(الصفحة 127)
بعد الانتقال يعلم بعدم كون الظهور المنعقد للعامّ قبل الالتفات إلى تلك المبادئ ظهوراً حقيقيّاً وأنّـه أخطـأ فـي توهّمـه انعقاد الظهور للعامّ; لأنّـه بعد الانتقال يعلم بكون دائرة العامّ من أوّل صدوره من المولى كانت أضيق ممّا كان يتوهّمـه سابقاً.
وهذا بخلاف المخصّص اللفظي المنفصل، فإنّ العامّ كان منعقداً ظهوره في العموم ولا يجوز رفع اليد عنـه إلاّ بالمقدار الذي يكون المخصّص فيـه حجّـة، وهو الأقلّ، ضرورة أنّ رفع اليد بالنسبـة إلى الأكثر يكون من قبيل رفع اليد عن الحجّـة بغير الحجّـة.
وأمّا في المقام فبعد استكشاف حكم العقل يعلم بعدم انعقاد ظهور لـه في العموم أصلا كالعقل الضروري. وتوهّم الانعقاد لايوجب التفكيك، فكما يسري الإجمال إلى العامّ فـي العقل الضروري فكذلك يسري إليـه في العقل النظري، فلا يجوز التمسّك بـه في كلتا الصورتين فتدبّر.
ومنها:
أنّ ما أفاده من الجواب الثاني عن الإشكال الذي أورده على نفسـه يرد عليـه: ـ مضافاً إلى عدم الفرق بين مثال الفاسق وبين المقام; لأنّ الفاسق أيضاً ذومراتب، للفرق بين الفسق الناشئ من التصرّف في مال الغير مثلا وبين الفسق الناشئ من قتل النفس المحترمـة عمداً، كما هو واضح.
وحينئذ فلو ثبت أنّ عنوان الفاسق يصدق أيضاً على مرتكب الصغيرة تكون هذه المرتبـة من الفسق من المراتب النازلـة لعنوان الفسق ـ أنّ الفرق بين ما إذا كان عنوان المخصّص عنواناً واقعيّاً غير مختلف المراتب، وما إذا كان عنواناً ذا مراتب مختلفـة في عدم جواز التمسّك بالعامّ في الأوّل دون الثاني، ممّا لا يكون لـه وجـه; لأنّ المخصّص ولو كان عنواناً ذا مراتب إذا كان متّصلا بالعامّ سواء كان
(الصفحة 128)
لفظياً أو عقلياً ضروريّاً يسري إجمالـه إلى العامّ لا محالـة ويمنع عن انعقاد ظهور للعامّ في العموم، وليس هنا حجّـة على العموم حتّى يتمسّك بها في المقدار الذي لا يكون المخصّص حجّـة بالنسبـة إليـه.
وبالجملـة: اتّصال المخصّص بالعامّ مانع عن كون ظهوره متّبعاً وقابلا للاحتجاج; لأنّ الكلام مادام كون المتكلِّم مشتغلا بـه لا ينعقد لـه ظهور متّبع حتّى إذا فرغ المتكلّم منـه، وهذا واضح جدّاً.
وحينئذ: فلا فرق من هذه الحيثيّـة بين كون المخصّص ذا مراتب أو غيره، فمرجع التمسّك بالعامّ حينئذ إلى التمسّك بـه في الشبهـة المصداقيّـة لنفس العامّ، وهو ممّا لا يجوز قطعاً.
وما ذكره من أنّ الشكّ في مثل هذا يرجع إلى الشكّ في ورود مخصّص آخر خروج عن محلّ النزاع; لأنّ الكلام في الشبهـة المفهوميّـة التي هي عبارة عن كون مفهوم المخصّص مجملا ولا يعلم انطباقـه على بعض المصاديق.
وحينئذ فلا يلزم من دخول بعض المراتب أو خروجـه تخصيص زائد أصلا. نعم لو علم بكون المفهوم ذا مراتب وشكّ مع ذلك في خروج بعض المراتب وعـدمـه يكون ذلك مـن قبيل إجمال المراد، ولا يكون مـن قبيل الشبهـة المفهوميّـة أصلا.
ثمّ إنّـه أورد المحقّق الخراساني (قدس سره)
في الكفايـة على هذا الوجـه الذي أفاده الشيخ وتابعـه المحقّق النائيني بما لفظـه: إنّـه لو شكّ في ذلك ـ يعني في صحّـة انقداح الداعي إلى الفعل في نفس العبد ـ كان المرجع هو البراءة، لعدم القطع بالاشتغال، لا إطلاق الخطاب، ضرورة أنّـه لا مجال للتشبّث بـه إلاّ فيما إذا شكّ في التقيـيد بشيء بعد الفراغ عن صحّـة الإطلاق بدونـه، لا فيما شكّ في
(الصفحة 129)
اعتباره في صحّتـه(1). وقال في هامشها: نعم لو كان الإطلاق في مقام يقتضي بيـان التقيـيد بالابتلاء ـ لو لم يكن هناك ابتلاء مصحّح للتكليف ـ كان الإطلاق وعدم بيان التقيـيد دالاّ على فعليتـه ووجود الابتلاء المصحّح لها، كما لايخفى فافهم(2)، انتهى.
