(الصفحة 486)حال الفتوى المستندة إلى الأمارات
وإن تبدّل من الظنّ المعتبر فإن كان مستنده الأمارات كخبر الثقـة وغيره، فكذلك إذا كانت الأمارة عقلائيّـة أمضاها الشارع، ضرورة أنّ العقلاء إنّما يعملون على ما عندهم كخبر الثقـة والظواهر بما أنّها كاشفـة عن الواقع وطريق إليـه ومن حيث عدم اعتنائهم باحتمال الخلاف، وإمضاء الشارع هذه الطريقـة لا يدلّ على رفع اليد عن الواقعيّات، وتبديل المصاديق الأوّليـة بالمصاديق الثانويّـة أو جعل المصاديق الناقصـة منزلـة التامّـة.
وربّما يقال: إنّ الشارع إذا أمـر بطبيعـة كالصلاة، ثمّ أمـر بالعمل بقول الثقـة أو أجاز المأمور بالعمل بـه، يكون لازمـه الأمر أو الإجازة بإتيان المأمور بـه على طبق ما أدّى إليـه قول الثقـة، ولازم ذلك هو الإجزاء، ففي مثل قولـه:
(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَمسِ إِلى غَسَقِ اللَّيلِ )(1) يكون أمر بصلاتين إلى غسق الليل لا غير، فإذا أمر بالعمل على قول الثقـة فقد أمر بإتيان المأمور بـه بالكيفيـة التي أدّى إليها الأمارة، فلا محالـة يكون المأتي بـه مصداقاً للمأمور بـه عنده، وإلاّ لمّا أمر بإتيانـه كذلك فلا محيص عن الإجزاء، لتحقّق مصداق المأمور بـه وسقوط الأمر.
ولكنّك خبير بأنّ إمضاء طريقـة العقلاء ليس إلاّ لأجل تحصيل الواقعيّات، لمطابقـة الأمارات العقلائيـة نوعاً للواقع، وضعف احتمال تخلّفها عنـه، وفي مثل ذلك لا وجـه لسقوط الأمر إذا تخلّف عن الواقع، كما أنّ الأمر كذلك عند العقلاء،
(الصفحة 487)
والفرض أنّ الشارع لم يأمر تأسيساً. بل وكذا الحال لو أمر الشارع على أمارة تأسيساً وكان لسان الدليل هو التحفّظ على الواقع، فإنّ العرف لا يفهم منـه إلاّ تحصيل الواقع لا تبديلـه بمؤدّى الأمارة.
وأنت إذا راجعت الأدلّـة المستدلّ بها على حجّيـة خبر الثقـة، لترى أنّ مفادها ليس إلاّ إيجاب العمل بـه لأجل الوصول إلى الواقعيات، كالآيات على فرض دلالتها وكالروايات، فإنّها تنادي بأعلى صوتها بأنّ إيجاب العمل على قول الثقـة إنّما هو لكونـه ثقـة وغير كاذب وأنّـه موصل إلى الواقع، وفي مثلـه لا يفهم العرف أنّ الشارع يتصرّف في الواقعيّات على نحو أداء الأمارة.
هذا مع أنّ احتمال التأسيس في باب الأمارات العقلائيـة مجرّد فرض، وإلاّ فالناظر فيها يقطع بأنّ الشارع لم يكن في مقام تأسيس وتحكيم، بل في مقام إرشاد وإمضاء ما لدى العقلاء، والضرورة قاضيـة بأنّ العقلاء لا يعملون على طبقها إلاّ لتحصيل الواقع، وحديث تبديل الواقع بما يكون مؤدّى الأمارة ممّا لا أصل لـه في طريقتهم، فالقول بالإجزاء فيها ضعيف غايتـه.
وأضعف منـه التفصيل بين تبدّل الاجتهاد الأوّل بالقطع فلا يجزي، وبين تبدّلـه باجتهاد آخر فيجزي، بدعوى عدم الفرق بين الاجتهادين الظنّيـين وعدم ترجيح الثاني حتّى يبطل الأوّل، وذلك لأنّ تبدّل الاجتهاد لا يمكن إلاّ مع اضمحلال الاجتهاد الأوّل بالعثور على دليل أقوى أو بالتخطئـة للاجتهاد الأوّل، ومعـه لا وجـه لاعتباره فضلا عن مصادمتـه للثاني.
هذا حـال الفتوى المستند إلى الأمارات.
(الصفحة 488)حال الفتوى المستندة إلى الاُصول
وأمّا إذا استند إلى الاُصول كأصالتي الطهارة والحلّيـة في الشبهات الحكميّـة، وكالاستصحاب فيها، وكحديث الرفع، فالظاهر هو الإجزاء مع اضمحلال الاجتهاد.
أمّا في أصالتي الطهارة والحلّيـة
،
فلأنّ الظاهر من دليلهما هو جعل الوظيفـة الظاهريّـة لدى الشكّ في الواقع، فإنّ معنى قولـه:
«كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّـه قذر»(1) و
«كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّـه حرام بعينـه»(2) ليس أنّـه طاهر وحلال واقعاً حتّى تكون النجاسـة والحرمـة متقيّدتين بحال العلم بهما، ضرورة أنّـه التصويب الباطل، ولا معنى لجعل المحرزيّـة والكاشفيـة للشكّ مع كونـه خلاف أدلّتهما، ولا لجعلهما لأجل التحفّظ على الواقع، بل الظاهر من أدلّتهما هو جعل الطهارة والحلّيـة الظاهريتين، ولا معنى لهما إلاّ تجويز ترتيب آثار الطهارة والحلّيـة على المشكوك فيـه، ومعنى تجويز ترتيب الآثار تجويز إتيان ما اشترط فيـه الطهارة والحلّيـة مع المشكوك فيـه، فيصير المأتي بـه معهما مصداق المأمور بـه تعبّداً، فيسقط أمره.
