(الصفحة 146)
الأواني الغير المحصورة وخرج جميع الأطراف عن محلّ الابتلاء وبقي واحد منها فقط فلا يجب الشرب من الإناء الذي هو محلّ للابتلاء; لقيام الأمارة العقلائيـة على عدم كونـه هو الإناء الذي نذر أن يشرب منـه، بعد كون احتمال أنّـه هو ذلك الإناء ضعيفاً لا يعتنى بـه عند العقلاء.
نعم لو كان متمكّناً من الشرب من الأواني الكثيرة التي نسبتها إلى مجموع الأواني الغير المحصورة نسبـة المحصور يجب الاحتياط بالشرب من جميع ما يتمكّن من شربـه، والسرّ أنّ ترك الشرب من مجموع ما يتمكّن مـن شربـه لابدّ وأن يكون مستنداً إلى الأمارة العقلائيّـة، ضرورة أنّ العلم الإجمالي يقتضي الموافقـة القطعيـة مع القدرة، والاحتماليّـة مع عدمها، والمفروض أنّ الأمارة العقلائيّـة لا تكون قائمـة على عدم كون الإناء المعيّن الذي نذر الشرب منـه في جملـة الأواني التي يتمكّن من شربها; لأنّ نسبـة هذه الأواني إلى الجميع نسبـة المحصور، والأمارة لا تكون قائمـة إلاّ في غير المحصور، كما لايخفى.
(الصفحة 147)
الأمر الخامس
في حكم الملاقي لأحد أطراف العلم الإجمالي بوجود النجس
وتنقيح الكلام في هذا المقام يتمّ برسم اُمور:
في صور العلم بالملاقاة
الأوّل:
أنّ العلم بالملاقاة قد يكون متقدّماً على العلم الإجمالي بوجود النجس في البين، وقد يكون متأخّراً عنـه، وقد يكون مقارناً معـه، وعلى أيّ تقدير فقد يكون الملاقى ـ بالفتح ـ مورداً للابتلاء، وقد يكون خارجاً عنـه مطلقاً أو حين العلم الإجمالي بالنجس.
ثمّ إنّـه قد يعلم أوّلا بنجاسـة الملاقى والطرف، وقد يعلم أوّلا نجاسـة الملاقي والطرف، وقد يعلم نجاسـة الملاقى والملاقي أو الطرف.
في أنّ ملاقي النجس نجس بعنوانه
الثاني:
أنّ الظاهر أنّ نجاسـة ملاقي النجس إنّما هي حكم وضعي تعبّدي ثابت لموضوعـه، ولا تكون من آثار النجس بحيث كان معنى الاجتناب عن النجس راجعاً إلى الاجتناب عنـه وعمّا يلاقيـه.
نعم يمكن أن يقال بأنّ تنجيس النجس الراجع إلى سببيّتـه لنجاسـة الملاقي يكون مجعولا شرعاً، بناءً على ما هو الحقّ من إمكان جعل السببيّـة، وأمّا السرايـة التكوينـيّـة فقد لا تكون متحقّقـة، كما لايخفى.
(الصفحة 148)
وبالجملـة: فظاهر مثل قولـه: «الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجّسـه شيء»(1)هو كون النجس منجّساً للماء الغير البالغ حدّ الكرّ وموجباً لنجاستـه، ومرجع ذلك إلى تأثيره شرعاً في نجاسـة ملاقيـه، وأمّا الحكم بأنّ معنى الاجتناب عن النجس هو الاجتناب عنـه وعمّا يلاقيـه فلا وجـه لـه وإن كان قد يستدلّ لذلك بقولـه تعالى:
(وَالرُّجزَ فَاهجُر )(2) لأنّ التهجر عن النجاسات لا يتحقّق إلاّ بالتهجّر عن ملاقيها، وبروايـة جابر الجعفي عن أبيجعفر (عليه السلام) أنّـه أتاه رجل فقال لـه: وقعت فأرة في خابيـة فيها سمن أو زيت، فما ترى في أكلـه؟ فقال أبوجعفر (عليه السلام):
«لا تأكلـه»، فقال الرجل: الفأرة أهون علي من أن أترك طعامي من أجلها، فقال أبوجعفر (عليه السلام):
«إنّك لم تستخفّ بالفأرة، وإنّما استخففت بدينك، إنّ اللّه حرّم الميتـة من كلّ شيء»(3).
وجـه الدلالـة أنّـه (عليه السلام) جعل ترك الاجتناب عن الطعام استخفافاً بتحريم الميتـة، ولولا استلزامـه لتحريم ملاقيـه لم يكن أكل الطعام استخفافاً بتحريم الميتـة، فوجوب الاجتناب عن شيء يستلزم وجوب الاجتناب عن ملاقيـه.
أقول :
أمّا قولـه تعالى:
(وَالرُّجزَ فَاهجُر ) فنمنع أوّلا أن يكون المراد بالرجز هي الأعيان النجسـة، وثانياً كون المراد بالتهجّر هو التهجّر عنـه وعمّا يلاقيـه.
