(الصفحة 111)
مفسدة ملزمـة. وكذا الحكم في المكروه والمباح، فإنّـه لا يعقل جعل شيء منهما بدلا عن الحرام بعد خلوّ المباح عن المفسدة وعدم بلوغ مفسدة المكروه إلى حدّ التمام الموجب للإلزام. فإذن ينقدح بطلان ما ذكره من أنّ «دعوى أنّـه ليس للشارع...» إلى آخره; لما عرفت من عدم معقوليّـة البدليّـة المقتضيـة لكون البدل واجداً لملاكها، كما لايخفى.
فلو ثبت الإذن في بعض الأطراف فاللازم أن يقال بأنّ في صورة مصادفـة المأذون فيـه للمحرّم الواقعي أنّ الشارع قد رفع اليد عن حكمـه الموجود في البين لمصلحـة أهمّ من مصلحـة الواقع، وهي مصلحـة التسهيل ومفسدة التضيـيق الموجبـة لأن تكون الشريعـة سمحـة سهلـة حتّى يرغب الناس فيها، كما هو الشأن في الترخيص في مطلق الشبهات البدويّـة مع ثبوت الحكم الواقعي في بعض مواردها كما مرّ مراراً فتدبّر.
ولابدّ من التنبيـه على اُمور:
(الصفحة 112)
الأمر الأوّل
تنجيز العلم الإجمالي في التدريجيات
لو كان أطراف العلم الإجمالي ممّا يوجـد تدريجاً فهل يجب الاحتياط أيضاً بالإتيان بجميعها في الشبهات الوجوبيّـة وبتركـه فـي الشبهات التحريميّـة أم لا؟
الظاهر الوجوب; لأنّ التكليف ولو كان مشروطاً بأمر استقبالي بحيث لم يكن متحقّقاً قبل تحقّق الشرط، كما هو الشأن في جميع الواجبات المشروطـة، إلاّ أنّـه لو فرض كونـه معلوماً بالتفصيل لكان اللازم على المكلّف الإتيان بمقدّمات المكلّف بـه التي لا يقدر عليها بعد ثبوت التكليف. ولا يكون المكلّف معذوراً لو لم يفعلها; نظراً إلى أنّ التكليف لم يكن ثابتاً قبل تحقّق الشرط، فكيف يجب على المكلّف تحصيل مقدّماتـه. وبعده وإن تحقّق التكليف إلاّ أنّـه معذور في المخالفـة، لأجل عدم القدرة على فعل متعلّقـه، لأنّ المفروض عدم القدرة على المقدّمات بعد تحقّق الشرط.
وجـه عدم المعذوريّـة: أنّ العقل يحكم بلزوم تحصيل هذه المقدّمات مع العلم بعدم القدرة عليها بعد ثبوت التكليف وإن لم يكن التكليف متحقّقاً بعد، فإذا كان الأمر كذلك فيما لو كان الواجب المشروط معلوماً بالتفصيل فكيف إذا دار الأمر بين كون الوجوب مطلقاً أو مشروطاً؟
وبالجملـة: لا ينبغي الإشكال في وجوب الاحتياط في التدريجيات من
(الصفحة 113)
دون فرق بين أن يكون الأمر دائراً بين المعلّق والمنجّز، وبين أن يكون دائراً بين المطلق والمشروط.
أمّا في الأوّل: فواضح بعدما عرفت من كون التكليف في الواجب المعلّق يكون ثابتـاً قبل وجـود المعلّق عليـه أيضاً، فهو عالـم إجمـالا بتعلّق تكليف فعلي حالي.
غايـة الأمر أنّ المكلّف بـه مردّد بين أن يكون حاليّاً أو استقبالياً، والعقل يحكم بلزوم الاحتياط، لعدم الفرق بينـه وبين الموجودات فعلا.
وأمّا في الثاني: فلما عرفت من أنّ حكم العقل بلزوم تحصيل غرض المولى لا يتوقّف على صدور أمر فعلي من ناحيتـه، بل يحكم بذلك ولو كان التكليف استقباليّاً، بل قد عرفت في بعض المباحث السابقـة أنّ العقل يحكم بلزوم تحصيل الغرض ولو لم يكن في البين أمر أصلا، كما لايخفى.
