(الصفحة 136)
ترتّب الأثر على مجرّد احتمال كون المقتول هو ولده فأقام بالتعزيـة والتضرّع يعدّ مذموماً عند العقلاء مورداً لطعنهم، بل لو كان مثل هذا الاحتمال سبباً لترتيب الأثر عليـه لانسدّ باب المعيشـة وسائر الأعمال، كما هو واضح.
وبالجملـة: فالتكليف وإن كان معلوماً لدلالـة الإطلاق عليـه أو نهوض أمارة شرعيّـة على ثبوتـه، إلاّ أنّ في كل واحد من الأطراف أمارة عقلائيـة على عدم كونـه هو المحرّم الواقعي، لأنّ احتمالـه مستهلك في ضمن الاحتمالات الكثيرة على حسب كثرة الأطراف، ومع بلوغـه إلى هذا الحدّ يكون عند العقلاء بحيث لا يكون قابلا للاعتناء أصلا. وحينئذ فيجوز ارتكاب جميع الأطراف مع وجود هذه الأمارة العقلائيّـة بالنسبـة إلى الجميع، هذا.
ولكنّ المحقّق المزبور بعد توجيهـه جواز الارتكاب بما يرجع إلى ذلك قال: ولكن فيما ذكرنا أيضاً تأمّل، فإنّ الاطمئنان بعدم الحرام في كلّ واحد واحد بالخصوص كيف يجتمع مع العلم بوجود الحرام بينها وعدم خروجـه عنها، وهل يمكن اجتماع العلم بالموجبـة الجزئيـة مع الظنّ بالسلب الكلّي؟(1) انتهى.
ولكن لا يخفى أنّ هذه الشبهـة إنّما تـتمّ لو كان متعلّق الاطمئنان متّحداً مع متعلّق العلم، ولكنّـه ليس كذلك، لأنّ المعلوم هو وجود الحرام بين هذه الأطراف، ومتعلّق الاطمئنان هو خروج كلّ واحد منها بالقياس إلى غيرها، فحصل الاختلاف بين المتعلّقين. كيف ولو لم يمكن اجتماعهما لأجل التنافي يلزم ذلك في الشبهـة المحصورة أيضاً، فإنّـه كيف يجتمع العلم بوجود الحرام بين الإنائين مع الشكّ في كلّ واحد منهما أنّـه هو المحرّم، ومن المعلوم ثبوت التنافي بين العلم
- 1 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 471.
(الصفحة 137)
بالموجبـة الجزئيـة والشكّ في السلب الكلّي، والسرّ في ذلك ما عرفت من اختلاف المتعلّقين، فتدبّر، هذا.
ويمكن إبداء شبهـة اُخرى، وهو أنّ الأمارة مطلقاً عقليّـة كانت أو شرعيّـة إنّما تكون معتبرة مع عدم العلم بكونها مخالفـة للواقع، سواء كان العلم تفصيليّاً أو إجماليّاً، وفي المقام نعلم إجمالا بأنّ واحداً من هذه الأمارات العقليّـة المتكثّرة القائمـة على خروج كلّ واحد من الأطراف بالقياس إلى غيرها مخالف للواقع قطعاً، للعلم الإجمالي بوجود الحرام بينها.
ولكن يدفع الشبهـة: أنّـه كما كانت الأمارة قائمـة على عدم كون كلّ واحد من الأطراف بالقياس إلى غيره هو المحرّم الواقعي، كذلك هنا أمارة عقلائيّـة على عدم كون كلّ أمارة بالقياس إلى غيرها هي الأمارة المخالفـة للواقع، لأنّ الشبهـة فيـه أيضاً غيرمحصورة، فتأمّل.
ضابط الشبهة الغير المحصورة
ثمّ إنّ ضابط الشبهـة الغير المحصورة يختلف حسب اختلاف الوجوه التي استدلّ بها لعدم الوجوب; أي الاحتياط فيها، فلو تمسّك فيها بالإجماع فالواجب الرجوع إلى العرف في تعيـين مفهومها. وقد اختلف كلماتهم في تحديد المعنى العرفي، فعن الشهيد والمحقّق الثانيـين(1) وبعض آخر(2) أنّـه عبارة عمّا يعسر
- 1 ـ اُنظر فرائد الاُصول 2: 436، جامع المقاصد 2: 166، روض الجنان: 224 / السطر20.
- 2 ـ مدارك الأحكام 3: 253.
(الصفحة 138)
عدّه مطلقاً، أو في زمان قصير كما عن المحقّق الثاني، وحكي عن غيرهم اُمور اُخر لعلّـه يأتي بعضها.
ولكن حيث إنّ الإجماع ممّا لا يجوز التمسّك بـه، لاختلاف العلل الموجبـة للحكم بعدم وجوب الاحتياط، كما هو المحتمل قويّاً فلا يكشف عن رأي المعصوم (عليه السلام) فلا طائل تحت النزاع في موضوعـه وتحقيق ما هو الحقّ. ولكنّـه على تقدير ثبوتـه لا يقتضي إلاّ عدم وجوب الموافقـة القطعيـة، لأنّـه القدر المتيقّن منـه، وأمّا جواز المخالفـة القطعيـة بارتكاب الجميع فلا يستفيد منـه بعد عدم تيقّن كونـه معقد الإجماع أيضاً، هذا.
