(الصفحة 117)
وقع في بعض الأوقات في مقام العمل، لجهل المكلّف بالواقع، وهذا هو الفارق بين الاضطرار إلى المعيّن والاضطرار إلى غيره، لأنّـه في الأوّل لا تكون المزاحمـة مستندة إلى الجهل، بل المزاحمـة على تقدير كون المضطرّ إليـه هو المكلّف بـه ثابتـة مطلقاً مع العلم والجهل، بخلاف الثاني.
وإن شئت قلت: إنّ الاضطرار لم يعرّض المكلّف بـه هنا لـه أصلا، بخلاف الاضطرار إلى المعيّن، فإنّـه في أحد الوجهين يكون عارضاً للمكلّف بـه، كما لايخفى.
ودعوى:
أنّ بعد اختيار بعض الأطراف لا يكون العلم بالتكليف موجوداً، فلا وجـه للاحتياط.
مدفوعـة:
بأنّ مقتضى ذلك عدم وجوب الاحتياط فيما لو فقد بعض الأطراف أيضاً، ولا يقول بـه أحد.
ومن جميع ما ذكرنا يظهر: الخلل فيما أفاده المحقّق الخراساني في الكفايـة، حيث إنّـه (قدس سره)
ذهب إلى عدم الفرق بين الاضطرار إلى واحد معيّن وبين الاضطرار إلى واحد غير معيّن، وكذا نفي الفرق بين أن يكون الاضطرار سابقاً على حدوث العلم أو لاحقاً; واختار الفرق بين الاضطرار وفقد بعض الأطراف، نظراً إلى أنّ الاضطرار من حدود التكليف بخلاف الفقدان.
وقال في هامش الكفايـة ما هذا لفظـه: لايخفى أنّ ذلك إنّما يتمّ فيما كان الاضطرار إلى أحدهما لا بعينـه، وأمّا لو كان إلى أحدهما المعيّن فلا يكون بمانع عن تأثير العلم للتنجّز، لعدم منعـه عن العلم بفعليّـة التكليف المعلوم إجمالا المردّد بين أن يكون التكليف المحدود في هذا الطرف أو المطلق في الطرف الآخر، ضرورة عدم ما يوجب عدم فعليّـة مثل هذا المعلوم أصلا، وعروض
(الصفحة 118)
الاضطرار إنّما يمنع عن فعليّـة التكليف لو كان في طرف معروضـه بعد عروضـه، لا عن فعليّـة المعلوم بالإجمال المردّد بين التكليف المحدود في طرف المعروض والمطلق في الآخر بعد العروض، وهذا بخلاف ما إذا عرض الاضطرار إلى أحدهما لا بعينـه، فإنّـه يمنع عن فعليّـة التكليف في البين مطلقاً، فافهم وتأمّل(1)، انتهى.
والخلل في مجموع ما ذكره من وجوه:
أحدها: أنّ الاضطرار لا يكون من قيود التكليف الفعلي وحدوده، بل التكليف فعلي أيضاً مع وجود الاضطرار، غايـة الأمر أنّـه لا يكون صالحاً للاحتجاج، كما مرّ ويأتي.
ثانيها: أنّ الحكم بعدم الفرق بين صورتي الاضطرار كما في المتن، أو بالفرق بالقول بتأثير العلم إجمالي في الاضطرار إلى غير المعيّن دون الاضطرار إلى المعيّن كما في الهامش ممنوع; لما عرفت من ثبوت الفرق بينهما بعكس ما ذكره في الهامش، كما أنّ نفي الفرق بين سبق العلم ولحوقـه قد عرفت منعـه في الاضطرار إلى المعيّن.
ثالثها: منع الفرق بين الاضطرار وفقدان بعض الأطراف، لأنّـه كما لا يكون التكليف الواقعي مؤثّراً مع وجود الاضطرار إلى متعلّقـه، كذلك لا يكون بمؤثّر مع فقد المتعلّق، نعم فرق بين ما إذا كان الفقدان قبل تعلّق التكليف والعلم بـه، وبين ما إذا كان بعدهما، كما أنّ هذا الفرق ثابت في الاضطرار أيضاً، فتدبّر.
- 1 ـ كفايـة الاُصول: 409، الهامش1.
(الصفحة 119)
الأمر الثالث
في شرطية الابتلاء لتنجيز العلم الإجمالي
ربّما يقال ـ كما هو المعروف بين المتأخّرين ـ بأنّـه يشترط فـي تنجيز العلم الإجمالي أيضاً أن تكون الأطراف ممّا يمكن ابتلاء المكلّف بها عادةً، نظراً إلى أنّ النهي عمّا لا يكون مورداً لابتلاء المكلّف بحسب العادة مستهجن عرفاً; لأنّـه كما يعتبر في عدم كون النهي قبيحاً عند العقل أن يكون المكلّف قادراً بالقدرة العقليّـة على إتيان متعلّقـه، كذلك يعتبر في عدم كونـه مستهجناً عند العرف أن يكون متعلّقـه مقدوراً للمكلّف بالقدرة العاديّـة، وهي مفقودة مع عدم الابتلاء بها عادةً.
والوجـه في هذا الاعتبار أنّ الغرض من النهي إنّما هو إيجاد الداعي للمكلّف إلى ترك المنهي عنـه لاشتمالـه على المفسدة، وهذا الغرض حاصل بدون النهي فيما لو كان المنهي عنـه متروكاً عادةً، كما أنّ الغرض من الأمر هو إيجاد الداعي لـه إلى فعل المأمور بـه لاشتمالـه على المصلحـة الملزمـة، ومع ثبوتـه للمكلّف بدونـه لا مجال للأمر أصلا، لكونـه مستهجناً عرفاً.