- 1 ـ راجع وسائل الشيعـة 1: 158 ـ 159، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب9، الحديث1 و2 و5 و6.
- 2 ـ المدثّر (74): 5.
- 3 ـ تهذيب الأحكام 1: 420 / 1327، وسائل الشيعـة 1: 206، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب5، الحديث2.
(الصفحة 149)
وأمّا الروايـة ـ فمضافاً إلى ضعف سندها ـ يرد على الاستدلال بها أنّـه يحتمل قويّاً أن يكون مورد السؤال هو وقوع الفأرة في الطعام بحيث تفسّخت فيـه وانبثّت أجزاؤها، فحرمـة أكل الطعام إنّما هو من حيث إنّـه مستلزم لأكل الميتـة، والدليل على ذلك التعليل الواقع في الذيل الدالّ على أنّ ترك الاجتناب عن الطعام استخفاف بتحريم الميتـة، ضرورة أنّـه لم يقل أحد بأنّ حرمـة شيء تستلزم حرمـة ما يلاقيـه. وحمل الحرمـة في الروايـة على النجاسـة مضافاً إلى أنّـه خلاف الظاهر لا بينـة عليـه أصلا.
ودعوى أنّ الطباع تـتنفّر من أكل الطعام الكذائي الذي صارت أجزاء الميتـة مخلوطـة بأجزائـه فلا ينبغي حمل مورد السؤال عليـه، مدفوعـة بقول السائل: «الفأرة أهون علي من أن أترك طعامي من أجلها» خصوصاً بعد ملاحظـة حال الأعراب في صدر الإسلام، بل في الأزمنـة المتأخّرة، كما لايخفى.
فانقدح ممّا ذكرنا: أنّـه ما لم يقم الدليل على نجاسـة ملاقي النجس لم يفهم أحد من نفس الأدلّـة الدالّـة على نجاسـة الأعيان النجسـة نجاسـة ما يلاقيها من سائر الأشياء أيضاً، بل لابدّ من قيام الدليل على ذلك، وقد عرفت أنّ ظاهره جعل السببيّـة الشرعيّـة الراجعـة إلى تأثير النجس شرعاً في نجاسـة ملاقيـه، فتدبّر.
مقتضى الأصل العقلي في صور الملاقاة
الثالث:
يعتبر في تأثير العلم وكذا غيره من الأمارات المعتبرة أن يكون متّصفاً بالكاشفيّـة الفعليّـة ومؤثراً في التنجيز فعلا وصالحاً للاحتجاج بـه كـذلك، فلو حصل لـه من طريق أمارة معتبرة الحكم الواقعي ثمّ قامت أمارة
(الصفحة 150)
اُخـرى على وفق الأمارة الاُولى فلا تكون الأمـارة الاُخـرى بمؤثّرة أصلا، ويكون وجودها بمنزلـة العدم، لعدم اتّصافها بالكاشفيّـة الفعليّـة بعد حصول الكشف بسبب الأمارة الاُولى، وعدم إمكان تحقّق الكشفين بالنسبـة إلى شيء واحد، وكذا لاتكون مؤثّرة في التنجيز وقابلـة للاحتجاج بـه فعلا، لعدم إمكان التنجّز مرّتين واستحالـة تماميّـة الحجّـة ثانياً بعد إتمامها أوّلا، وكـذا بالنسبـة إلى العلم.
إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ العلم الإجمالي بالنجس المردّد بين الملاقى والطرف قد أثّر في التنجّز بمجرّد تحقّقـه، بمعنى أنّـه صار موجباً للاجتناب على أيّ تقدير، فالواقع صار مكشوفاً بهذا النحو من الكشف، وبعد ذلك نقول: إنّ العلم الإجمالي بنجاسـة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف لا يكون كاشفاً فعليّاً على تقدير كون النجس هو الطرف الآخر; لأنّـه صار مكشوفاً بالعلم الإجمالي الأوّل، وقد عرفت أنّـه لا يعقل عروض الكشف على الكشف وتحقّقـه مرّتين، كما أنّـه لا يكون هذا العلم الإجمالي مؤثّراً في التنجّز فعلا بعد كونـه مسبوقاً بما أثّر فيـه، وحينئذ فلا أثر لـه أصلا، فالشكّ في نجاسـة الملاقي شكّ بدوي. هذا إذا كان العلم الإجمالي بالنجس متقدّماً على العلم بالملاقاة.
وأ مّا لو علم
أوّلا بنجاسـة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف، ثمّ حصل العلم بالملاقاة والعلم بنجاسـة الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف فذهب المحقّق الخراساني في الكفايـة إلى عدم وجوب الاجتناب حينئذ عن الملاقى ـ بالفتح ـ لأنّ حكم الملاقى في هذه الصورة حكم الملاقي في الصورة السابقـة بلا فرق بينهما أصلا، فكما أنّ الملاقي هناك لم يكن طرفاً للعلم الإجمالي بالنجاسـة، كذلك الملاقى هنا لا يكون طرفاً لـه، كما هو المفروض.