وأجاب عنـه المحقّق النائيني ـ على ما في التقريرات ـ بما ملخّصـه: إنّ إطلاق الكاشف بنفسـه يكشف عن إمكان إطلاق النفس الأمري، ولو كان التمسّك بالمطلقات مشروطاً بإحراز إمكان الإطلاق لانسدّ باب التمسّك بالمطلقات بالكلّيـة، إذ ما من مورد يشكّ في التقيـيد إلاّ ويرجع إلى الشكّ في إمكان الإطلاق، خصوصاً على مذهب العدليّـة من تبعيّـة الأحكام للمصالح والمفاسد النفس الأمريّـة، لأنّ الشكّ في كلّ قيد يلازم الشكّ في ثبوت المصلحـة الموجبـة للتقيـيد.
وبالجملـة: الإطلاق اللفظي يكشف عن ثبوت الإطلاق النفس الأمري، كما أنّ الخطاب اللفظي يكشف عن ثبوت الملاك والمناط، وحينئذ فيؤخذ بظاهر الإطلاق في الموارد المشكوكـة ويستكشف منـه إنّاً عدم استهجان التكليف في مورد الشكّ، كما يستكشف من إطلاق قولـه (عليه السلام): «اللهمّ العن بني اُميّـة قاطبـة» عدم إيمان من شكّ في إيمانـه من هذه الطائفـة الخبيثـة، مع أنّ حكم العقل بقبح لعن المؤمن لا ينقص عن حكمـه بقبح تكليف من لا يتمكّن عادة(3)، انتهى.
- 1 ـ كفايـة الاُصول: 410.
- 2 ـ نفس ا لمصدر: 410، الهامش4.
- 3 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 61 ـ 62.
(الصفحة 130)
وفيـه: وضوح الفرق بين المقام وبين المقيّدات الاُخر; لأنّ استهجان الخطاب مع عدم الابتلاء ممّا يكون بديهيّاً عند العامّـة، بخلاف قضيّـة المصلحـة والمفسدة التي ذهب إليها جمع من العلماء لنهوض الدليل عليها وتكون مغفولا عنها عند العرف والعقلاء، فإذا ورد «أكـرم العلماء» مثلا، يكون المتفاهم منـه بنظر العرف هو وجوب إكرام الجميع من غير توجّـه إلى ثبوت المصلحـة فـي إكرام الجميع، ويكون العموم حجّـة لا يرفعون اليد عنها في موارد الشكّ في التخصيص. وهذا بخلاف المقام الذي لا يكون الخطاب مطلقاً بنظرهم وشاملا لكلتا صورتي الابتلاء وعدمـه، بل يكون مقيّداً من أوّل الأمر بصورة الابتلاء. وحينئذ فلا يجوز التمسّك بـه مع الشكّ في الابتلاء وعدمـه، كما هو واضح.
(الصفحة 131)
الأمر الرابع
في الشبهة الغير المحصورة
ولابدّ من جعل البحث فيها فيما إذا كان الحكم الموجود بين الأطراف الغير المحصورة ثابتاً من إطلاق أو عموم أو قيام أمارة، ضرورة أنّـه لو كان معلوماً بالعلم الوجداني فقد عرفت في أوّل مبحث الاشتغال أنّـه يحرم مخالفتـه، ويجب موافقتـه قطعاً، ولا يعقل الترخيص ولو في بعض الأطراف لعدم اجتماع الفعليّـة على أيّ تقدير مع الإذن في البعض فضلا عن الكلّ.
كما أنّـه لابدّ من تمحيض الكلام في خصوص الشبهـة الغير المحصورة وأنّ كثرة الأطراف بنفسها هل يوجب الاجتناب عن الجميع أم لا؟ مع قطع النظر عن العسر أو الاضطرار أو عدم الابتلاء، فإنّ هذه الاُمور نافيـة للاحتياط حتّى في الشبهـة المحصورة.
فمحلّ النزاع في الشبهـة الغير المحصوره هو ما لو كانت الشبهـة محصورة لوجب الاحتياط فيها.
وممّا ذكرنا يظهر أنّـه لا وجـه للتمسّك في المقام بالعسر أو عدم الابتلاء، كما صنعـه الشيخ في الرسالـة(1) وغيره في غيرها فتدبّر.
- 1 ـ فرائد الاُصول 2: 430 ـ 431.