وممّا ذكر يظهر: أنّ الرافع للاستهجان هو إمكان ثبوت الداعي إلى الفعل في النهي وإلى الترك في الأمر بحسب العادة، فلو فرض عدم هذا الداعي إمّا لعدم القدرة العاديّـة على الفعل في الأوّل، وعلى الترك في الثاني، وإمّا لعدم حصول الداعي اتّفاقاً وإن كان مقدوراً عادة يستهجن التكليف.
هذا غايـة ما يمكن أن يقال في توجيـه هذا المقال.
(الصفحة 120)الفرق بين الخطابات القانونية والخطابات الشخصية
ولا يخفى أنّ ذلك مبني على القول بانحلال الخطابات الشرعيّـة إلى الخطابات المتعدّدة حسب تعدّد المكلّفين، فإنّـه حينئذ لابدّ من ملاحظـة المكلّف المتوجّـه إليـه الخطاب الشخصي وأنّـه هل يكون مستهجناً بالنسبـة إليـه، لأجل الاضطرار أو عدم القدرة العقليّـة أو العاديّـة أو عدم انصراف إرادتـه، أو لا يكون كذلك، لفقدان هذه الاُمور، ولايخفى أنّ الالتزام بذلك يوجب محذورات كثيرة:
منها: أنّ لازمـه عدم صحّـة تكليف العاصي الذي لا يحتمل المولى الآمر أن يؤثّر أمره فيـه، فيخرج عن كونـه عاصياً، وكذا الكافر بطريق أولى.
ومنها: أنّ لازمـه تعميم ذلك بالنسبـة إلى الأحكام الوضعيـة أيضاً، فإنّـه كما يستهجن التكليف بحرمـة الخمر الموجود في البلاد البعيدة والنهي عن شربـه، كذلك يكون جعل النجاسـة لـه أيضاً مستهجناً بعد وضوح أنّ مثل هذا الجعل إنّما هو لغرض ترتيب الآثار، ولا معنى لـه بعد عدم الابتلاء بـه عادةً. وحينئذ فيلزم أن يكون الخمر الواحد نجساً بالنسبـة إلى من كان مبتلى بـه، وغيرنجس بالنسبـة إلى غير المبتلى، وهذا ممّا لا يمكن أن يلتزم بـه فقيـه.
وبالجملـة: فلا فرق في الاستهجان بين كون المكلّف غير قادر على إتيان متعلّقـه بالقدرة العاديّـة، وبين كونـه عاصياً لا يحتمل أن يتأثّر من الأمر.
ودعوى: أنّ المصحّح للبعث والتحريك إنّما هو إمكان الانبعاث من المكلّف، وهو متحقّق في العاصي وإن علم بعدم تأثير الأمر فيـه، لأنّـه لا ينافي العلم بعدم التأثير خارجاً مع إمكان الانبعاث ذاتاً.
(الصفحة 121)
مدفوعـة: بأنّ البعث لا يمكن أن يصدر إلاّ مع تحقّق مباديـه التي منها ترتّب الغايـة والغرض عليـه، وبعد العلم بعدم ترتّب هذه الغايـة عليـه لأجل العلم بعدم انبعاث المكلّف وعدم تأثير البعث فيـه لا تكون المبادئ بأجمعها متحقّقـة، وبدونها لا يعقل أن ينقدح في نفس المولى إرادة البعث، كما هو واضح.
والتحقيق في المقام أن يقال:
إنّ الخطابات الشرعيّـة خطابات كلّيـة متوجّهـة إلى عامّـة المكلّفين، بحيث يكون الخطاب في كلّ واحد منها واحداً والمخاطب متعدّداً حسب تعدّد المكلّفين، والمصحّح لهذا النحو من الخطاب العامّ إنّما هو ملاحظـة حال نوع المخاطبين دون كلّ واحد منهم، فإن كانوا بحسب النوع قادرين بالقدرة العقليّـة والعاديّـة يصحّ الخطاب إلى الجميع بخطاب واحد، ولا يكون عجز البعض عقلا أو عادةً موجباً لاستهجان الخطاب العامّ بعد عدم خصوصيـة مميّزة للعاجز، وهكذا بالنسبـة إلى العاصي والكافر، فإنّ المصحّح لتوجيـه الخطاب العامّ الشامل للعاصي والكافر أيضاً إنّما هو احتمال التأثير بالنسبـة إلى النوع وإن علم بعدم تأثيره بالنسبـة إلى بعض المخاطبين.
وبالجملـة: لا وجـه للقول بانحلال الخطابات الشرعيّـة إلى خطابات متعدّدة حسب تعدّد المخاطبين المكلّفين، خصوصاً بعد كون مقتضى ظواهرها هو وحدة الخطاب وتعدّد المخاطب، بل اللازم إبقائها على ظاهرها، وبـه يندفع الإشكالات المتقدّمـة، كما أنّـه بـه يظهر الوجـه في وجوب الاحتياط في صورة الشكّ في القدرة الذي هو مورد للاتّفاق.
وهذا بخلاف القول بالانحلال، فإنّـه حينئذ يشكل الوجـه في ذلك، لأنّـه بعد اختصاص الخطاب والتكليف بالقادرين يكون مرجع الشكّ في القدرة إلى الشكّ في أصل التكليف وهو مجرى البراءة، كما هو واضح.