(الصفحة 271)
الأمر الثاني
في تعذّر الجزء والشرط
لو علم بجزئيّـة شيء أو شرطيّتـه أو مانعيّـتـه أو قاطعيّـتـه في الجملـة، وشكّ في أنّ اعتباره في المأمور بـه وجوداً أو عدماً هل يختصّ بصورة التمكّن من فعلـه أو تركـه، أو أنّـه يعتبر فيـه مطلقاً، ويترتّب على ذلك وجوب الإتيان بالباقي على الأوّل وسقوط الأمر بالمركّب على الثاني في صورة الاضطرار، فهل القاعدة تقتضي أيّاً منهما؟
تحرير محلّ النزاع
وليعلم: أنّ محلّ الكلام ما إذا لم يكن لدليل اعتبار ذلك الشيء جزءً أو شرطاً إطلاق، وإلاّ فلا إشكال في أنّ مقتضاه سقوط الأمر بالمركّب مع الاضطرار إلى ترك ذلك الشيء، وكذا ما إذا لم يكن لدليل المركّب إطلاق، وإلاّ فلا إشكال في أنّـه يقتضي الإتيان بـه ولو مع الاضطرار إلى ترك بعض أجزائـه أو شرائطـه بناءً على ما هو التحقيق من كون الماهيات المأمور بها موضوعـة للأعمّ من الصحيح، كما تقدّم في مبحث الصحيح والأعمّ(1).
وأمّا لو كان لكلا الدليلين إطلاق، فتارةً يكون لأحدهما تحكيم على الآخر، واُخرى يكونان متعارضين، فعلى الأوّل إن كان التقدّم لإطلاق دليل المركّب
- 1 ـ راجع مناهج الوصول 1: 140 ـ 174.
(الصفحة 272)
فحكمـه حكم ما إذا كان لـه إطلاق، دون دليل الجزء والشرط، وإن كان التقدّم لإطلاق دليل الجزء والشرط فحكمـه حكم ما إذا كان لـه إطلاق دون دليل المركّب.
ولا يخفى: أنّـه لا يكون التقدّم من أحد الجانبين كلّياً، لما عرفت وستعرف من أنّ الحكومـة متقوّمـة بلسان الدليل، ولسان دليل المركّب قد يكون متعرّضاً لحال دليل الجزء أو الشرط كما إذا كان دليل المركّب مثل قولـه: «لا تـترك الصلاة بحال» مثلا، ودليل اعتبار الجزء أو الشرط مثل قولـه: «اركع في الصلاة» أو «اسجد فيها».
وقد يكون دليل اعتبار الجزء متعرّضاً لحال دليل المركّب وحاكماً عليـه كما إذا كان دليل الجزء مثل قولـه:
«لا صلاة إلاّ بفاتحـة الكتاب»(1)، أو
«لاصلاة إلاّ بطهور»(2)، ودليل المركّب مثل قولـه: «أقيموا الصلاة» فإنّـه حينئذ لا إشكال في تقدّم دليل الجزء في هذه الصورة; لأنّـه إنّما يدلّ بظاهره على عدم تحقّق عنوان الصلاة مع كونها فاقدة لفاتحـة الكتاب، ودليل المركّب إنّما يدلّ على وجوب إقامـة الصلاة، كما أنّـه في الصورة الاُولى يكون الترجيح مع دليل المركّب، لأنّ مقتضاه أنّـه لا يجوز تركـه بحال، ومقتضى دليل الجزء مجرّد الأمر بالركوع والسجود في الصلاة مثلا.
- 1 ـ عوالي اللآلي 1: 196 / 2، مستدرك الوسائل 4: 158، كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة، الباب1، الحديث5.
- 2 ـ تهذيب الأحكام 1: 49 / 144، وسائل الشيعـة 1: 365، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب1، الحديث1.
(الصفحة 273)
وبالجملـة: لابدّ من ملاحظـة الدليلين، فقد يكون التقدّم لإطلاق دليل المركّب وقد يكون لإطلاق دليل الجزء.
وأمّا ما أفاده المحقّق النائيني على ما في التقريرات من أنّ إطلاق دليل القيد حاكم على إطلاق دليل المقيّد كحكومـة إطلاق القرينـة على ذيها(1).
فيرد عليـه أوّلا: أنّ ترجيح القرينـة على ذيها ليس لحكومتها عليـه، وإلاّ فيمكن ادّعاء العكس وأنّ ذا القرينـة حاكم عليها، بل ترجيحها عليـه إنّما هو من باب ترجيح الأظهر على الظاهر.
وثانياً: ما عرفت(2) من منع حكومـة إطلاق دليل القيد على إطلاق دليل المقيّد مطلقاً، بل قد عرفت أنّـه قد يكون الأمر بالعكس.
وثالثاً: وضوح الفرق بين المقام وبين باب القرينـة، فإنّ هنا يكون في البين دليلان مستقلاّن، بخلاف باب القرينـة.
وكيف كان: فقد نسب إلى الوحيد البهبهاني (قدس سره)
التفصيل فيما لو كان لدليل القيد إطلاق بين ما إذا كانت القيود مستفادة من مثل قولـه:
«لا صلاة إلاّ بفاتحـة الكتاب»، و
«لا صلاة إلاّ بطهور»، وبين القيود المستفادة من مثل قولـه: «اسجد في الصلاة» أو «اركع فيها»، أو «لا تلبس الحرير فيها» مثلا وأمثال ذلك من الأوامر والنواهي الغيريّـة، فحكم بسقوط الأمر بالمقيّد عند تعذّر القيد في الأوّل دون الثاني(3)، هذا.
