(الصفحة 140)
من جمعـه في الاستعمال، فالعلم بنجاسـة حبّـة من الحنطـة في ضمن حقّـة منها لا يكون من قبيل الشبهـة الغير المحصورة، لإمكان استعمال الحقّـة من الحنطـة بطحن وخبز وأكل، مع أنّ نسبـة الحبّـة إلى الحقّـة تزيد عن نسبـة الواحد إلى الألف، كما أنّ مجرّد عدم التمكّن العادي من جمع الأطراف في الاستعمال فقط لا يوجب أن تكون الشبهـة غير محصورة، إذ ربّما لا يتمكّن عادة من ذلك مع كون الشبهـة فيـه أيضاً محصورة، كما لو كان بعض الأطراف في أقصى بلاد المغرب، فلابدّ فيها من اجتماع كلا الأمرين.
ومنـه يظهر عدم حرمـة المخالفـة القطعيّـة; لأنّ المفروض عدم التمكّن العادي منها، وكذا عدم وجوب الموافقـة القطعيـة; لأنّ وجوبها فرع حرمـة المخالفـة القطعيّـة، لأنّ الوجوب يتوقّف على تعارض الاُصول في الأطراف، وتعارضها يتوقّف على حرمـة المخالفـة القطعيـة، ليلزم من جريانها مخالفـة عمليـة للتكليف المعلوم في البين، فإذا لم تحرم ـ كما هو المفروض ـ لم يقع التعارض، ومع عدمـه لايجب الموافقـة القطعيـة(1)، انتهى.
وفيـه وجوه من النظر:
الأوّل:
أنّ المراد بالتمكّن العادي من الجمع في الاستعمال إن كان هو الإمكان دفعةً; أي في أكل واحد أو شرب واحد أو لبس كذلك وهكذا، فهذا يوجب دخول أكثر الشبهات المحصورة في هذا الضابط، لأنّ كثيراً منها ممّا لا يمكن عادةً جمعها في استعمال واحد، لأجل كثرة أطرافـه المحصورة. وإن كان المراد هو الإمكان ولو تدريجاً بحسب مرور الأيّام والشهور والسنين فلازمـه خروج أكثر
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 117 ـ 119.
(الصفحة 141)
الشبهات الغير المحصورة; لإمكان جمعها في الاستعمال تدريجاً، كما هو واضح.
الثاني:
أنّك عرفت فيما تقدّم مراراً أنّ التكاليف الفعليـة ثابتـة بالنسبـة إلى جميع المخاطبين، ولا تكون مشروطـة بالعلم والقدرة ونظائرهما، غايـة الأمر أنّ الجاهل والعاجز معذوران في المخالفـة; لأنّ الملاك في حسن الخطاب بنحو العموم واستهجانـه غير ما هو المناط فيهما بالنسبـة إلى الخطاب الشخصي، فلو لم يكن الشخص قادراً على ترك المنهي عنـه يكون معذوراً، كما أنّـه لو لم يكن قادراً على إتيان المأمور بـه يكون كذلك. فالموجب للمعذوريّـة إنّما هو عدم القدرة على الترك في الأوّل، وعلى الفعل في الثاني لتحقّق المخالفـة، وأمّا لو لم يكن قادراً على الفعل في الأوّل وعلى الترك في الثاني فلا معنى للعذر هنا، لعدم حصول المخالفـة منـه أصلا، كما لايخفى.
وحينئذ: فما أفاده من أنّ عدم التمكّن العادي من المخالفـة القطعيـة يوجب أن لا تكون محرّمـة، ممنوع; لأنّ عدم التمكّن لا يوجب تحقّق المنهي عنـه حتّى يرتفع حكمـه أو يصير معذوراً، فتدبّر.
الثالث:
أنّـه لو سلّم ما ذكر فنقول: إنّ ما تعلّق بـه التكليف التحريمي هو الخمر الموجود في البين، فلابدّ من ملاحظـة عدم التمكّن بالنسبـة إليـه، وأمّا الجمع بين الأطراف الذي هو عبارة اُخرى عن المخالفـة القطعيّـة فلا يكون مورداً لتعلّق التكليف حتّى يكون عدم التمكّن العادي من المكلّف بـه موجباً لرفع التكليف المتعلّق بـه.
وبالجملـة: ما هو مورد لتعلّق التكليف ـ وهو الخمر الموجود بين الأطراف المتكثّرة ـ يكون متمكّناً من استعمالـه في نفسـه; لأنّـه لا يكون إلاّ في إناء واحد مثلا، وما لا يتمكّن من استعمالـه ـ وهو الجمع بين الأطراف ـ لا يكون متعلّقاً
(الصفحة 142)
لحكم تحريمي أصلا. نعم يحكم العقل بلزوم تركـه في أطراف الشبهـة المحصورة أو غيرها أيضاً بناءً على بعض الوجوه، كما عرفت.
