(الصفحة 123)
الشكّ في قدرتـه؟ والحاصل أنّ العقل بعد إحراز المطلوب الواقعي للمولى أو مبغوضـه لا يرى عذراً للعبد في ترك الامتثال(1)، انتهى.
والمحقّق النائيني أيضاً تمسّك بهذا الوجـه
لوجوب الاحتياط على ما في التقريرات(2)، ولكن الفاضل المقرّر ذكر في الحاشيـة أنّـه أورد على شيخـه الاُستاذ النقض بما لو علم بخروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء، لأنّ المفروض أنّـه لا دخل للابتلاء وعدمـه في الملاك، فلو كان العلم بثبوت الملاك يقتضي وجوب الاجتناب عن أحد الطرفين مع الشكّ في خروج الآخر عن مورد الابتلاء فليقتض ذلك أيضاً مع العلم بخروج أحدهما عن مورد الابتلاء، وذكر أنّـه بعد النقض عليـه: أسقط هذا الوجـه عن الاعتبار(3).
وكيف كان: فبناء على مبناهم من كون الاضطرار والعجز ونحوهما من حدود التكليف الفعلي وقيده لا مجال للقول بوجوب الاحتياط مع الشكّ في الخروج عن مورد الابتلاء; لأنّ كشف الملاك إنّما هو من طريق تعلّق التكليف بناءً على مذهب العدليّـة من تبعيّـة الأحكام للمصالح والمفاسد النفس الأمريّـة، وإلاّ فمع عدمـه كيف يستكشف الملاك؟
وحينئذ: فمع العلم بالخروج عن محلّ الابتلاء لا يكون العلم الإجمالي بمنجّز أصلا; لأنّـه لو كان الخارج عن محلّ الابتلاء هو متعلّق التكليف لم يكن التكليف المتعلّق إليـه فعليّاً، لأنّ المفروض أنّـه من حدود التكليف الفعلي، وأمّا
- 1 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 465.
- 2 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 55.
- 3 ـ نفس المصدر: 57، الهامش1.
(الصفحة 124)
مع الشكّ في ذلك فالأمر أيضاً كذلك، لأنّ مرجع الشكّ في الخروج إلى الشكّ في ثبوت التكليف الفعلي وهو مجرى البراءة. وقد عرفت أنّ مقتضى كلامهم جريان البراءة في صورة الشكّ في القدرة، مع أنّهم لا يلتزمون بـه.
وبالجملـة: لو علم بثبوت الملاك من غير طريق الخطاب لكان لما ذكروه وجـه، ولكنّ الظاهر أنّ مرادهم استكشافـه من طريق التكليف، ومع تقيـيد إطلاق الهيئـة على ما هو المفروض يكون إطلاق المادّة أيضاً المستكشف منـه الملاك في كلّ مورد أيضاً مقيّداً، لأنّ الخطاب المتوجّـه إلى صنف خاصّ إنّما يستفاد منـه ثبوت الملاك في متعلّقـه بالنسبـة إلى ذلك الصنف فقط، ولا يكون طريقاً إلى ثبوتـه مطلقاً كما هو واضح، فلا وجـه للاحتياط مع الشكّ فضلا عن صورة العلم.
وأمّا بناءً على ما هو التحقيق فقد عرفت أنّ اللازم هو الاجتناب عن الطرف الآخر الذي هو مورد للابتلاء مطلقاً، فتأمّل جيّداً.
ثمّ إنّـه استدلّ المحقّق النائيني
(قدس سره)
لوجوب الاحتياط مـع الشكّ في الخروج عن مورد الابتلاء بوجـه آخر أفاده الشيخ (قدس سره)
وهو التمسّك بإطلاقات أدلّـة المحرّمات، فقال في تقريب الاستدلال بـه ما ملخّصـه: أنّـه لا إشكال في إطلاق ما دلّ على حرمـة الخمر مثلا وشمولـه لكلتا صورتي الابتلاء وعدمـه، والقدر الثابت من التقيـيد عقلا هو ما إذا كان الخمر خارجاً عن مورد الابتلاء بحيث يلزم استهجان النهي عنـه بنظر العرف، فإذا شكّ فـي استهجان النهي وعدمـه لأجل الشكّ في إمكان الابتلاء وعدمـه فالمرجع هو الإطلاق، لأنّ التخصيص بالمجمل مفهوماً المردّد بين الأقلّ والأكثر لا يمنع عن التمسّك بالعامّ فيماعدا القدر المتيقّن، بل الجواز في المقام أولى من غيره، لأنّ المقيّد فيما نحن فيـه هو حكم العقل، وفي المقيّدات اللبيّـة يجوز التمسّك بالعامّ في الشبهات
(الصفحة 125)
المصداقيّـة فضلا عن الشبهات المفهوميـة إذا كان الترديد بين الأقلّ والأكثر، كما في المقام.
وبالجملـة: لا ينبغي التأمّل في جواز التمسّك بإطلاق أدلّـة المحرّمات الواردة في الكتاب والسنّـة.