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 250.
- 2 ـ تقدّم في الجزء الأوّل: 356 ـ 366.
- 3 ـ اُنظر فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 251.
(الصفحة 274)
ولعلّ مرجع هذا الكلام إلى ما ذكرنا من أنّ لسان دليل الجزء أو الشرط قد يكون بنحو الحكومـة على دليل المركّب كما في الصورة الاُولى، وقد يكون الأمر بالعكس كما في الصورة الثانيـة.
ولكن وجّهـه المحقّق النائيني بما ملخّصـه: أنّ الأمر الغيري المتعلّق بالجزء أو الشرط مقصورة بصورة التمكّن لاشتراط كلّ خطاب بالقدرة على متعلّقـه، فلابدّ من سقوط الأمر بالقيد عند تعذّره، ويبقى الأمر بالباقي. وهذا بخلاف ما لو كان القيد مستفاداً من مثل قولـه:
«لا صلاة إلاّ بفاتحـة الكتاب»، فإنّـه لم يتعلّق أمر بالفاتحـة حتّى يشترط فيـه القدرة عليها، بل إنّما اُفيد ذلك بلسان الوضع لا التكليف، ولازم ذلك سقوط الأمر بالصلاة عند تعذّر الفاتحـة، لعدم التمكّن من إيجاد الصلاة الصحيحـة عند عدم تمكّنـه من الفاتحـة.
وأجاب عنـه بأنّ القدرة إنّما تعتبر في متعلّقات التكاليف النفسيّـة، لكونها طلباً مولويّاً وبعثاً فعليّاً نحو المتعلّق، والعقل يستقلّ بقبح تكليف العاجز، وهذا بخلاف الخطابات الغيريّـة، فإنّـه يمكن أن يقال: إنّ مفادها ليس إلاّ الإرشاد وبيان دخل متعلّقاتها في متعلّقات الخطابات النفسيـة، وفي الحقيقـة الخطابات الغيريّـة في باب التكاليف وفي باب الوضع تكون بمنزلـة الإخبار من دون أن يكون فيها بعث وتحريك حتّى تقتضي القدرة على متعلّقـه.
ثمّ إنّـه لو سلّم الفرق بين الخطابات الغيريّـة في باب متعلّقات التكاليف وفي باب الوضعيّات وأنّها في التكاليف تـتضمّن البعث والتحريك، فلا إشكال في أنّـه ليس في آحاد الخطابات الغيريّـة ملاك البعث المولوي، وإلاّ لخرجت عن كونها غيريّـة، بل ملاك البعث المولوي قائم بالمجموع، فالقدرة إنّما تعتبر أيضاً في المجموع لا في الآحاد، وتعذّر البعض يوجب سلب القدرة عن المجموع، ولازم
(الصفحة 275)
ذلك سقوط الأمر منـه لا من خصوص ذلك البعض(1)، انتهى.
ويرد عليـه أوّلا: أنّ ما أفاده من أنّ الخطابات الغيريّـة في باب التكاليف وفي باب الوضع تكون بمنزلـة الإخبار من دون أن يكون فيها بعث وتحريك فممنوع جدّاً، ضرورة أنّ الأوامر مطلقاً نفسيّـة كانت أو غيريّـة، مولويّـة كانت أو إرشاديّـة إنّما تكون للبعث والتحريك كما مرّت الإشارة إلى ذلك سابقاً.
غايـة الأمر: أنّ الاختلاف بينهما إنّما هو باختلاف الأغراض والدواعي، وأمّا من جهـة البعث والتحريك فلا فرق بينهما أصلا، وحينئذ فيشترط فيـه عقلا القدرة على متعلّقـه، وحيث إنّـه لا قدرة في البين، كما هو المفروض فاللازم سقوطـه وبقاء الأمر بالباقي، بخلاف ما لو كان بمثل قولـه: «لا صلاة إلاّ بفاتحـة الكتاب»، ممّا لا يكون فيـه بعث وتحريك أصلا، فإنّ ظاهره اشتراط الصلاة بالفاتحـة وعدم تحقّقها بدونها، فمع عدم القدرة عليها يسقط الأمر المتعلّق بها، وحينئذ فيتمّ ما أفاده الوحيد (قدس سره)
.
وثانياً: منع ما ذكره من اعتبار القدرة في المجموع لقيام ملاك البعث المولوي بـه، لأنّ البعث مطلقاً مولويّاً كان أو غيريّاً مشروط بالقدرة، وكون المتعلّق في البعث الغيري دخيلا في المطلوب الذاتي جزءً أو شرطاً لا نفس المطلوب الذاتي لا يوجب نفي اعتبار القدرة عليـه، لأنّ اعتبارها إنّما هو لأجل نفس البعث والتحريك، كما هو واضح.
فالإنصاف بطلان هذا الجواب، وكذا فساد أصل التوجيـه. والظاهر أنّ مرجع كلام الوحيد (قدس سره)
إلى ما ذكرناه فتدبّر.
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 251 ـ 253.