في تحقّق ذلك الأمر البسيط، كما لو فرض الشكّ في اعتبار النيّـة في غسل البدن الذي يؤثّر في حصول الطهارة المأمور بها، واُخرى يكون الشكّ في نفس ذلك الأمر البسيط وأنّـه بأيّـة مرتبـة تعلّق بـه الأمر، فعلى الأوّل لا فرق بينـه وبين ما إذا كان دفعي الحصول أصلا. وعلى الثاني وإن كان بين الصورتين فرق من حيث جريان البراءة وعدمـه، إلاّ أنّ الصورة الاُولى بناءً على هذا لا تكون داخلـة في محلّ البحث، كما عرفت.
إذا ظهر لك ذلك فاعلم: أنّ الأقوى وجوب الاحتياط مطلقاً; لأنّـه بعد تنجّز التكليف وعدم كون المكلّف معذوراً في مخالفتـه من جهـة العلم بـه وبمتعلّقـه يحكم العقل حكماً بتّياً بلزوم العلم بالفراغ عن عهدتـه بالإتيان بكلّ ما يحتمل دخلـه في سببيّـة السبب وترتّب المسبّب عليـه جزءً أو شرطاً، وليس الاقتصار على الأقلّ ـ الذي لا يوجب الإتيان بـه إلاّ مجرّد احتمال تحقّق الامتثال والإتيان بالمأمور بـه ـ إلاّ كالاقتصار على احتمال الإتيان بالمأمور بـه فيما لو احتمل أنّـه لم يأت بشيء من أجزائـه وشرائطـه أصلا.
ومن المعلوم أنّ مقتضى حكم العقل فيـه لزوم إحراز الامتثال، ألا ترى أنّـه لا يكفي لمن احتمل أنّـه لم يصلّ أصلا مجرّد احتمال أنّـه صلّى. نعم بعد خروج الوقت دلّ الدليل النقلي على عدم الاعتناء بهذا الاحتمال في خصوص الصلاة.
ودعوى:
أنّـه بعد الإتيان بما علم مدخليّتـه في السبب لا يعلم ببقاء الأمر حينئذ حتّى يجب عليـه الإتيان بالقيد المشكوك، ضرورة أنّـه يحتمل أن يكون المأتي بـه تمام السبب.
مدفوعـة
بأنّ هذا الاحتمال متحقّق في جميع موارد قاعدة الاشتغال، كما
(الصفحة 210)
هو واضح. والمناط في جريانها هو العلم بتعلّق الأمر وكون المتعلّق معلوماً أيضاً وشكّ في فراغ ذمّتـه عنـه.
وبالجملـة: بعدما علّق الأمر مخلبـه وقامت الحجّـة من المولى على ثبوتـه وعلى تعيـين المكلّف بـه، لا يكون مفرّ من لزوم العلم بتحقّقـه وحصول الامتثال، وهو يقتضي وجوب الاحتياط; بلا فرق بين أن تكون الأسباب عاديّـة أو عقليّـة أو شرعيّـة، وكذا بين أن نقول باقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقـة القطعيـة أو بكونـه علّـة تامّـة، ولا بين أن نقول بإمكان جعل السببيّـة وكذا الجزئيـة والشرطيـة، أو لا نقول بذلك.
ولا فرق أيضاً فيما ذكرنا بين أن نقول بأنّ عدم المأمور بـه المنهي عنـه حسب اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن النقيض متكثّر حسب تكثّر أجزاء محقّقـة، لأنّـه ينعدم بانعدام كلّ واحد منها، أو نقول بأنّـه ليس للمأمور بـه إلاّ عدم واحد، إذ كما أنّـه لا يكون لـه إلاّ وجود واحد كذلك لا يكون لـه إلاّ عدم واحد، وقد مرّت الإشارة إلى ذلك في بعض المقدّمات التي مهّدناها لجريان البراءة في الأقلّ والأكثر في الأجزاء، فراجع(1).
أمّا على القول الثاني: فواضح، لأنّ المنهي عنـه إنّما هو عدم واحد، ولايعلم بتركـه وحصول الامتثال إلاّ بالإتيان بكلّ ما يحتمل دخلـه في المحقّق ـ بالكسر ـ شطراً أو شرطاً، إذ مع الاقتصار على المقدار المعلوم لا يعلم بتحقّق المأمور بـه حتّى يعلم بامتثال النهي بترك المنهي عنـه.
وأمّا على القول الأوّل: فقد يقال بأنّـه لا مانع حينئذ من جريان البراءة،
- 1 ـ تقدّم في الصفحـة 176.