فإن قلت:
المخصّص المجمل المتّصل بالعامّ يسري إجمالـه إلى العامّ ولا ينعقد لـه ظهور في جميع ما يحتمل انطباق مفهوم المخصّص عليـه إذا كان المخصّص لفظياً أو عقلياً ضرورياً، سواء كان إجمالـه لأجل تردّده بين المتباينين أو بين الأقلّ والأكثر، والتفصيل بينهما إنّما هو في المخصّص اللفظي المنفصل أو ما بحكمـه من العقل النظري، وأمّا العقل الضروري فحكمـه حكم المتّصل، لأنّ المخصّص إذا كان ضروريّاً فبمجرّد صدور العامّ من المتكلّم ينتقل الذهن إليـه ويكون كالقرينـة المحتفّـة بالكلام يسري إجمالـه إليـه. وهذا بخلاف العقل النظري، فإنّـه لا ينتقل الذهن إليـه إلاّ بعد الالتفات إلى المبادئ التي أوجبت حكم العقل، وقد لا تكون المبادئ حاضرة، فلا يمنع عن انعقاد الظهور للعامّ ولا يسري إجمالـه إليـه، ومن المعلوم أنّ المخصّص في المقام إنّما يكون من الأحكام العقليّـة الضروريّـة، لأنّ ضرورة العقل قاضيـة باستهجان النهي عمّا لا يمكن الابتلاء بـه، كما لايخفى.
قلت أوّلا:
يمكننا منع كون المخصّص في المقام من الضروريات العقليّـة المرتكزة في أذهان العرف والعقلاء.
وثانياً:
أنّ سرايـة إجمال المخصّص اللفظي المتّصل أو العقلي الضروري إلى العامّ إنّما هو فيما إذا كان الخارج عن العموم عنواناً واقعيّاً غير مختلف المراتب وتردّد مفهومـه بين الأقلّ والأكثر، كما لو تردّد مفهوم «الفاسق» الخارج
(الصفحة 126)
عن عموم «أكرم العلماء» بين أن يكون خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعمّ منـه ومن مرتكب الصغيرة، وأمّا إذا كان الخارج عنواناً ذا مراتب مختلفـة وعلم بخروج بعض مراتبـه عن العامّ وشكّ في خروج بعض آخر فإجمالـه لا يسري إلى العامّ، لأنّ الشكّ في مثل هذا يرجع إلى الشكّ في ورود مخصّص آخر للعامّ غير ما علم التخصيص بـه فتأمّل(1). انتهى ملخّص موضع الحاجـة من كلامـه على ما في التقريرات.
ويرد عليـه وجوه:
منها:
أنّ ما أفاده من جواز التمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقيّـة للمقيّدات اللبّـيّـة محلّ نظر، بل منع; لأنّ مبنى ذلك إنّما هو دعوى أنّ العقل يخرج الأفراد والخصوصيات، فمرجع الشكّ في كون شيء مصداقاً للمخصّص إلى الشكّ في التخصيص الزائد، وهذا المبنى بمكان من البطلان. ضرورة أنّ حكم العقل عبارة عن الكبريات الكلّيـة الثابتـة في مواردها، وحكم العقل بخروج الأفراد إنّما هو لملاك واحد مشترك بينهما، فلا فرق بين قيام الدليل اللفظي على التخصيص وحكم العقل بذلك أصلا، فكما لا يجوز التمسّك بالعامّ في الشبهـة المصداقيّـة للمخصّص في المخصّصات اللفظيـة فكذلك لا يجوز في اللبّـيّات أيضاً.
ومنها:
أنّ الفرق بين العقل الضروري والنظري محلّ منع، بل الظاهر عدم الفرق بينهما مـن حيث كونهما كالمخصّص المتّصل; لأنّ العقل النظري وإن كان لاينتقل الذهـن إليـه إلاّ بعـد الالتفات إلـى المبادئ الموجبـة لـذلك، إلاّ أنّـه
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 57 ـ 60.
(الصفحة 127)
بعد الانتقال يعلم بعدم كون الظهور المنعقد للعامّ قبل الالتفات إلى تلك المبادئ ظهوراً حقيقيّاً وأنّـه أخطـأ فـي توهّمـه انعقاد الظهور للعامّ; لأنّـه بعد الانتقال يعلم بكون دائرة العامّ من أوّل صدوره من المولى كانت أضيق ممّا كان يتوهّمـه سابقاً.
وهذا بخلاف المخصّص اللفظي المنفصل، فإنّ العامّ كان منعقداً ظهوره في العموم ولا يجوز رفع اليد عنـه إلاّ بالمقدار الذي يكون المخصّص فيـه حجّـة، وهو الأقلّ، ضرورة أنّ رفع اليد بالنسبـة إلى الأكثر يكون من قبيل رفع اليد عن الحجّـة بغير الحجّـة.
وأمّا في المقام فبعد استكشاف حكم العقل يعلم بعدم انعقاد ظهور لـه في العموم أصلا كالعقل الضروري. وتوهّم الانعقاد لايوجب التفكيك، فكما يسري الإجمال إلى العامّ فـي العقل الضروري فكذلك يسري إليـه في العقل النظري، فلا يجوز التمسّك بـه في كلتا الصورتين فتدبّر.
ومنها:
أنّ ما أفاده من الجواب الثاني عن الإشكال الذي أورده على نفسـه يرد عليـه: ـ مضافاً إلى عدم الفرق بين مثال الفاسق وبين المقام; لأنّ الفاسق أيضاً ذومراتب، للفرق بين الفسق الناشئ من التصرّف في مال الغير مثلا وبين الفسق الناشئ من قتل النفس المحترمـة عمداً، كما هو واضح.
وحينئذ فلو ثبت أنّ عنوان الفاسق يصدق أيضاً على مرتكب الصغيرة تكون هذه المرتبـة من الفسق من المراتب النازلـة لعنوان الفسق ـ أنّ الفرق بين ما إذا كان عنوان المخصّص عنواناً واقعيّاً غير مختلف المراتب، وما إذا كان عنواناً ذا مراتب مختلفـة في عدم جواز التمسّك بالعامّ في الأوّل دون الثاني، ممّا لا يكون لـه وجـه; لأنّ المخصّص ولو كان عنواناً ذا مراتب إذا كان متّصلا بالعامّ سواء كان