(الصفحة 138)
عدّه مطلقاً، أو في زمان قصير كما عن المحقّق الثاني، وحكي عن غيرهم اُمور اُخر لعلّـه يأتي بعضها.
ولكن حيث إنّ الإجماع ممّا لا يجوز التمسّك بـه، لاختلاف العلل الموجبـة للحكم بعدم وجوب الاحتياط، كما هو المحتمل قويّاً فلا يكشف عن رأي المعصوم (عليه السلام) فلا طائل تحت النزاع في موضوعـه وتحقيق ما هو الحقّ. ولكنّـه على تقدير ثبوتـه لا يقتضي إلاّ عدم وجوب الموافقـة القطعيـة، لأنّـه القدر المتيقّن منـه، وأمّا جواز المخالفـة القطعيـة بارتكاب الجميع فلا يستفيد منـه بعد عدم تيقّن كونـه معقد الإجماع أيضاً، هذا.
وأمّا لو استند في الحكم إلى الروايات المتقدّمـة ونظائرها فليس هنا عنوان الشبهـة الغير المحصورة حتّى ينازع في تعيـين معناها وبيان مفهومها; لأنّها لا تدلّ إلاّ على حلّيـة الشيء المختلط من الحلال والحرام، وهي وإن كانت مخصّصـة بالنسبـة إلى الشبهـة المحصورة، إلاّ أنّ عنوان المخصّص ليس أيضاً هو عنوانها، بل مورد المخصّص هو ما إذا كان الترخيص في ارتكاب الجميع مستلزماً للإذن في المعصيـة بنظر العقل أو العقلاء، ففي غير هذا المورد يتمسّك بالعموم ويحكم بالترخيص.
وممّا ذكرنا يظهر أيضاً أنّـه بناءً على هذا الوجـه كما لا تكون الموافقـة القطعيـة واجبـة، كذلك لا تكون المخالفـة القطعيـة بمحرّمـة أصلا; لدلالـة الروايات على حلّيـة مجموع الشيء المختلط من الحلال والحرام. وقد عرفت فيما سبق أنّ مرجع ذلك إلى رفع اليد عن التكليف التحريمي الموجود في البين لمصلحـة أقوى، وحينئذ فلو كان من أوّل الأمر قاصداً لارتكاب الجميع لوجود الخمر بين الأطراف ولا يتحقّق العلم بارتكابـه إلاّ بعد ارتكاب الجميع لا يكون
(الصفحة 139)
عاصياً، بل ولا متجرّياً; لعدم كون الخمر الموجود بينها بمحرّم أصلا بعد حصول الاختلاط، هذا.
ولو استند في الباب إلى الوجـه الأخير(1) الذي أفاده في كتاب الدرر فالضابط هو بلوغ كثرة الأطراف إلى حدّ يكون احتمال كون كلّ واحد منها هو المحرّم الواقعي ضعيفاً، بحيث لم يكن معتنى بـه عند العقلاء أصلا، فكلّما بلغت الكثرة إلى هذا الحدّ تصير الشبهـة غير محصورة.
ومقتضى هذا الوجـه أيضاً جواز ارتكاب الجميع; لأنّ المفروض أنّ في كلّ واحد من الأطراف أمارة عقلائيّـة على عدم كونـه هو المحرّم الواقعي حتّى فيما إذا بقي طرف واحد، فإنّ الأمارة أيضاً قائمـة على عدم كونـه هو المحرّم، بل المحرّم كان في ضمن ما ارتكبـه.
نعم لو كان قصده من أوّل الأمر ارتكاب المحرّم الواقعي بارتكاب الجميع وارتكب واحداً منها واتّفق مصادفتـه للمحرّم الواقعي تصحّ عقوبتـه عليـه، كما لايخفى.
بيان المحقّق النائيني في ضابط الشبهة الغير المحصورة
ثمّ إنّ المحقّق النائيني (قدس سره)
أفاد في بيان ضابط الشبهـة الغير المحصورة ما ملخّصـه: إنّ ضابط الشبهـة الغير المحصورة هو أن تبلغ أطراف الشبهـة حدّاً لا يمكن عادةً جمعها في الاستعمال من أكل أو شرب أو نحوهما لأجل الكثرة. فلابدّ في الشبهـة الغير المحصورة من اجتماع كلا الأمرين: كثرة العدد، وعدم التمكّن
- 1 ـ تقدّم في الصفحـة 135.
(الصفحة 140)
من جمعـه في الاستعمال، فالعلم بنجاسـة حبّـة من الحنطـة في ضمن حقّـة منها لا يكون من قبيل الشبهـة الغير المحصورة، لإمكان استعمال الحقّـة من الحنطـة بطحن وخبز وأكل، مع أنّ نسبـة الحبّـة إلى الحقّـة تزيد عن نسبـة الواحد إلى الألف، كما أنّ مجرّد عدم التمكّن العادي من جمع الأطراف في الاستعمال فقط لا يوجب أن تكون الشبهـة غير محصورة، إذ ربّما لا يتمكّن عادة من ذلك مع كون الشبهـة فيـه أيضاً محصورة، كما لو كان بعض الأطراف في أقصى بلاد المغرب، فلابدّ فيها من اجتماع كلا الأمرين.