(الصفحة 211)
لأنّ الأمر ينتهي في ظرف حرمـة الترك إلى الأقلّ والأكثر، حيث إنّ ترك المأمور بـه الناشئ من قبل ترك الأقلّ ممّا يعلم تفصيلا حرمتـه واستحقاق العقوبـة عليـه، للعلم بافضائـه إلى ترك المأمور بـه، وأمّا الترك الناشئ من قبل الجزء أو الشرط المشكوك فلا يعلم حرمتـه، لعدم العلم بأدائـه إلى ترك المأمور بـه، فيشكّ في تعلّق النهي عنـه فتجري فيـه أدلّـة البراءة العقليّـة والنقليّـة.
ولكنّـه لا يخفى: أنّـه بناءً على ذلك أيضاً لا مجال لجريان البراءة، لأنّ هذه النواهي المتعلّقـة بأعدام المأمور بـه حيث إنّها لا تكون إلاّ ناشئـة من الأمر المتعلّق بـه، ضرورة أنّها لا تكون نواهي مستقلّـة، لأنّ مباديها إنّما هي المبادئ الموجبـة للأمر فلا محالـة تكون في السعـة والضيق تابعـة للأمر، فلا مجال لإجراء البراءة فيها مع عدم جريانها فيـه، مضافاً إلى أنّـه لو فرض كونها نواهي مستقلّـة فجريان البراءة فيها لا يوجب جواز الاقتصار على الأقلّ بعد كون الأمر حجّـة تامّـة والاشتغال بـه يقيني، ومقتضى حكم العقل لزوم إحراز الامتثال والعلم بإتيان المأمور بـه، وهو لا يحصل إلاّ بضمّ القيد المشكوك إلى السبب.
وممّا ذكرنا ينقدح الخلل فيما أفاده المحقّق العراقي من تسليم جريان البراءة لو كان إضافـة أجزاء المحقّق ـ بالكسر ـ إلى المحقّق ـ بالفتح ـ من قبيل الجهات التقيـيديّـة الموجبـة لتكثّر أعدام المأمور بـه بالإضافـة إليها، حيث إنّـه بتعدّد أجزاء المحقّق حينئذ يتعدّد الإضافات والتقيّدات، وبذلك يتكثّر الأعدام أيضاً، فينتهي الأمر من جهـة حرمـة الترك إلى الأقلّ والأكثر(1)، هذا.
ولكنّك عرفت: عدم الفرق بين المسلكين هنا وعدم ترتّب أثر عليهما في هذا المقام، فتدبّر.
- 1 ـ نهايـة الأفكار 3: 403.
(الصفحة 212)
ثمّ إنّك عرفت أنّـه لا فرق في عدم جريان البراءة في الأسباب والمحقّقات بين كونها عقليّـة، كما إذا أمر بقتل زيد مثلا وتردّد محقّقـه بين أن يكون ضربـة أو ضربتين، أو عاديّـة، كما إذا أمر بتنظيف المسجد وتردّد محصّلـه بين أن يكون مجرّد الكنس أو مع إضافـة رشّ الماء، وبين كونها شرعيّـة كما إذا فرض أنّ المأمور بـه حقيقـة في باب الغسل ـ مثلا ـ هي الطهارة الحاصلـة منـه، وتردّد أمر الغسل بين أن يكون الترتيب بين الأجزاء أو بين الجانبين ـ مثلا ـ معتبراً فيـه أم لا.
ولتوضيح عدم الجريان في الأسباب والمحصّلات الشرعيّـة نقول: إنّ جعل الأسباب والمحصّلات الشرعيّـة وكذا الاُمور الاعتباريـة العقلائيـة كالبيع ونحوه لا يكون معناه كون الأسباب مؤثّرة في حصول المسبّبات تكويناً، بحيث لم يكن قبل تحقّق الأسباب شيء منها، وبعد تحقّقها صارت موجودة في عالم التكوين، وهذا واضح جدّاً.
وكذلك ليس معناه كون الأسباب بعد حصولها مؤثّرة في تحقّق الاعتبار إمّا من الشرع أو من العقلاء، بحيث كان إيجاد «بعتُ» مثلا والتكلّم بهذه اللفظـة بقصد إنشاء البيع علّـة مؤثّرة في تحقّق اعتبار العقلاء، ضرورة أنّ لاعتبارهم مبادئ مخصوصـة وأسباب معيّنـة، ولا يعقل أن يكون قول «بعت» مؤثّراً في نفوس العقلاء بحيث كانوا مجبورين بمجرّد صدوره من المنشئ في اعتبار البيع، كما هو أوضح من أن يخفى.
بل التحقيق: أنّ العقلاء في الأزمنـة المتقدّمـة بعدما رأوا توقّف معاشهم على مثل البيع وأحرزوا الاحتياج إليـه اعتبروا ذلك على سبيل الكلّيـة، فإذا تحقّق في الخارج بيع، يتحقّق حينئذ موضوع اعتبار العقلاء بخروج المبيع عن ملك البائع وانتقالـه إلى ملك المشتري، وكذا الثمن، لا أن يكون تحقّق البيع في الخارج