مقتضى القاعدة عند الشكّ في كون شبهة محصورة أو غير محصورة
ثمّ إنّـه لو شكّ في كون شبهـة محصورة أو غيرها من جهـة المفهوم أو المصداق فهل القاعدة تقتضي الاحتياط أم لا؟
ولنتكلّم في ذلك بناءً على الوجهين الأخيرين اللذين يمكن الاستدلال بهما لنفي وجوب الاجتناب في الشبهـة الغير المحصورة، وإن كان الاستناد إلى كلّ واحد مستقلاّ، لا يخلو عن الإيراد; لعدم وفاء الروايات بتمام المقصود، لأنّها لا تشمل الشبهـة الغير المحصورة الوجوبيـة، بل يختصّ بالتحريميـة منها، وعدم خلوّ الوجـه الأخير من المناقشـة; لأنّـه لو فرض بعد العلم الإجمالي بوجود الحرام بين الأطراف الغير المحصورة أنّـه ظنّ بالظنّ الغير المعتبر أنّ الحرام إنّما هو بين أطراف محصورة منها، كما لو ظنّ بوجود الحرام بين عشرة معيّنـة من الألف الذي يعلم إجمالا بأنّ واحداً منـه حرام واقعاً، لم يكن حينئذ أمارة عقلائيّـة على عدم كون كلّ واحد من الأطراف هو الحرام الواقعي بالقياس إلى غيره; لعدم اجتماع الظنّ بوجوده بينها مع الأمارة العقلائيـة على الخلاف في كلّ واحد منها، كما لايخفى.
هذا، ولكنّ الاستناد إلى مجموع الوجهين وجعلهما دليلا واحداً خال عن المناقشـة والإيراد.
وكيف كان: فبناءً على كون الدليل في المقام هي الروايات الدالّـة على
(الصفحة 143)
حلّيـة المختلط من الحلال والحرام مطلقاً، فإن قلنا: بأنّها قد خصّصت بالإجماع على وجوب الاجتناب في الشبهـة المحصورة بعنوانها، فإن كانت الشبهـة مفهوميّـة دائرة بين الأقلّ والأكثر، يجب الرجوع في مورد الشكّ إلى الروايات الدالّـة على الحلّيـة، كما هو الشأن في نظائر المقام ممّا كان الشكّ من جهـة المفهوم وتردّده بين الأقلّ والأكثر.
وإن كانت الشبهـة مصداقيّـة كما إذا علم بأنّ الألف يكون من الشبهـة الغير المحصورة ونصفـه من المحصورة، ولكن شكّ في أنّ أطراف هذه الشبهـة الخارجيّـة هل تبلغ الألف أو لا تـتجاوز عن نصفـه فلا مجال من الرجوع إلى الإجماع بعد عدم إحراز موضوعـه، ولا من الرجوع إلى الروايات; لأنّـه من قبيل التمسّك بالعامّ في الشبهـة المصداقيـة للمخصّص، وقد حقّق سابقاً عدم الجواز، بل اللازم الرجوع إلى أدلّـة التكاليف الأوّليـة والحكم بوجوب الاجتناب; لعدم ثبوت المرخّص، كما هو واضح.
هذا كلّـه لو كان المخصّص للروايات هو الإجماع على خروج عنوان الشبهـة المحصورة، وأمّا لو كان المخصّص هو حكم عقل العرف بلزوم رفع اليد عن العموم في ما يوجب الإذن في المعصيـة فاللازم بناءً على ما ذكرنا سابقاً من أنّ الدليل العقلي إنّما يكون كالمخصّص المتّصل ضروريّاً كان أو نظريّاً، يكون العامّ من أوّل الأمر مقيّداً بغير صورة يستلزم الإذن في المعصيـة الذي هو قبيح، فلا يجوز التمسّك بـه في مورد الشكّ; لأنّـه من قبيل التمسّك بالعامّ في الشبهـة المصداقيـة لنفسـه، وهو لا يجوز اتّفاقاً، هذا.
وأمّا لو كان الدليل هو الوجـه الأخير، فإن كانت الشبهـة مصداقيّـة فالظاهر أنّـه لا يجب الاجتناب; لأنّ العلم الإجمالي بوجود الحرام الواقعي في
(الصفحة 144)
البين وإن كان موجباً للاحتياط، إلاّ أنّـه إذا خرج من ذلك ما إذا قامت الأمارة العقلائيـة على عدم كون كلّ واحد من الأطراف هو الحرام الواقعي بالقياس إلى غيره فهو نظير ما إذا دلّ الدليل الشرعي على ذلك، فالتمسّك بدليل التكليف الواقعي في مورد الشكّ من قبيل التمسّك بالعامّ في الشبهـة المصداقيّـة، وحينئذ فلا يبقى وجـه لوجوب الاجتناب.
وأمّا لو كانت الشبهـة مفهوميّـة فالواجب الرجوع إلى دليل التكليف الواقعي والحكم بوجوب الاجتناب; لعدم ثبوت كون مورد الشكّ خارجاً، نظير ما إذا كان المخصّص اللفظي مجملا مفهوماً مردّداً بين الأقلّ والأكثر، كما لايخفى.
تنبيهان :
الأوّل:
أنّـه بعد الحكم بعدم تأثير العلم الإجمالي في الشبهـة الغير المحصورة هل تكون الأطراف محكومـة بالحكم المترتّب على الشكّ البدوي، فلا يجوز التوضّي بالمائع المشتبـه بين الماء والبول بالشبهـة الغير المحصورة ـ كما هو الشأن في المشتبـه بالشبهـة البدويّـة ـ ضرورة لزوم إحراز كون ما يتوضّى بـه ماءً مطلقاً، أو تسقط الأطراف عن حكم الشكّ البدوي أيضاً، فيجوز الوضوء بالمائع المردّد بين الماء والبول في المثال؟
وجهان: مبنيّان على الوجهين السابقين اللذين استند إليهما لنفي وجوب الاحتياط في الشبهـة الغير المحصورة.
فإن كان المستند في ذلك هي روايات الحلّ فلايجوزالتوضّي بـه في المثال; لأنّ مدلولها مجرّد الحلّيـة في مقابل الحرمـة، وأمّا إثبات الموضوع وأنّ