فإذا دلّ الدليل على لزوم إتيان الصلاة مع طهارة الثوب، ثمّ شكّ في طهارة
- 1 ـ تهذيب الأحكام 1: 284 / 832، وسائل الشيعـة 3: 467، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب37، الحديث4.
- 2 ـ الكافي 5: 313 / 40، وسائل الشيعـة 17: 89، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب بـه، الباب4، الحديث4، مع اختلاف يسير.
(الصفحة 489)
ثوبـه، دلّ قولـه: «كلّ شيء طاهر» ـ الذي يرجع إلى جواز ترتيب الطهارة على الثوب المشكوك فيـه ـ على جواز إتيان الصلاة معـه وتحقّق مصداق الصلاة بـه، فإذا تبدّل شكّـه بالعلم لا يكون من قبيل كشف الخلاف كما ذكرنا في الأمارات(1)، لأنّها كواشف عن الواقع، فلها واقع تطابقـه أو لا تطابقـه، بخلاف مؤدّى الأصلين، فإنّ مفاد أدلّتهما ترتيب آثار الطهارة أو الحلّيـة بلسان جعلهما، فتبديل الشكّ بالعلم من قبيل تبديل الموضوع لا التخلّف عن الواقع، فأدلّتهما حاكمـة على أدلّـة جعل الشروط والموانع في المركّبات المأمور بها.
وبالجملـة: إذا أمر المولى بإتيان الصلاة مع الطهارة وأجاز الإتيان بها في ظرف الشكّ مع الثوب المشكوك فيـه بلسان جعل الطهارة، وأجاز ترتيب آثار الطهارة الواقعيّـة عليـه، ينتج جواز إتيان الصلاة المأمور بها مع الطهارة الظاهريّـة ومعاملـة المكلّف معها معاملـة الطهارة الواقعيّـة، فيفهم العرف من ذلك حصول مصداق المأمور بـه معها، فيسقط الأمر، وبعد العلم بالنجاسـة لا يكون من قبيل كشف الخلاف كما في الأمارات الكاشفـة عن الواقع.
ولا يبعد أن يكون الأمر كذلك في الاستصحاب
،
فإنّ الكبرى المجعولـة فيـه وهي قولـه:
«لا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً»(2) ليس مفادها جعل اليقين أمارة بالنسبـة إلى زمان الشكّ، ضرورة عدم كاشفيّتـه بالنسبـة إليـه عقلا، لامتناع كونـه طريقاً إلى غير متعلّقـه، ولا معنى لجعلـه طريقاً إلى غيره، فلا يكون
- 1 ـ تقدّم في الجزء الأوّل: 422 ـ 423.
- 2 ـ تهذيب الأحكام 1: 421 / 1335، وسائل الشيعـة 3: 466، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب37، الحديث1.
(الصفحة 490)
الاستصحاب من الأمارات، بل ولا يكون جعلـه للتحفّظ على الواقع كإيجاب الاحتياط في الشبهـة البدويّـة في الأعراض والدماء، فإنّـه أيضاً خلاف مفادها وإن احتملناه بل رجّحناه سابقاً، بل الظاهر منها أنّـه لا ينبغي للشاكّ الذي كان على يقين رفع اليد عن آثاره، فيجب عليـه ترتيب آثاره، فيرجع إلى وجوب معاملـة بقاء اليقين الطريقي معـه في زمان الشكّ، وهو مساوق عرفاً لتجويز إتيان المأمور بـه المشروط بالطهارة الواقعيّـة مثلا مع الطهارة المستصحبـة، ولازم ذلك صيرورة المأتي بـه معها مصداقاً للمأمور بـه، فيسقط الأمر المتعلّق بـه.
وبالجملـة: يكون حالـه في هذا الأثر كحال أصالتي الطهارة والحلّ; من حيث كونـه أصلا عمليّاً ووظيفةً في زمان الشكّ، لا أمارة على الواقع، ولا أصلا للتحفّظ عليـه حتّى يأتي فيـه كشف الخلاف، ويدلّ على ذلك صحيحـة زرارة الثانيـة(1) حيث حكم فيها بغسل الثوب وعدم إعادة الصلاة، معلّلا بأنّـه كان على يقين في طهارتـه فشكّ، وليس ينبغي لـه أن ينقض اليقين بالشكّ.
وكذا الحال فيما إذا كان المستند حديث الرفع
،
فإنّ قولـه:
«رفع ما لايعلمون»(2) ـ بناءً على شمولـه للشبهات الحكميّـة والموضوعيّـة ـ لسانـه رفع الحكم والموضوع باعتبار الحكم، لكن لابدّ من رفع اليد عن هذا الظاهر حتّى بالنسبـة إلى الشبهات الموضوعيـة، لأنّ لازمـه طهارة ما شكّ في نجاستـه
- 1 ـ تهذيب الأحكام 1: 421 / 1335، وسائل الشيعـة 3: 466، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب37، الحديث1.
- 2 ـ الخصال: 417 / 9، التوحيد: 353 / 24، وسائل الشيعـة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب56، الحديث1.