ومنـه يظهر عدم حرمـة المخالفـة القطعيّـة; لأنّ المفروض عدم التمكّن العادي منها، وكذا عدم وجوب الموافقـة القطعيـة; لأنّ وجوبها فرع حرمـة المخالفـة القطعيّـة، لأنّ الوجوب يتوقّف على تعارض الاُصول في الأطراف، وتعارضها يتوقّف على حرمـة المخالفـة القطعيـة، ليلزم من جريانها مخالفـة عمليـة للتكليف المعلوم في البين، فإذا لم تحرم ـ كما هو المفروض ـ لم يقع التعارض، ومع عدمـه لايجب الموافقـة القطعيـة(1)، انتهى.
وفيـه وجوه من النظر:
الأوّل:
أنّ المراد بالتمكّن العادي من الجمع في الاستعمال إن كان هو الإمكان دفعةً; أي في أكل واحد أو شرب واحد أو لبس كذلك وهكذا، فهذا يوجب دخول أكثر الشبهات المحصورة في هذا الضابط، لأنّ كثيراً منها ممّا لا يمكن عادةً جمعها في استعمال واحد، لأجل كثرة أطرافـه المحصورة. وإن كان المراد هو الإمكان ولو تدريجاً بحسب مرور الأيّام والشهور والسنين فلازمـه خروج أكثر
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 117 ـ 119.
(الصفحة 141)
الشبهات الغير المحصورة; لإمكان جمعها في الاستعمال تدريجاً، كما هو واضح.
الثاني:
أنّك عرفت فيما تقدّم مراراً أنّ التكاليف الفعليـة ثابتـة بالنسبـة إلى جميع المخاطبين، ولا تكون مشروطـة بالعلم والقدرة ونظائرهما، غايـة الأمر أنّ الجاهل والعاجز معذوران في المخالفـة; لأنّ الملاك في حسن الخطاب بنحو العموم واستهجانـه غير ما هو المناط فيهما بالنسبـة إلى الخطاب الشخصي، فلو لم يكن الشخص قادراً على ترك المنهي عنـه يكون معذوراً، كما أنّـه لو لم يكن قادراً على إتيان المأمور بـه يكون كذلك. فالموجب للمعذوريّـة إنّما هو عدم القدرة على الترك في الأوّل، وعلى الفعل في الثاني لتحقّق المخالفـة، وأمّا لو لم يكن قادراً على الفعل في الأوّل وعلى الترك في الثاني فلا معنى للعذر هنا، لعدم حصول المخالفـة منـه أصلا، كما لايخفى.
وحينئذ: فما أفاده من أنّ عدم التمكّن العادي من المخالفـة القطعيـة يوجب أن لا تكون محرّمـة، ممنوع; لأنّ عدم التمكّن لا يوجب تحقّق المنهي عنـه حتّى يرتفع حكمـه أو يصير معذوراً، فتدبّر.
الثالث:
أنّـه لو سلّم ما ذكر فنقول: إنّ ما تعلّق بـه التكليف التحريمي هو الخمر الموجود في البين، فلابدّ من ملاحظـة عدم التمكّن بالنسبـة إليـه، وأمّا الجمع بين الأطراف الذي هو عبارة اُخرى عن المخالفـة القطعيّـة فلا يكون مورداً لتعلّق التكليف حتّى يكون عدم التمكّن العادي من المكلّف بـه موجباً لرفع التكليف المتعلّق بـه.
وبالجملـة: ما هو مورد لتعلّق التكليف ـ وهو الخمر الموجود بين الأطراف المتكثّرة ـ يكون متمكّناً من استعمالـه في نفسـه; لأنّـه لا يكون إلاّ في إناء واحد مثلا، وما لا يتمكّن من استعمالـه ـ وهو الجمع بين الأطراف ـ لا يكون متعلّقاً
(الصفحة 142)
لحكم تحريمي أصلا. نعم يحكم العقل بلزوم تركـه في أطراف الشبهـة المحصورة أو غيرها أيضاً بناءً على بعض الوجوه، كما عرفت.
مقتضى القاعدة عند الشكّ في كون شبهة محصورة أو غير محصورة
ثمّ إنّـه لو شكّ في كون شبهـة محصورة أو غيرها من جهـة المفهوم أو المصداق فهل القاعدة تقتضي الاحتياط أم لا؟
ولنتكلّم في ذلك بناءً على الوجهين الأخيرين اللذين يمكن الاستدلال بهما لنفي وجوب الاجتناب في الشبهـة الغير المحصورة، وإن كان الاستناد إلى كلّ واحد مستقلاّ، لا يخلو عن الإيراد; لعدم وفاء الروايات بتمام المقصود، لأنّها لا تشمل الشبهـة الغير المحصورة الوجوبيـة، بل يختصّ بالتحريميـة منها، وعدم خلوّ الوجـه الأخير من المناقشـة; لأنّـه لو فرض بعد العلم الإجمالي بوجود الحرام بين الأطراف الغير المحصورة أنّـه ظنّ بالظنّ الغير المعتبر أنّ الحرام إنّما هو بين أطراف محصورة منها، كما لو ظنّ بوجود الحرام بين عشرة معيّنـة من الألف الذي يعلم إجمالا بأنّ واحداً منـه حرام واقعاً، لم يكن حينئذ أمارة عقلائيّـة على عدم كون كلّ واحد من الأطراف هو الحرام الواقعي بالقياس إلى غيره; لعدم اجتماع الظنّ بوجوده بينها مع الأمارة العقلائيـة على الخلاف في كلّ واحد منها، كما لايخفى.
هذا، ولكنّ الاستناد إلى مجموع الوجهين وجعلهما دليلا واحداً خال عن المناقشـة والإيراد.
وكيف كان: فبناءً على كون الدليل في المقام هي الروايات الدالّـة على