وأمّا لو استند في الحكم إلى الروايات المتقدّمـة ونظائرها فليس هنا عنوان الشبهـة الغير المحصورة حتّى ينازع في تعيـين معناها وبيان مفهومها; لأنّها لا تدلّ إلاّ على حلّيـة الشيء المختلط من الحلال والحرام، وهي وإن كانت مخصّصـة بالنسبـة إلى الشبهـة المحصورة، إلاّ أنّ عنوان المخصّص ليس أيضاً هو عنوانها، بل مورد المخصّص هو ما إذا كان الترخيص في ارتكاب الجميع مستلزماً للإذن في المعصيـة بنظر العقل أو العقلاء، ففي غير هذا المورد يتمسّك بالعموم ويحكم بالترخيص.
وممّا ذكرنا يظهر أيضاً أنّـه بناءً على هذا الوجـه كما لا تكون الموافقـة القطعيـة واجبـة، كذلك لا تكون المخالفـة القطعيـة بمحرّمـة أصلا; لدلالـة الروايات على حلّيـة مجموع الشيء المختلط من الحلال والحرام. وقد عرفت فيما سبق أنّ مرجع ذلك إلى رفع اليد عن التكليف التحريمي الموجود في البين لمصلحـة أقوى، وحينئذ فلو كان من أوّل الأمر قاصداً لارتكاب الجميع لوجود الخمر بين الأطراف ولا يتحقّق العلم بارتكابـه إلاّ بعد ارتكاب الجميع لا يكون
(الصفحة 139)
عاصياً، بل ولا متجرّياً; لعدم كون الخمر الموجود بينها بمحرّم أصلا بعد حصول الاختلاط، هذا.
ولو استند في الباب إلى الوجـه الأخير(1) الذي أفاده في كتاب الدرر فالضابط هو بلوغ كثرة الأطراف إلى حدّ يكون احتمال كون كلّ واحد منها هو المحرّم الواقعي ضعيفاً، بحيث لم يكن معتنى بـه عند العقلاء أصلا، فكلّما بلغت الكثرة إلى هذا الحدّ تصير الشبهـة غير محصورة.
ومقتضى هذا الوجـه أيضاً جواز ارتكاب الجميع; لأنّ المفروض أنّ في كلّ واحد من الأطراف أمارة عقلائيّـة على عدم كونـه هو المحرّم الواقعي حتّى فيما إذا بقي طرف واحد، فإنّ الأمارة أيضاً قائمـة على عدم كونـه هو المحرّم، بل المحرّم كان في ضمن ما ارتكبـه.
نعم لو كان قصده من أوّل الأمر ارتكاب المحرّم الواقعي بارتكاب الجميع وارتكب واحداً منها واتّفق مصادفتـه للمحرّم الواقعي تصحّ عقوبتـه عليـه، كما لايخفى.
بيان المحقّق النائيني في ضابط الشبهة الغير المحصورة
ثمّ إنّ المحقّق النائيني (قدس سره)
أفاد في بيان ضابط الشبهـة الغير المحصورة ما ملخّصـه: إنّ ضابط الشبهـة الغير المحصورة هو أن تبلغ أطراف الشبهـة حدّاً لا يمكن عادةً جمعها في الاستعمال من أكل أو شرب أو نحوهما لأجل الكثرة. فلابدّ في الشبهـة الغير المحصورة من اجتماع كلا الأمرين: كثرة العدد، وعدم التمكّن
- 1 ـ تقدّم في الصفحـة 135.
(الصفحة 140)
من جمعـه في الاستعمال، فالعلم بنجاسـة حبّـة من الحنطـة في ضمن حقّـة منها لا يكون من قبيل الشبهـة الغير المحصورة، لإمكان استعمال الحقّـة من الحنطـة بطحن وخبز وأكل، مع أنّ نسبـة الحبّـة إلى الحقّـة تزيد عن نسبـة الواحد إلى الألف، كما أنّ مجرّد عدم التمكّن العادي من جمع الأطراف في الاستعمال فقط لا يوجب أن تكون الشبهـة غير محصورة، إذ ربّما لا يتمكّن عادة من ذلك مع كون الشبهـة فيـه أيضاً محصورة، كما لو كان بعض الأطراف في أقصى بلاد المغرب، فلابدّ فيها من اجتماع كلا الأمرين.
ومنـه يظهر عدم حرمـة المخالفـة القطعيّـة; لأنّ المفروض عدم التمكّن العادي منها، وكذا عدم وجوب الموافقـة القطعيـة; لأنّ وجوبها فرع حرمـة المخالفـة القطعيّـة، لأنّ الوجوب يتوقّف على تعارض الاُصول في الأطراف، وتعارضها يتوقّف على حرمـة المخالفـة القطعيـة، ليلزم من جريانها مخالفـة عمليـة للتكليف المعلوم في البين، فإذا لم تحرم ـ كما هو المفروض ـ لم يقع التعارض، ومع عدمـه لايجب الموافقـة القطعيـة(1)، انتهى.
وفيـه وجوه من النظر:
الأوّل:
أنّ المراد بالتمكّن العادي من الجمع في الاستعمال إن كان هو الإمكان دفعةً; أي في أكل واحد أو شرب واحد أو لبس كذلك وهكذا، فهذا يوجب دخول أكثر الشبهات المحصورة في هذا الضابط، لأنّ كثيراً منها ممّا لا يمكن عادةً جمعها في استعمال واحد، لأجل كثرة أطرافـه المحصورة. وإن كان المراد هو الإمكان ولو تدريجاً بحسب مرور الأيّام والشهور والسنين فلازمـه خروج أكثر
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 117 ـ 119.