(الصفحة 114)
الأمر الثاني
حكم الاضطرار إلى أحد أطراف العلم الإجمالي
لو اضطرّ إلى أحد الأطراف فتارة يكون الاضطرار إلى طرف معيّن، واُخرى يكون إلى واحد من الأطراف غير معيّن، وعلى التقديرين قد يكون الاضطرار قبل تعلّق التكليف والعلم بـه، وقد يكون بعدهما، وقد يكون بعد واحد منهما وقبل الآخر، وقد يكون مقارناً لهما أو لأحدهما، فهاهنا صور:
فنقول: أمّا لو كان الاضطرار إلى طرف معيّن وكان الاضطرار قبل تعلّق التكليف أو بعده وقبل العلم فالظاهر عدم وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر، سواء قلنا بأنّ الاضطرار من حدود التكليف وقيوده بحيث لا يكون فعليّاً مع الاضطرار ويكون مشروطاً بعدمـه، أو قلنا بأنّ الاضطرار وكذا سائر الأعذار أعذار عقليّـة والتكليف ثابت فعلي مطلقاً. غايـة الأمر أنّـه لا يصحّ للمولى الاحتجاج بـه مع وجود مثل الجهل والعجز والاضطرار ونحوها من الأعذار، كما هو الحقّ وقد مرّ تحقيقـه في مواضع متعدّدة ولعلّـه يأتي أيضاً فيما بعد.
أمّا على القول الأوّل: فلأنّـه يشترط في منجزيّـة العلم الإجمالي أن يكون متعلّقـه التكليف الفعلي الثابت على أيّ تقدير، بحيث لو تبدّل إلى العلم التفصيلي بثبوتـه في كلّ واحد من الأطراف لكان منجّزاً، وهنا ليس كذلك، لأنّـه يحتمل أن يكون المضطرّ إليـه هو الشيء الذي تعلّق بـه التكليف فلم يكن حينئذ فعليّاً، لاشتراط فعليّتـه على الفرض بعدم عروض الاضطرار بالنسبـة إلى المكلّف بـه. وحينئذ فلا يعلم بثبوت التكليف الفعلي على أيّ تقدير، كما هو واضح.
(الصفحة 115)
وأمّا على القول الثاني: فلأنّ الاضطرار وإن لم يكن من قيود التكليف الفعلي، إلاّ أنّـه من قيود التكليف الفعلي الصالح للاحتجاج، ولابدّ في تأثير العلم الإجمالي من أن يكون متعلّقـه هو التكليف الفعلي الصالح للاحتجاج على أيّ تقدير، ومن الواضح أنّـه ليس هنا كذلك; لأنّـه يحتمل أن يكون المضطرّ إليـه هو المكلّف بـه، فلا يكون التكليف حينئذ صالحاً للاحتجاج وإن كان باقياً على الفعليّـة. ومجرّد البقاء على الفعليّـة لا يجدي ما لم ينضمّ إليـه القابليّـة، ولذا لايكون العلم الإجمالي مؤثّراً لو حصل لـه الاضطرار إلى جميع الأطراف، كما هو واضح.
إن قلت:
لازم ما ذكرت هو جواز القعود عن تكليف المولى فيما لو شكّ في كونـه قادراً على إتيان متعلّقـه; لأنّ مقتضى ما ذكرت هو كفايـة مجرّد احتمال كون المضطرّ إليـه هو المكلّف بـه، فإذا كان مجرّد احتمال الاضطرار بالنسبـة إلى متعلّق التكليف كافياً في عدم قابليّتـه للاحتجاج، فكذلك مجرّد احتمال عدم القدرة والعجز عن إتيان المكلّف بـه يكون كافياً، ضرورة أنّـه لا فرق بين الاضطرار والعجز من هذه الحيثيّـة أصلا، وبطلان اللازم واضح كما يظهر بمراجعـة العقل والعقلاء، لأنّـه لا يكون العبد الشاكّ في القدرة معذوراً عندهم في المخالفـة، وحينئذ فلابدّ من الالتزام بذلك في الاضطرار كما في المقام.
قلت:
الفرق بين المقام وبين مسألـة الشكّ في القدرة التي لا يكون العبد فيها معذوراً في المخالفـة هو أنّ في المقام يكون الاضطرار معلوماً ولا يكون المكلّف المضطرّ شاكّاً فيـه أصلا، غايـة الأمر أنّـه يشكّ في انطباقـه على مورد التكليف، ويحتمل أن يكون المضطرّ إليـه هو المكلّف بـه، أو أن يكون غيره، وحينئذ فأمره دائر بين أن يكون عروض الاضطرار بالنسبـة إلى المكلّف بـه، فلا
|